والدايّ… مسيرة نضال على درب يوسف ومريم كم أفتقدكما!

Views: 1049

العميد الركن أنطون مراد

والدي الحبيب

منذ أن تفتّح فيّ الوعي وأنا أغوص في هذه الحياة علّني أكتشفُ بعض أسرارِها، أسئلةٌ كثيرة طرحتُها على نفسي، والسؤالُ الأهمُ الذي أطرحَه كلَّ يومٍ هو لماذا خلقنا الله في هذا العالم المملوء بالآلام؟ وما هو المطلوبُ منا لإرضائه؟

منذ أربعة وعشرين عاماً خسرت والدتي وكانت لم تبلغ الستين من عمرها فشعرت بألم كبير بانسلاخ إنسانٍ غالٍ وفي وقتٍ مبكرٍ جداً. ومنذ ستة أعوام غادرتنا يا أبي إلى دنيا الخلود فشعرت بالألم مضاعفاً لأنني بفقدانك فقدت الشريك الثاني والأخير في مؤسسة العائلة التي أوجدتني في هذه الحياة.

صحيح أن انتقالك إلى حضن الرب في عمر الخامسة والثمانين هو أمرٌ طبيعي أتقبّله بالعقل والإيمان، إلاّ أنه لا يمكنني إلاّ أن أتوقّف ملياً وأنحني أمام رهبة الموت، فخسارتك تعني لي نهاية حكاية عمرها خمس وثمانون سنة أمضيتها في النضال والشقاء وأسست خلالها مع والدتي عائلة كان همّكما تأمين السعادة والتربية الصالحة لها فقمتما بهذه المهمة بكل تفانٍ وقدّمتما التضحيات الجسام لدرجة محو الذات من أجلنا.

أتذكّرك يا أبي فيحملني الوفاء بين سطور الحكاية التي سطّرتها خلال سني حياتك فأجدها أسطراً ذهبية أفاخر بكل حرف منها، أتذكّر كيف كنت تحاول زرع الفرح في محيطك، تُشجّع على المحبة وتنبذ الكراهية والأحقاد.   لم أسمع يوماً أحداً يشتكي منك بل على العكس فقلبي يكبر عندما أسمع الأقارب والأصحاب يشيدون بك ويعبّرون عن محبّتهم وإحترامهم لك.

  كنت يا أبي مثال الأب الصالح، سرت مع والدتي على درب يوسف ومريم فكنتما تنتقلان بنا من مكانٍ إلى آخر هرباً من الأخطار وبحثاً عن العلم والمعرفة. لم يكن لديكما الكثير لكنكما أعطيتمانا كلَ ما كان لديكما، وبالإيمان والاتكال على الله أوصلتمانا إلى ما نحن عليه اليوم.

 

رافقتك يا والدي كما رافقت والدتي خلال فترة هامة من حياتكما فتعلّمت منكما كيف نساهم في المحافظة على جمال الحياة، ومنحني الرب نعمة مرافقتكما على درب الانتقال إلى الحياة الثانية فتعلّمت كيف يعيش الإنسان في المحطّة الأخيرة من حياته حين ينقطع الأمل بالشفاء ونقتنع بأن مرحلة الانتقال قد بدأت وجّلّ ما يمكننا فعله هو المساعدة في عبورها بهدوء وبأقل ما يمكن من الآلام.

ساعدتني هذه المرحلة في تثبيت قناعتي بأن الأمور الدنيوية من مالٍ وسلطة وأي شيء آخر لا يستحق كل ما نراه من تفكّك في العائلة والمجتمع وخلافات وخروج عن القيم والمبادئ، وعلّمتني أن الحياة في هذا العالم ما هي إلاّ محطّة نمرّ بها لنتحضّر للحياة الثانية والأبدية، أما ما هو مطلوب منا لإرضاء الله فعنوانه الرئيس المحبة وعناوينه الفرعية هي آلاف العبر التي يزرعها الله في دقائق حياتنا ولكن تبقى العبر لمن يعتبر.

رحلت يا أبي تاركاَ كل مال هذه الأرض على هذه الأرض، حاملاً معك فقط أعمالك الحسنة التي زرعتها خلال حياتك والتي أكسبتك رضا الله ومحبة الناس. أتذكرك بمناسبة عيد الأب، أشعر بقساوة فراقك أنت ووالدتي في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها وطننا الحبيب.

أرجو أن تبقى ترانا مع والدتي من عليائكما، لتريا سيرتنا الذاتية وتفتخرا بنا كما نحن نفتخر بكما. أفتخر بالتربية التي تربيتها على أيديكما ونقلتها إلى أولادي الذين يحملون ذكراكما ومحبتكما في قلوبهم.

لن ننسى فضلكما علينا، سنرافقكما دائماً في صلواتنا، ونعاهدكما أن نحافظ على السيرة الحسنة التي تربينا عليها والتي لا تجلب لكما إلاّ الدعاء بالرحمة.

وعلى أمل اللقاء بكما في جنة الخلود،

أعايد روحك بمناسبة عيد الأب، وأرجو الله أن يغمرك مع والدتي بعطفه ورحمته.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *