سجلوا عندكم

سيدة خليل دبيس (1910-2001)

Views: 79

د. جان توما

كنّ جميعهن هنا يوم كانت الحارات تعجق بسيدات الصبحيّات المتواترة. لكن اللقاءات لم تكن تتمّ في البيوت، بل عند مداخلها حيث تتحوّل مصطبات المنازل إلى دوواين اللقاءات مع كراسي الخيزران، وفناجين القهوة، وقامات الأراكيل الواقفة شاهدة على أحاديث متنوّعة. لكن ” سيدة دبيس” كانت تحمل عدّة ” المتّة” معها وهي عادة درجت في الميناء من الأقرباء والأهل في الأرجنتين، مقصد مهاجري المدينة.هذه البيوت القديمة ما زالت على حالها. تفتح باب البيت لتلج إلى ساحة صغيرة قبل أن تدخل صالون البيت.

في هذه الساحات مع مدخل البيت الخارجي نسجت القصص كلها، وهنا كُتِبَ تاريخ المدن البحرية. راحت سيدات العفوية والبساطة والسرد ، ك “سيدة “زوجة عبدلله دبيس (1905-1982) الذي كان من عمال الميناء الحرفيين، القائم باكرًا إلى فاخورته يشتغل بالطين جرارًا وأباريق وغيرها قبل أن تندثر هذه المهنة وتكاد تنقرض.

تزوج “عبدالله وسيدة” عام 1930 وأنجبا باسيلي وادوار وجبرائيل ومريانا التي درست الطب في روسيا، وتزوجت من زميل لها فنزويلي لتستقرّ هناك في آخر الدنيا.

 

“سيدة”، كسيدات الميناء في النصف الأول من القرن العشرين، كانت  مؤمنة جدًا، طيبة القلب، مُحبة، مفتقدة الأهل والجيران بمودّة ، مؤمنة لدرجة كانت ترتاد الكنيسة في ليالي الشتاء القارس العاصف على الرغم من مرضها. تساءل كثيرون: لماذا تأتي باكرا إلى الصلاة وتجلس في المكان نفسه والكرسي نفسها؟ ولماذا تختار  المقعد الخامس من الجهة اليسرى في كنيسة مار جاورجيوس المبنية عام ١٧٣٢ لتجلس هناك مصلّية؟ كانت تجلس على هذا المقعد، لأنّ المقعد الذي أمامها يحمل لوحة صغيرة تشير  إلى اسم متبرعة به وتدعى “مريانا” على اسم ابنتها المهاجرة  “مريانا”، فكانت تجلس هناك لتحملها الصلاة إليها في غربتها لتخفف من شوقها وحنينها لرؤيتها، كما تحمل الأيقونات المصلّين إلى رحاب السماء. هذا وخصصت “سيدة” تكيّة في منزلها، في غرفتها،  للصلاة .

 حجّت إلى القدس، في أربعينيات القرن الماضي، كما كلّ أهل الميناء البحري، الذين كانوا يأتون من هناك بالكفن الأبيض والماء المقدس الذي احتفظت به أكثر من أربعين عامًا تبرّكا ودعاء إلى وفاتها وانتقل الإرث المقدّس إلى حفيد لها، برّاقًا في عالم الذكريات والبركات.

أحبّت سيدة زاروبها، وكان هو الأول والأخير. حدود الدنيا تبدأ هنا وتنتهي هنا. لذا لم تترك الميناء، أثناء الحرب في الثمانينيات، بل بقيت مع أيقوناتها تصلي لسلامة الناس وعافيتهم. كانت تفتقد أقرباءها مشيًا، إذ لم تألف الطرقات الجديدة، ولم يكن يحلو لها إلّا العبور من زاروب إلى زاروب كي تقف على أخبار رفاقها وأحبتها  قبل أن تصل إلى بيت من تقصد. (sweet-factory)

تعزية “سيدة” أن تخطيطًا مدنيًا ضرب بيتها على الخريطة منذ عشرات السنين. ماتت “سيدة” والتخطيط حتى تاريخه لم ينفّذ. ماتت “سيدة” مطمئنة أن زاروبها باق على شريانه المغلق ولم ينفجر طرقات غريبة ودروب سيارات.

ما زالت خطوات “عبدالله وسيدة” تعلو في هذا الزاروب الضيّق على أصوات السيارات وأبواق الحضارة والعمران.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *