في رحيل شاعِر المَنهلَيْن ورجل المَنهَلِ الواحد

Views: 368

وليد شميط

ماذا يُمكن أن يُقال عن صلاح ستيتيّة وشِعره وفِكره ودَوره الثقافيّ بعد كلّ ما قيل وكُتب عنه وحوله في عشرات الكُتب والأطروحات الجامعيّة والأبحاث والدراسات والمقالات والسرديّات بلغاتٍ مُتعدِّدة؟

يُمكن أن يُقال الكثير، الكثير أيضاً وأيضاً…

ولكنْ حسبي هنا الاكتفاء بالتطرُّق إلى مَلامِح موجَزة في حياة الشاعر وشعره، وفي مسيرة الكاتِب وفكره، والتوقُّف خصوصاً عند دَورِه المميَّز في الحوار بين الحضارات والثقافات الذي شغل حيّزاً كبيراً من اهتماماته، ووجَد خير تعبير عنه في دواوين شعريّة وأبحاث فكريّة ونظريّة وتَرجمات صدرت بالفرنسيّة في 60 كتاباً، فضلاً عن 200 كِتاب مع فنّانين نُقل بعضها إلى لغاتٍ أوروبيّة عدّة.

“إنّه كنز”، كما يقول عنه الوزير الفرنسي السابق ورئيس مَعهد العالَم العربي في باريس جاك لانغ. وقد وجدَ هذا الكنز في فرنسا مَن يضعه في مصافّ الخمسة الكِبار من شعراء اللّغة الفرنسيّة مع راسين وهوغو وبودلير وفاليري، ومَن يَمنحه جوائز أدبيّة كبرى، ويُقلِّده أوسمة رفيعة، ويُكرِّمه ويَحتضن كُتبه ويَعرضها في مَتاحِف ومَكتباتٍ كبيرة مثل متحف بول فاليري في مدينة سيت، أو مَكتبة فرنسا الوطنيّة في باريس، التي أقامت له معرضاً ضمَّ العديد من الكُتب الفنيّة والطبعات الأصليّة لعددٍ من أعماله، فضلاً عن رسائل مُتبادَلة مع عددٍ من كِبار الأدباء الفرنسيّين والأوروبيّين، ووثائق شخصيّة مُختلفة تعطي لمحات غنيّة عن الشاعر وحياته ومَسيرته، تشكِّل ثروة أدبيّة وثقافيّة أهداها ستيتيّة للمَكتبة. وبهذا يكون أوّل شاعر عربي يدخل إلى هذه المؤسّسة العريقة الكبرى من بابها العريض.

بغياب صلاح ستيتيّة نخسر شاعراً كبيراً ومثقّفاً مُلهِماً ودبلوماسيّاً رفيعاً وإنساناً مُميَّزاً، تشرَّفت بصداقته وجَمعتني به علاقة مودّة وتقدير واحترام طيلة عقود أتاحت لي أن أتعرّف إليه عن قرب، وألمس ما يتحلّى به من كرمٍ إنساني وفكري، ومن تواضُع المثقّف الكبير، ومن مُثابَرة ونشاط دؤوب وحيويّة هادئة. كما أُتيح لي أن أُشارِك معه في مناسبات اجتماعيّة وثقافيّة مُتعدّدة، وأن أُسهِم في تنظيم لقاءاتٍ وتظاهراتٍ ثقافيّة عدّة تكريماً له، منها تظاهرة أقيمت في مدينة صيدا برعاية السيّدة بهيّة الحريري ضمَّت مَعرضاً لكُتب ستيتيّة، فضلاً عن أمسية شعريّة وندوات ولقاءات عدّة شارَك فيها جامعيّون ومثقّفون وشعراء في مقدّمهم الشاعر سعيد عقل والكاتِب والمُترجِم الإيطالي ماريو لوزي، ومنها أيضاً ندوة حول تراث طرابلس أُقيمت في مجلس الشيوخ الفرنسي في باريس، بمُبادرةٍ من رئيسة الجمعيّة الفرنسيّة للمُحافَظة على تراث طرابلس جومانا شهاب تدمري جرى خلالها تكريم صلاح ستيتيّة، وهو الذي شغل التراث في لبنان والعالَم العربي والعالَم حيّزاً كبيراً من اهتماماته، وخصوصاً عندما كان دبلوماسيّاً في باريس ومندوباً دائماً للبنان في منظّمة اليونسكو طيلة سنوات عدّة ترأَّس خلالها “اللّجنة الدوليّة من أجل إعادة المُمتلكات الثقافيّة إلى بلدانها الأصليّة وضدّ التجارة غير المشروعة بالتّحف الفنيّة”.

كيف وصلَ صلاح ستيتيّة إلى اللّغة الفرنسيّة أو بالأحرى كيف “وُلِد” في أحضان هذه اللّغة، وهو القائل “مثلما وُلدتُ في لبنان وُلدتُ أيضاً في اللّغة الفرنسيّة” ؟

كان لا يزال يافعاً عندما ذهب إلى باريس مُتسلِّحاً بإلمامه باللّغة الفرنسيّة التي تعلّمها في بيروت في ثانويّة القدّيس يوسف، وفي الجامعة اليسوعيّة ثمّ اللّبنانيّة. وفي باريس التحقَ بجامعة السوربون ثمّ في معهد الدراسات العليا، ونال إجازة في الحقوق ودبلوم الدراسات العليا في الآداب. وفي هذه المَراحِل كافّة، كانت اللّغة الفرنسيّة حاضرة باستمرار، وبدَورها كانت اللّغة العربيّة هي أيضاً حاضرة، وإنْ بأشكالٍ مُختلفة عبّر عنها في كلمة ألقاها بمناسبة منحه دكتوراه فخريّة في الجامعة اللّبنايّة في 17 نيسان (إبريل) 2013، بقوله: “صحيح أنّني أعيش منذ سنواتٍ طويلة في الخارج، وخصوصاً في فرنسا التي اعتبرها وطني الثاني، حيث أكملتُ دراساتي العليا التي كنتُ قد بدأتها في لبنان بتلقّي دروسٍ إلقائيّة على يدَي كبيرَين من أساتذة اللّغة العربيّة هُما توفيق شرتوني وفؤاد أفرام البستاني. وفي لبنان تعلّمتُ الكثير من أولئك الذين أسمّيهم المُعلّمين التلقائيّين، وفي مقدّمهم والدي محمّد ستيتيّة الذي كان مُتبحّراً بالعِلم، والعلّامة الكبير مصطفى العلايلي والشيخ محمّد حسين فضل الله، الذي كثيراً ما كنتُ أزوره عندما كنتُ مديراً عامّاً لوزارة الخارجيّة وذلك كي أتحدّث معه، وهو المعروف بسِعة آفاقه، وبعُمق آرائه في الفلسفة والشعر”.

ويجدر أن نذكر هنا أنّ ستيتيّة لعبَ دَوراً مُهمّاً في الصحافة الثقافيّة في أواسط الخمسينيّات من القرن الماضي عبر إشرافه على الملحق الأدبي الأسبوعي في صحيفة “لوريون” اللبنانيّة. وقد سعى في هذا الملحق إلى التعمّق بمَفاهيم الثقافة العربيّة أيّام شهدت بدايات الشعر العربي الحديث وبدايات الرواية العربيّة الجديدة. وكان ستيتيّة في العام 1957 أوّل مَن نقلَ إلى اللّغة الفرنسيّة قصّةً لنجيب محفوظ هي “أبحث عن زعبلاوي”، ونَشر في “لوريون الأدبي” أولى ترجماته من الشعر العربي الحديث إلى الفرنسيّة. وجعلتْه اهتماماته الثقافيّة يُتابع أيضاً السينما، فشاركَ في العام 1957 بتأسيس “نادي سينما بيروت” الذي كان أوّل نادٍ سينمائي في لبنان لعب لاحقاً دَوراً مهمّاً في تأسيس “المَكتبة اللّبنانيّة للأفلام – متحف السينما” (السينماتيك).

شاعر المَنهلَيْن

هل يخون صلاح ستيتيّة الوطن ومعه اللّغة العربيّة والثقافة العربيّة لأنّه يكتب بالفرنسيّة؟ هل هو شاعر فرانكوفوني؟ لا يحبّ ستيتيّة كلمة “فرانكوفونيّة”، وهو الذي منحته الأكاديميّة الفرنسيّة سنة 1995 جائزة الفرانكوفونيّة الكبرى.

يقول في كِتابه “شاعر المَنهلَين” : “أنا أكتب باللّغة الفرنسيّة، وكلبناني أقول إنّ لبنان قد عبَّر عن نفسه في العديد من مَيادين الإبداع، منذ أكثر من قرن، باللّغة الفرنسيّة. بديهي أنّ لغة لبنان الوطنيّة والرسميّة، لغة التعبير العفوي، هي العربيّة، اللّغة المُتجذّرة عميقاً في التاريخ وفي الفكر، والتي أعطت في لبنان وخارجه، شعراء وفلاسفة جديرين بالقراءة وجديرين بالمُساءَلة المُعمَّقة”.

فَهِم ستيتيّة، وهو في العشرين من عمره، أنّه إذا ما أراد أن يكون متميّزاً في اللّغة وفي الأدب الفرنسي، فعليه أن يأتي بمفهومٍ جديد وبنكهة غير معهودة في اللّغة الفرنسيّة. والأهمّ من ذلك، فَهِم أنّ ما يحتاج إليه في حلبة الصراع، ليس اللّغة الفرنسيّة، ولا الثقافة الفرنسيّة وإنّما اللّغة العربيّة والثقافة العربيّة.

وإذا كان ستيتيّة يبحث في شعره عن جوهر الوجود، ويذكّرنا بالأسئلة الأساسيّة التي كانت ولا تزال وستبقى مطروحة على الإنسان، فإنّه في تجربته مع اللّغة يؤكّد أنّها من أبدع أسرار الإنسان وأروعها. فلا ماديّتها تجعل منها مرآة لما هو غير مادّي في الإنسان، والإنسان إنّما هو ابن لغته، وهو في حوار دائم معها. هذه الحقيقة أَوصلت ستيتيّة إلى قناعة ثابتة، وهي أنّه إذا ما أراد الشخص أن يتحلّى بشخصيّة مميّزة، فلا بديل له عن صوت الأرض وإرث الأجداد. غير أنّ هذا وحده لا يكفي، لأنّ التمسُّك الأعمى بصوت الأرض وإرث الأجداد يعني التحجُّر. ومع التحجُّر تختفي الحياة. فالتحجُّر هو العدوّ الأساسي للحياة التي لا بدّ من أن تتجدّد على الدوام، وأن تتحرّك وتتفاعل مع كلّ الإشارات الآتية من الحاضر والمستقبل.

ربّما كان من أهمّ ما قام به صلاح ستيتيّة في تصادمه الأوّل مع الغرب أنّه التحق، وفي آن واحد، بدراسة الأدب المُعاصِر في جامعة السوربون، وتابَع دروس المُستشرِق الكبير لوي ماسينيون عن الصوفيّة، وبصورة خاصّة، عن الحلّاج وابن عربي، في معهد الدراسات الشرقيّة التّابع لجامعة باريس. هذه الازداوجيّة في البحث عن الشرق غرباً وعن الغرب شرقاً، كانت الطريق الصعب، ولكنْ الثريّة التي اختارها ستيتيّة. ولعلّ الشاعر كان أفضل مَن عبَّر عن هذه الصعوبة في كِتابه المذكور “شاعر المَنهلَين” بقوله: “إنّ الابتعاد عن الثقافة الأصليّة، هو اقتلاع وجرح، ولا يُكسب هذا الابتعاد أيّة قيمة اذا لم يكُن تقدّماً نحو الآخر من دون أن يكون في أيّ حال تنكُّراً للذات. عندما توجد ثقافتان معاً في قلب واحد، في فكر واحد، في كائن واحد، فإنّهما تُحدثان فيه تغيّرات ومَعابِر وتركيبات واكتمالات وانقسامات وتمزّقات. ويفرض هذا على الإنسان أن يبذل مجهوداً كي يتقبّل خيانة كلّ من وجهَي شخصيّته كي يبقى وفيّاً لنفسه وكي يحاول أن يجعل من ترسيخ جذوره اقتلاعاً لها، ومن اقتلاعها ترسيخاً جديداً لها”.

إلى أيّ حدّ نَجح ستيتيّة في هذه المُواجَهة، في هذا التحدّي؟

ما من شكّ في أنّه نجح إلى حدّ كبير. فإذا كان جبران خليل جبران، في أيّامه، قد أتى برسالة روحيّة إلى أميركا في عصر المادّة، ربّما يكون صلاح ستيتيّة قد أتى برسالة أخرى هي أيضاً تروي عطشاً، ولا ماء يروي مثل هذا العطش. وها هو الكاتِب الإيطالي ماريو لوزي، في مقدّمته لكِتاب “صلاح ستيتيّة، الشاعر، الشعر”، دار كلينكس – باريس – 1999، من تأليف الشاعر والكاتِب الإيطالي أيضاً جيوفاني روتولي، يقول: “قد يكون الغرب بحاجة إلى شيء آتٍ من الشرق، شرق الروحانيّات، لكي يُذكِّر الغربيّين بجوهر الأمور بعدما ابتعد عن هذا الجوهر لأسبابٍ مُرتبِطة بتكوينه العِلمي والعلماني والتقني والتكنولوجي الذي يتحكّم به ضغط المسائل الاقتصاديّة”.

من الطبيعي أن يكون ستيتيّة قد وَجَدَ “شرق الروحانيّات” في وطنه لبنان وفي الحضارة العربيّة الإسلاميّة وجذورها الثقافيّة ومَنابِعها الروحيّة.

هويّة وجذور

من لبنان التعدديّة والانفتاح على الآخر تعلَّم ستيتيّة الكثير، وقد عبَّر عن ذلك بتوسُّع في كِتابه “لبنان الجمع” الذي تناول فيه خصوصيّات لبنان وثقافته “المضيافة” (دار نوفيل، باريس، 1994). وفي كلمة ألقاها في الجامعة اللّبنانيّة بمناسبة مَنْحه دكتوراه فخريّة (17-4-2013) ، قال: ” لقد بدا لبنان لي على الدوام بطوائفه التسع – عشرة وتكويناتها المتعدّدة، مدرسة رحبة للنضج الفكري والصفاء الروحي. وكثيراً ما رأيتُ فيه مُختبراً للنفوس. كان هذا لبنان الأمس وسيتكرَّر إن شاء لله. لبنان هو مدرسة للحكمة والحدْس لكلّ الباحثين عن المعنى، عن معنى الحياة، عن علوم دروب الروح. كنتُ، وأنا على مقاعد الدراسة، شديد الانتباه لهذا الدرس الإنساني والأدب الإنساني الذي تعلَّمته من مدرسة لبنان”.

على مقاعد الدراسة تعلَّم الشاعر ستيتيّه الكثير عن لبنان، وعلَّمته الحياة، وخصوصاً من خلال تجربته كدبلوماسي وكمُديرٍ عامّ لوزارة الخارجيّة الكثير أيضاً عن لبنان الذي واجه ويواجه اليوم مُشكلات وصعوبات كبيرة وخطيرة. وتعلَّم أيضاً أنّ “بلداً كلبنان لا يموت أبداً”، كما يقول في كِتابه “شاعر المَنهلَيْن”، ويضيف: “على امتداد تاريخ دام آلافاً من السنين، وعبر أعنف التقلّبات، عَرِف دائماً كيف يُقاوِم بصورة رائعة في النار والاختبار. سوف يُعيد بناء ذاته بكلّ تأكيد وبشكل أقوى ممّا كان عليه. وذلك يعود بالتحديد للاختبار الذي يجتازه. إنّه بلد يمتلك إمكانيّاتٍ بشريّة وفكريّة لا تستطيع سوى قلّة من البلدان أن تتباهى بامتلاك مثلها. وأنا مُقتنع بأنّ هذه القدرة التي يتمتّع بها اللّبنانيّون في المُقاوَمة والمُبادَرة والإبداع سوف تتيح لهم أن ينهضوا أشدّ قوّة من المأساة التي ألمَّت بهم”.

وكم هو محقّ رواد طربيه في تقديمه لديوان ستيتيّة “حمّى الأيقونة وشفاؤها”، بقوله: “صلاح ستيتيّة الفرنسي الكتابة، لبناني الأصل والفصل والانفتاح، عربيّ الانتماء في مَصادِر روحيّة، مُسلِم إيماناً على تمكُّنٍ من المسيحيّة نَدُرَ لدى المُسلمين. لذلك دخل الشعر الفرنسي من بوّابته الكبرى فاغتنى وأغنى”.

استطاع ستيتيّة العودة إلى ذاته بواسطة اللّغة الفرنسيّة في “ليل المعنى” : “على الرّغم من بعدها عن أصولي الحضاريّة، فذاتي – شئت ذلك أم أبيت، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالجذور، بالمعاني والمبنى، بالمخيّلة الروحيّة والمعنويّة، أي بالحضارة العربيّة الإسلاميّة”.

من هنا التركيز على البُعدَين الحضاري والثقافي في الإسلام وقوله في كِتابه “محمّد” (2000) الذي ضمَّنه سيرة النبي محمّد: “إسلامي هو إسلام ثقافي. وُلدت في هذه البيئة التي أنتمي إليها بعائلتي، بجذوري، وبقسم لا يستهان به من هويّتي الفكريّة والروحيّة. لا أسعى من خلال التأكيد على هذا الانتماء إلى أيّ استنتاج بعَينه، سوى أنّ الأمر بكلّ بساطة يُطمئنني تجاه نفسي وتجاه الآخرين في هذه الظروف الصعبة التي تُواجِه الإسلام وشعوبه”. الظروف صعبة فعلاً في وقت تزداد فيه شراسة الحملات المُعادية للإسلام بغية الإمعان في تشويه صورته. وهذا بالذّات ما يؤكِّد عليه ستيتيّة في كِتابه “نور على نور، الإسلام المُبدع” بقوله: “لقد حصل تشوّه منهجي لصورة الإسلام من قِبل كلّ مَن وَجد مصلحة في ذلك. بات تصحيح تلك الصورة واجباً على المُسلمين أوّلاً وعلى الآخرين ثانياً. الإسلام بعيد عمّا يُحاول البعض أن يصوّره. هذا ما يجب قوله وكِتابته”.

هذا ما فعله ستيتيّة في “نور على نور” الذي أراد منه لفْت الانتباه إلى خصوبة فلسفة الوجود في الإسلام وإلى العديد من أشكال إبداعها الخاصّ. وهو إذ يأتي بأجوبة وافية، فإنّه أيضاً يطرح أسئلة كثيرة تتناول جوهر الكلام والمعنى، جوهر هذه الفلسفة التي تعمَّق بها الشاعر وقَطَف منها ما طاب له، وانطلَقَ من مَراجِعها الصوفيّة كي يكوِّن لغته الشعريّة. وربّما يأتي شعر ستيتيّة كامتدادٍ لاختبارٍ صوفي، كما أتى على لسان الحلّاج وجلال الدّين الرومي وعمر ابن الفارض ومحي الدّين ابن عربي وغيرهم من الذين كوَّنوا عنده مَراجِع أساسيّة وتَرجَم لهم وذَكرهم في نصوصه واستشهدَ بهم في أبحاثه.

ومن المؤكَّد أنّ شعر ستيتيّة أفاد أيضاً من أبعاد الحضارة الغربيّة وبصورة خاصّة من أبعاد الإبداع الفرنسي منذ بودلير ومالارميه ورامبو، وقد كتبَ كُتباً عدّة عن هؤلاء المُبدعين من منطلق ثقافته العربيّة. وأدّى ذلك إلى شيءٍ من التجديد في نظرة الغربيّين إلى شعرائهم وإلى الشعر الحديث في أوروبا عموماً.

أدونيس وشعر ستيتيّة

لم يَغِب الشعر العربي بالطبع عن اهتمامات ستيتيّة، فكتبَ حول الشعراء وشعرهم، وارتبط بعلاقات صداقة مع عددٍ منهم، ونقلَ إلى الفرنسيّة كِتاب “النبي” لجبران خليل جبران في 1992، وكِتاب “التحوّلات والهجرة” لأدونيس، و”قصائد جيكور” لبدر شاكر السيّاب عام 1998، وقدَّم لقرّاء اللّغة الفرنسيّة بعضاً من شِعر مَن أسماهم “حملة النار” من شِعر الحداثة العربيّة: محمود درويش، أنسي الحاج، خليل حاوي، محمّد الماغوط، فدوى طوقان، عبد الوهّاب البيّاتي، شوقي أبو شقرا، طلال حيدر… وبدَوره حظيَ ستيتيّة باهتمام عددٍ غير قليل من الشعراء والكُتّاب الذين كتبوا عنه وترجموا بعضاً من كُتبه وقصائده، ومنهم كاظم جهاد، محمّد السرغيني، جاك الأسود، مروان فارس، جواد صيداوي، مصباح الصمد… وخصوصاً صديقه أدونيس الذي تَرجم له “الوجود الدمية” (دار الآداب، بيروت، 1983)، وكَتب عنه في تقديمه لكِتابه “حمّى الأيقونة وشفاؤها” (1996)، يقول: “تتقدّم لغته في فجر الصورة، طالعة من ليل المعنى، ينحني اللّيل عبر كِتابته، احتفاء بقراءتها. الشعر فكر والفكر شعر (…) لن تعرف كيف تقرأه، إلّا إذا كنتَ تعرف الوقوف على شفير الكلام. الكتابة هي أيضاً غور سحيق من الضوء، كِتابة كمثل حقلٍ من البَراعِم تتفتّح فيما تقرأها. ولها في كلّ قراءة تفتُّح مُختلف (…) كتابة لا تبرد، لا تروي: تقيم في أحضان اللّغة، في حوضها الحميم، رحماً داخل الرحم، ودائماً على أهبّة الولادة”.

بليغة شهادة أدونيس في شعر ستيتيّة، تُعبِّر إلى حدّ بعيد عمّا يكنّه شاعرٌ كبير من تقدير واحترام لشاعرٍ كبير. ومثل هذا التقدير والاحترام وجده ستيتيّة أيضاً لدى الكثيرين من الشعراء والأدباء العرب، وكذلك لدى الكثير من الشعراء الفرنسيّين والأوروبيّين الذين يعترفون أنّ ستيتيّة يكتب شعراً هو من أجمل وأعمق ما يُكتب بالفرنسيّة، ويركّزون على جذور الشاعر اللّبنانيّة والعربيّة، وعلى الينابيع والمَناهل الثقافيّة والروحيّة التي ينهل منها. وقد عرف كيف يحتفظ بما في جذوره الأدبيّة من ثروة في المعنى وفي التعبير والفكر، من دون أن يعني هذا الانغلاقَ على الذات أو التوقّفَ عن التزوُّد من تجارب الآخرين ومن قيَمهم.

بهذا فإنّ ستيتيّة، في سعيه المكثّف إلى الأصالة وإلى الجوهر، يعطينا درساً في الانتماء الحقيقي، العميق، ودرساً في كيفيّة التعامُل مع لغة الآخر وثقافته وحضارته من دون خسارة الذات والهويّة. إنّه “الوسيط” الذي عرف كيف يجعل من إنتاجه ومن إبداعه جسراً بين حضارتَين في زمنٍ تزداد فيه الحاجة إلى جسورٍ تلتقي عندها الحضارات والثقافات، ويلتقي عندها البشر. إنّه دَور الوسيط “الموفِّق” بين حضارتَين وثقافتَين. في العام 1985 كَتَبَ أندريه بيار دي مانديارغ يقول: “صلاح ستيتيّة هو أخٌ عصريّ لأولئك المثقّفين العرب الذين نقلوا إلى الغرب قبل نحو ألف عامٍ علومَ الفلسفة والرياضيّات التي ضاعت منّا في ليل البربريّة. وصلاح ستيتيّة، في زمننا هذا، هو أحد أكبر شعراء اللّغة الفرنسيّة، على الرّغم من أنّ هذه اللّغة ليست في الأصل اللّغة التي وُلد فيها وترعرع”.

أمّا المُستعرِب الكبير أندريه ميكال فيسأل: “حتّى عندما يكون الشاعر مثلك يا صلاح، أن يختار الفرنسيّة، فهل يكفّ لهذا أن يكون عربيّاً؟” والحقيقة أنّ أندريه ميكال، وهو المُتعمّق بالثقافتَين الفرنسيّة والعربيّة، لا يطرح سؤالاً بقدر ما يريد أن يؤكِّد على عُمق الجذور العربيّة في كِتابات صلاح ستيتيّة.

من هنا أهميّة مَسيرة صلاح ستيتيّة. فشاعر المَنهلَيْن، هو في الحقيقة رجل المَنهَل الواحد. فهذا المُبدِع اللّبناني، الفرنسي، العربي، المُسلِم، المتوسّطي والإنساني، تتشكّل في فكره ومَسيرته وهويّته، قيمة ثقافيّة لبنانيّة وعربيّة وفرنسيّة مميَّزة.

***

 (*) كاتب وصحافي من لبنان

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *