وليم صعب ودعوته إلى توحيد العامّيات العربية: ما تَعنيه وما لا تَعنيه (3 من 5)

Views: 498

نَنشر هنا الفصل الخامس من كتاب د. أديب صعب عن والده: وليم صعب شاعر القضايا الأزلية، الصادر في منشورات جامعة البلمند عام 2015. ويدور الفصل على الدعوة التي أطلقها وليم صعب ودافعَ عنها، في شعره كما في تنظيره عن الشعر الشعبي، مطلقاً عليها اسم “توحيد العامّيات العربية”. في تفسيره لهذه الدعوة: ما تعنيه وما لا تعنيه، يفتتح أديب صعب باباً جديداً في دراسة الشعر الشعبي، هو باب الدراسة المقارَنة. وتتناول مقارنته، على وجه الخصوص، أوزان الشعر الشعبي في لبنان وفي بعض البلدان العربية، خصوصاً مصر وتونس. (الحرف “د” في النصّ يشير إلى كتاب وليم صعب الديوان، والحرف “ح” إلى كتابه حكاية قرن).

 

 

 

د. أديب صعب

أهمّ ما تعنيه الدعوة إلى توحيد العامّيات العربية هَجْر العبارات والتراكيب التي لا تنسجم مع القاموس العربي العام. هذا لا يعني، بالطبع، أن يفتح الشاعر القاموس بحثاً عن كلماته. فلا الشاعر الذي يكتب بالفصحى ولا الذي يكتب بالعامية يلجأ إلى هذا الأمر. لكنه يعني أن يتجنب الشاعر العبارات المحلية والاقليمية المستمَدّة من لغات غير العربية، مفسحاً المجال لشعره كي يُفهَم لا في البلدان العربية الأُخرى فحسب، بل في بلده هو أيضاً. ولسنا نجد بلداً، عربياً أو غير عربي، لا تختلف لهجاته قليلاً من منطقة إلى أُخرى. وفي مقابلة مع مجلة “الصباح” المصرية عام 1945، قال وليم صعب “إنّ في لبنان أكثر من ثلاثين لهجة منتشرة بين الساحل والجبل بحيث تجعل بعض المفردات غريبة عن الأسماع. فكيف يكون الأمر، إذاً، بين بلدين مختلفين؟” (ح، 91). وكان، في أحد مقالاته النقدية، أشار إلى بعض ألفاظ محلية في الزجل المصري، مثل “هردبيس” و”قادوس” و”زكيبه”، لا تُفهَم خارج بيئتها، ولا حتى في مصر كلها40. وفي كتاب بعنوان “الشعر الشعبي التونسي”، نقرأ أنّ هناك اختلافاً في بعض الألفاظ بين أنحاء البلاد، مما يجعل تفسير هذه الألفاظ ضرورياً: فهناك “ألفاظ يستعملها أهل الشمال ولا يستعملها أهل الجنوب، وأكثرها من الدخيل الايطالي والفرنسي والاسباني”. وقد يكون هذا الاختلاف في اللفظ أحياناً، مما يستدعي وضع الحركات41. ويرى المؤلف محيي الدين خريّف أنه “كلما شفّت اللغة وقربت من اللغة العربية الأُمّ كانت أقرب في التوصيل وأنجع إلى أداء رسالتها التبليغية وأبعد أثراً في الانتشار والذيوع بين الناس”42. وفي كتاب بعنوان “الأدب الشعبي”، نقرأ أنّ العامية المصرية جَمعت، إلى الألفاظ العربية الأصيلة، عدداً من الألفاظ القبطية والتركية والفارسية والأُوروبية43.

   هذا شرطٌ ضروريّ جداً. ولعل مراعاة الشعراء الشعبيين اللبنانيين له أكثر من سواهم خارج لبنان في رأس العوامل التي تميِّز الشعر الشعبي الذي كتبه اللبنانيون عن كثير من الشعر الشعبي في بلدان عربية أُخرى. وطالما أشار صعب إلى بعض الكلمات العامية البليغة التي تؤدّي معاني وصوراً رائعة، وهي من خارج القاموس العامّ. ومعظم هذه الكلمات، كما ذكرنا في ختام الفصل السابق، أفعال رباعية، مستمَدّة أحياناً من لغات ساميّة أُخرى مجاورة للعربية، مثل: شَرْقَط، ومن معانيها توهَّج أو تألّق او بَرَق؛ لَوْهَج، وهي تفيد معاني تلويح النور؛ بَشْنَق، بمعنى لفَّ أو زنَّرَ؛ شَوْهَر، بمعنى استرَقَ النظر؛ سَوْسَح، بمعنى سَحَر… وفي أواخر العام 1938، وَجَّهَ كتاباً مفتوحاً إلى رؤساء المجامع العلمية العربية، مقترحاً عليهم “إدخال بعض الكلمات من عامّيات اللغة العربية، المأنوسة منها، إلى هذه اللغة”، مثل العبارات المذكورة أعلاه، إنْ لم يكن “في القاموس ما يعبِّر تعبيرَها ويدلّ مدلولها” (ح، 132-133)44.

 

   في العامّية اللبنانية، كما في كل العامّيات العربية، عبارات محرَّفة عن الفصحى. من هذه العبارات في اللهجة اللبنانية:

– “حاج” أو “حاجي”، بمعنى “يَكْفي”. وهي مشتقّة من الحاجة.

– “كِرْمال”، بمعنى “من أجل” أو “إكراماً لِـ”. وهي مشتقة من كرامة أو كرْمى لِـ.

– “بَدّي”، بمعنى “أُريد”. والبُدّ هو النصيب، والبَداة هي النزوة أو الهَوى.

– “مِدْري”، بمعنى “تُرى” أو “أتَدْري”. وهي من دَرى، يَدري.

– “تِخْمين”، بمعنى “أظنّ” أو “تُرى”. وهي من خَمَّنَ.

– “إصحا”، بمعنى “اِحْذَرْ” أو “إيّاك”. وهي من صَحا، يصحو. ومثْلُها “أُوعى”، من وَعى.

– “صفَّى”، بمعنى “أصبحَ”. وأصلها صَفا، أي خلَص أو بلغ خلاصته.

– “حَوْسِه”، بمعنى “أتْباع”. وفعل “حاسَ” يعني خالَطَ أو عاشَرَ. والحَوْسة هي المعشر.

– “يَمّا”، نقلاً عن “إمّا”.

– “هَوْن”، نقلاً عن “هُنا”؛ و”هَوْنيك”، نقلاً عن “هُناك”.

– “تا”، اختصار “حتّى”، أي لكَي.

– “عا”، اختصار “على”.

لكنّ اشتقاق العبارات العامّية المذكورة وسواها من الفصحى لا يعني أنها مستعمَلة في اللهجات العامّية خارج لبنان أو بلاد الشام. وهذا يصحّ على عبارات عامّية كثيرة في لهجة عربية أو أُخرى محرَّفة، هي أيضاً، عن الفصحى، من غير أن تكون مستعمَلة في كل العامّيات العربية.

   أما تقطيع الشعر الشعبي وزنياً فلا يشذّ عن تقطيع الشعر الفصيح. وهو، مثله أيضاً، تقطيعٌ صَوتيّ. لكن يجب أن نلاحظ بعض أُمور في تقطيع الشعر الشعبي، منها الآتي:

– اللفظ الدارج يسمح ظاهرياً بالتقاء ساكنَين في غير القافية، كما نجد تقريباً في كل شطر أو بيت من الشعر الشعبي. لكنّ هذا الالتقاء لا يصحّ عند التقطيع. ولْنأخذ هذا الشطر مثلاً على ما نقصد: “ﭐلْجِنْفَيصْ ما بْيِتْرَقّع بْشَقْفِة حَرير”. حرف الصاد في “الجنفَيص” يُلفَظ ساكناً في القراءة أو الإلقاء، وإنْ وقَع بعد ساكنٍ هو الياء. لكن يجب كسر الصاد عند التقطيع منعاً لالتقاء الساكنَين. وهذا يحصل فعلاً عند تلحين الشطر المذكور وغنائه، كما هي الحال في الزجل المنبري. أيضاً يُلفَظ الساكن في أول هذا الشطر، وهو “ﭐلْـ”، ساكناً، في حين لا يصح البدء بساكن. لذلك يبدأ التقطيع الوزني مع حرف الجيم، أي “(ﭐلْـ) جِنْفَيْص”. أما الساكنان في القافية، وهما الياء والراء في “حَرير”، فجائزان كما في الشعر الفصيح.

– ثمة ملاحظة أُخرى في الشطر نفسه، هي خَطف حرف الألِف من “ما”، بحيث تصبح الكلمة في سياق تقطيعها الوزني “مَـ”، أي “مَـ بْيِتْرَقَّع”. وهذا يصحّ على أحرف العلة الثلاثة كلها، الألِف والواو والياء، إذ يجوز خطفها في تقطيع الشعر الشعبي. ففي “وَيْنَك يا عيسى تْشوف هالكفْر القَبيح”، تُقطَّع “يا عيسى” هكذا: “يَـ عيسى”. وهنا شطرٌ يحتِّم وزنُه خطف حرف علة آخر هو الياء: “تيهي بْجُنونِك وﭐشمَخي وِتْغَنْدَري”، وذلك في كلمته الأُولى “تِيهي” حيث يغدو التقطيع هكذا: “تِيْهِـ (ي) بْجُنونِك…”.

– كما في الشعر الفصيح، يجوز في الشعر الشعبي تسكين حرف متحرك أو تحريك ساكن عند الضرورة الوزنية. ففي هذا الشطر: “عَصْفور قَلِّب جانِحَيْكِ عْلى الجَلَد”، سُكِّنَ حرف العين في “على” لاستقامة الوزن. وفي “شَجَرْةِ المَجد من دَمّو سَقاها”، سُكِّنَ حرف الراء في “شَجَرْةِ (المَجْد)” للسبب نفسه. ونجد هذا في “تِبْلى الجَواهِر بَعْد جَوْهَرْةِ الأمير”، حيث سُكِّن حرف الراء في “جَوهَرْةِ (الأمير)”.

– تقتضي استقامة الوزن أحياناً تحويل همزة الوصل في “ألْـ” التعريف إلى همزة قطع عند وقوع التعريف في بداية الشطر، كما في هذه الأمثلة: “إِلْوَحْش ما بْيِفْتُك بِجِنسو لُو ﭐعتَدى”؛ “إِلْعيد ذكرى للتأمُّل والوَعي”؛ “إِلْبِنْت لازِم تِرْتدِع عن غَيّها”. لكن في هذه الشطور الثلاثة كلها، يمكن تنحية “ألْـ” التعريف عند التقطيع، مع تحويل الرجْز – وإنْ تجاوزاً – إلى رمَل.

 

   نكتفي بهذا المقدار من الملاحظات، علماً أنّ تقطيع الشعر الشعبي في أيّ لهجة عربية أُخرى يخضع لمعايير مماثلة لكي ينسجم مع الأوزان الشعرية الخليلية ومشتقّاتها. 

   ونقرأ عند وليم صعب مرّة بعد مرّة أنّ العامّية بنت الفصحى، وأنْ لا خوف على الفصحى من العامية، وأنّ حماية العامّية هي، في الوقت نفسه، حماية للفصحى خوفاً من أن يتسرّب إليها من العامية غير المهذَّبة ما هو مرذول لغةً وذَوقاً. وهو يدرك تماماً أنّ الفصحى لغة باقية، وأنّ العامّيات العربية لهجات باقية في ظل الفصحى. لن أُناقش هنا ما إذا كانت العامّيات العربية “بَنات” الفصحى أو “أخَواتها”: أي: هل كانت الفصحى يوماً ما لغة الناس العاديين ولغة الخطاب اليومي، أم هل بُسِّطَ هذا الخطاب على مراحل حتى تكوّنت العامّيات وصار بعضهم يستعملها للتعبير الشعري؟ هذا موضوع جدير بالبحث، على ما يكتنفه من تنظير وتخمين واجتهاد. لكنه يقع كلياً خارج نطاق دراستنا، وإنْ كان الترجيح الأول، وهو أنّ العامية “بنْت” الفصحى، أقوى، بحجّة أنّ النماذج الزجلية الأُولى التي وصلت إلينا، من صفيّ الدين الحلّي وسواه، تحافظ على بعض علامات الإعراب. المهمّ أنّ اللهجات العامية هناك، في طول العالم العربي وعرضه، وأنها كلها، بلا استثناء، تحمل شعراً متفاوت الجودة، لكنّ بينه عدداً كبيراً من الروائع، تماماً كما نجد في الفصحى. ولا شك أيضاً أنّ الارتقاء بالعامية من شأنه صيانة رقيّ الفصحى. إلّا أنّ إصرار صعب على الارتقاء بالعامية من أجل الفصحى ينطوي على شيء من التبرير أو الدفاع. فاللهجات العامّية موجودة منذ زمن بعيد جداً، وفيها مقدار كبير من عيون الشعر. والارتقاء بالعامّية يمكن أن يحصل بغضّ النظر عن الفصحى وباستقلال تام عن هدف حمايتها.

   غير أنّ نفَراً من المغالين تصدّوا آنذاك للشعر الشعبي بحجّة أنه يقوّي العامية على الفصحى ويرفع في وجهها تهديداً قد يؤدّي إلى إضعافها وملاشاتها. وكان هجوم بعضهم مبرَّراً في وجه الداعين إلى التخلّي عن اللغة العربية الفصحى واعتماد العامّيات مكانها. ولئن دعمَ بعض هؤلاء موقفهم علمياً بناءً على أنّ اللغة كائنٌ قابل للتطور أُسوةً بالكائنات الأُخرى، وأنه يجب اعتماد العامّيات العربية بدل الفصحى وفق قاعدة التطور، إلّا أنّ مواقف بعضهم صدرت عن عداء لكل ما هو متّصل بالعروبة. ومن هذه المواقف الدعوات الانفصالية، كالفينيقية والسريانية والقبطية والبربرية.

   لكن مهما يكن الأمر، فلا يجوز التغاضي عن الشعر الشعبي لما فيه من روائع. ولن يستطيع محاربو هذا الشعر فعل أيّ شيء لمنعه بعدما انتشر في كل بلد عربي، وكُتب به العدد الأكبر من الأغاني، ونُشرت مجموعاته وانتشرت، وصارت الصحف اليومية وسواها تُفرِد له صفحات سخيّة وتعتزّ بإبرازه، وخُصِّصَت له محطات تلفزيونية فضائية. وإذا أُجْرِيَ إحصاءٌ دقيقٌ اليوم، فلعلّنا واجدون – وهذا مما قد يؤسَف له – أنه كَسَفَ الشعر المُعْرَب وبات الشكل الطاغي على الكتابة الشعرية. 

   وفي كتاب “الأدب الشعبي” المذكور أعلاه، وهو كتابٌ رائدٌ ومن الكتب النادرة الممتازة في موضوعه، بالرغم من أنّ عدم تشكيل مختاراته الشعرية الكثيرة أفقدَها معظم قيمتها، يردّ المؤلف أحمد رشدي صالح بحجّة قوية على محاربي اللهجة العامية والشعر المكتوب بها، مستذكراً ملاحظة ابن خلدون أنّ “جمهرة المشتغلين بالأدب على أيامه كانوا ينكرون العامّيات لنبوّها على قواعد النحو والصرف، وينكرون آدابها لأنّ معانيها عاديّة لا ابتداع فيها”45. ويعلن أسفه لأنّ هذا الرأي ما زال يجري على ألسنة دُعاة “الأدب الرسمي”، ومنهم أحمد الشايب، أحد أساتذة الأدب في جامعة القاهرة، الذي ينقل عنه صالح “شيوع الخطأ اللفظي والخروج على قواعد النحو” في العامّية، “وما غلَب على معانيها من التفاهة والعرف”46. ويرى صالح أنّ هذا الموقف السلبي لا يضير الأدب الشعبي: “فسَواءٌ احتذاه النفَر المتعلمون وباركه دارسو الأدب الرسميون أو صدّوا عنه وحذَّروا منه، فهو موجودٌ وجودَهم وموجودٌ قبلهم وبعدهم، وله جمهوره الغفير الذي يتذوقه وينفعل به ويحرص عليه”47. ويقول ردّاً على الشايب: “كيف له أو كيف لنا أن نسمع موّالاً أو زجلاً أو قصة شعبية فننكرها كأدب، ونحكّم فيها ذوقنا الخاص، ونتعسف فنُسقِط من حسابنا أنها أدبٌ جميل الأُسلوب والمعنى عند جمهوره؟”48. ويضيف أنّ “الإعراب لا مدخل له في البلاغة، وإنما البلاغة مطابَقة الكلام لمقتضى المقصود”، مهما كانت اللغة أو اللهجة49. ووجد أنّ منهج ابن خلدون أصحّ من منهج الشايب، إذ “بدأ بملاحظة ما هو موجود وقائم واستنبَط منه آراءه، على حين أنّ الأُستاذ الشايب فعل العكس، فبدأ بافتراضات وقوانين نظرية ثابتة في رأسه وأراد أن يُدخِل فيها الأدب، فلما لم يستقم له ذلك أسقطَه من حسابه”50. وفي كتاب لاحِق عن الزجل المصري، نقرأ أنّ مصر فاقت بقية البلدان العربية في نشر الشعر الشعبي، “ولم يَمنع وجود الأزهر في البلاد واشتغال طلبته وعلمائه بعلوم اللغة وتقويم اللسان العربي من وجود الزجالين في الشعراء، فكان فيهم كثيرون يميلون إلى قول الزجل في مناسبات عديدة، كابن سناء الملْك”51. وفي الكتاب نفسه نقرأ “أنّ الزجل شعر، لا يقلّ في حسن الأداء ودقة التصوير وإصابة الغرض عن مثيله في اللغة الفصحى، وقد يزيد عنه في الاتساع لكثير من المعاني”52. كما نقرأ “أنّ على الزجال القادر واجباً أن يُدخِل في الزجل من الألفاظ العربية ما سهلَ نطقه وخَفّ سماعه حتى يستطيع أن يرتفع بالعامّة إلى طبقة أعلى من لغة الشارع ويقرِّب مسافة الخلاف بين اللغة الفصيحة واللغة الدارجة”53

   أهمّ ما يعنيه توحيد العامّيات العربية هو طرح الكلمات الدخيلة من لغات أُخرى والاقتصار على الكلمات التي تنتمي إلى القاموس العربي العامّ. إلّا أنّ هذا التوحيد لا يعني أن تصير لهجة النطق واحدة. وسوف يبقى نطق العبارات في بلد عربي معيَّن مختلفاً عما هو في بلد عربي آخر. وهذا الاختلاف هو الذي يفسّر كيف يجري الشعر الشعبي في بلد عربي ما على أوزان محددة لا على سواها، وكيف يجري في بلد عربي آخر على أوزان لا تصلح لهجة البلد الأول لها، علماً أنّ هناك أوزاناً مشترَكة. وقد استَنفد شعر وليم صعب معظم الأوزان التي تستطيع اللهجة اللبنانية تحويلها إيقاعاً شعرياً. وهو لم يقصد بتوحيد العامّيات العربية تطويع اللهجة اللبنانية لأوزان لا تقوى عليها. فاللهجة هناك قبل الشعر، وهي التي تقرر الايقاع الشعري الممكن بواسطتها.

   ولسوف أُعطي نماذج من الزجل المصري تأكيداً على ما أذهب إليه. فاللهجة المصرية تسمح باستعمال أوزان خليلية لا تقدر اللهجة اللبنانية على استيعابها استيعاباً حسناً. من هذه الأوزان الرمَل التامّ: “فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن” في الصدر والعجز، ومنه أُغنية أُمّ كلثوم:

 رَجَّعوني عينيكْ لأيّام اللي راحوا            علّموني ٱندَمْ على الماضي وْجِراحو

وهنا مقطع عليه من أحد كبار الزجالين المصريين، خليل نظير، يضع فيه قواعد للزجل54:  

 لمّا تنظِمْ مشْ تِقول نَحْوي وِتِعْرِب           قول زَجَل يِعْجِب جميع الناس وِيِطْرِب

                      إللي يِكْتِب وِاللي ما يَعرِفْشِ يِكتِب

 خُدْ مَعاني الشعرِ إللي تْكون صحيحَه        هاتْها في ألفاظ مِنِ الأزجال فَصيحه

                    أُوعى تِسْرق في الزجل يبقى فضيحه

 

لكن لا أظنّ أنّ ثمّة سبباً وجيهاً يمنع كتابة الزجل اللبناني على الرمل التامّ. وقد رأينا نماذج قريبة منه مع الرجز عندما يُختصَر متحرك وساكن من أوّله ليغدو: [مُسْ] “تَفْعِلُن مستفعلن مستفعلن (مستفعِلاتْ/ مُسْتَفْعِلُنْ نْ)”، وهو الرمل في أحد أشكاله التامة: “فاعلاتن فاعلاتن فاعلن (فاعلاتْ/ فاعلُنْ نْ)”. كذلك رأينا في الزجل اللبناني مجزوء الرمل المستعمَل عادةً في الندب. وهو شائع في الزجل المصري كما في هذه الأبيات لمحمد فهمي يوسف55:  

 غَرَّد العصفور وغَنّى              فوق فُنونُه وِالغُصون

 حين شجى قلب المعنّى            طَيَّرِ النوم مِ الجُفون

 قُمْتِ عالشبّاك فَتَحْتُه               لاجْلِ شوف نور الصباح

 وِاللي خان عَهدي سامِحتُه          لمّا نور الفجرِ لاح 

   ونقع في الزجل المصري على البحر السريع: “مستفعلن مستفعلن فاعلن” و”مستفعلن مستفعلن فاعلاتْ” (فاعلنْ نْ). وقد وقعنا على صيغة منه في الزجل اللبناني هي: “مستفعلن مستفعلن فعْلن” (فعلانْ /مفعولْ/ فَعْلُنْ نْ). وهذه أبيات من عبد الله الفحّام56:

 في بَحرِ حُسْنَك وِالغَرام وِالجَمال            كم في محاسن مَنْهَلَك مَنْ هَلَك

 وِٱن كان عَذولي شَبَّهَك بالهِلال             يا بَدرِ مَن لا يَعرِفَك يِجْهَلَك

   وهذه أبيات من العالِم الأزهري محمّد النجّار، الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين وكان أمير فنّ الزجل المصري57

 يا ٱللي ٱنْتَ في حُسْنَك عديم المَثيل         وَٱنا بِحُبّي فيك ضُرِب بي المَثَل

 وِفي غَرامي شَرْحِ حالي طويل            لَو كُنْتِ أحكيلَك على ما حَصَل

 فُقْتِ الأهلَّه يا ضياء العُيون                وِدُرِّ ثَغْرَك بالعقيق حين بَرَق

 أجرى بَريقُه من عُيوني مطَر              ومِن شِرار رَعدُه فؤادي ٱحتَرَق

 وصِرْتِ غرقان في دُموع من وُلوع        وما ٱنطَفِت ناري بماء الغَرَق

 وصِرْت ٱكَدَّب مِن يِقول مستَحيل           إلجَمعِ بين ضدِّين وأمري جَلَل

   وهنا بيتان على السريع من خليل نظير58:

 يا غُصْنِ مِن طَبْعَك تِميل في الهَوا            وٱنا بِطَبعي للمحاسن أميل

 زادْ بي الجَوى والقلبِ منّي ٱنكَوى            وٱنْتَ الدوا وانا المُعَنّى العليل           

                      لِيلي طَويل من طول جَفاك وِالبُعاد

   ويزخر الزجل المصري بقصائد على المجتثّ: “مستفعلن فاعلاتن” في الصدر والعجز. وهنا أبيات لابن عروس من القرن الثامن عشر59:

 لَو كُنْتِ خايِف مِنِ الله            وٱلّا مِنِ القَبْرِ وِالهُول

 ما كنتِ تِغْتَرِّ بالجاه              والظلمِ والجُورِ والصول

 تِغْسِل ثِيابَك بِصابون             وِتْقول عَليهُم نَظايِف

 في داخِلَك غلِّ مَكْنون            ما ٱنتاش مِنِ اللهِ خايِف؟

 إلليلِ ما هوش قَصير             إلّا على اللي ينامُه

 والشخصِ ما دام فقير            ما حَدِّ يِسْمَع كلامُه

 لا بدِّ مِنْ يُومِ مَعلوم              تِرْتَدِّ فيه المَظالِم

 أبيَض على كلِّ مظلوم           وٱسْود على كلِّ ظالِم

   وهنا أبيات رائعة على المجتثّ، من قصيدة كتبها الشاعر الكبير محمّد إمام العبد إلى أمين الحداد، حفيد الشيخ ناصيف اليازجي وناشر صحيفة “لسان العرب” ثم “السلام” في الاسكندرية60

 يا بهْجِة العصرِ يَلّي                فَتَحْتِ باب العِتاب

 يِكْفي عَذابي وذلّي                  مِن بَعدِ عصر الشباب

 دمعي فضَحني وقلبي               والصبرِ بَعدَك حَرام

 والذنْب في الودّ ذَنْبي               والودِّ غير الغَرام

 سلَّمْتِ قلبي لِرَبّي                   وٱنتَ عَلِيك السلام

                  ما لي ومال النَّدامى

                  يَلّي خلقْتِ الشراب؟

 إشكي أمين للأماني                 وٱنْ كنتِ بَعدُه جَريح

 إزّاي ودادَك ضَناني                وِفيك مَعاني المَسيح؟

 يا فيلسوف المَعاني                 صَبَّحْتِ بَعدَك سطِيح

                  إزّاي تِجاوِب صديقَك

                  من بَعدِ قَطْعِ الجَواب؟

وأجابه الحداد فصيحاً شجياً على نسق الموشح الأندلسي، منه هذان البيتان61:

 بل ما لهذا الأمينِ ذَنْبُ              حتى ٱقتضى ذلك العِقابْ

 وإنّما المرءُ إذ يُحِبُّ                 يَخْلُقُ من حُبِّهِ عِتابْ

 

 (يتبع)

***

 

هوامش

– وليم صعب، الديوان، بيروت: دار النهار، 2001.

– وليم صعب، حكاية قرن [سيرة ذاتية أدبية]، بيروت: دار النهار، 2001.

  1. مجلة البلبل، أُسبوعية تبحث في الشعر القومي، العدد الأول، الاثنين 9 تشرين الأول 1933، 1.
  2. مجلة البلبل، العدد 11، الاثنين 18 كانون الأول 1933، 2.
  3. المصدر نفسه.
  4. مجلة البلبل، العدد 16، الاثنين 22 كانون الثاني 1934، 6.
  5. مجلة البلبل، العدد 18، الاثنين 5 شباط 1934، 7.
  6. مجلة البلبل، العدد 36-37، الاثنين 25 حزيران 1934، 14.
  7. مجلة بلبل الأرز، العدد 1-2، الاثنين 4 آذار 1935، 19.
  8. المصدر نفسه، 30.
  9. انظر المحاضرة الثامنة عشرة من محاضرات فرويد عن التحليل النفسي:

Sigmund Freud, Introductory Lectures on Psychoanalysis, Translated by James Strachey, London: Penguin Books, 1991.  

  1. انظر الكتاب الآتي عن “الثورة الفلسفية” الأنكلوسكسونية:

A.J. Ayer et al, The Revolution in Philosophy, London: Macmillan, 1956.

  1. عن البيان الأول للحركة السوريالية وما يليه، انظر الأعداد الاثنَي عشر من مجلة أندريه بريتون الصادرة في باريس بين 1924 و1929 (La Révolution Surréaliste).
  2. مجلة بلبل الأرز، العدد 5-6، الاثنين 25 آذار 1935، 56.
  3. المصدر نفسه.
  4. المصدر نفسه.
  5. مجلة بلبل الأرز، السنة 3، العدد 2، 31 آب 1938، 9.
  6. المصدر نفسه، 15.
  7. معنّى رشيد نخلة، جمعَه [ابنُه] أمين نخلة، صيدا: المكتبة العصرية، 1945، 95.
  8. المصدر نفسه، 177.
  9. المصدر نفسه، 125.
  10. المصدر نفسه، 148.
  11. المصدر نفسه، 223.
  12. المصدر نفسه، 89.
  13. المصدر نفسه، 99.
  14. المصدر نفسه، 101.
  15. المصدر نفسه، 191.
  16. المصدر نفسه، 114.
  17. المصدر نفسه، 203.
  18. المصدر نفسه، 85.
  19. المصدر نفسه، 92.
  20. المصدر نفسه، 95.
  21. المصدر نفسه، 116.
  22. المصدر نفسه، 129.
  23. المصدر نفسه، 98.
  24. المصدر نفسه، 216.
  25. المصدر نفسه، 159.
  26. المصدر نفسه.
  27. المصدر نفسه، 85.
  28. المصدر نفسه، 140.
  29. المصدر نفسه، 114.
  30. مجلة بلبل الأرز، السنة 3، العدد 2، 31 آب 1938، 9.
  31. محيي الدين خريّف، الشعر الشعبي التونسي: أوزانه وأنواعه، ليبيا: الدار العربية للكتاب، 1991، 13.
  32. المصدر نفسه.
  33. أحمد رشدي صالح، الأدب الشعبي، القاهبة: مكتبة النهضة المصرية، 1955، 29.
  34. مجلة بلبل الأرز، السنة 2، العدد 4، 10 تشرين الثاني 1938، 12-13.
  35. أحمد رشدي صالح، المصدر المذكور، 20.
  36. المصدر نفسه.
  37. المصدر نفسه، 21.
  38. المصدر نفسه.
  39. المصدر نفسه، 22.
  40. المصدر نفسه، 23.
  41. حسين مظلوم رياض ومصطفى محمّد الصباحي، تاريخ أدب الشعب: نشأته، تطوراته، أعلامه، القاهرة: مطبعة السعادة، 1936، 55.
  42. المصدر نفسه، 5.
  43. المصدر نفسه، 71.
  44. المصدر نفسه، 249-250.
  45. المصدر نفسه، 281.
  46. المصدر نفسه، 94.
  47. المصدر نفسه، 126-127.
  48. المصدر نفسه، 250.
  49. المصدر نفسه، 85-91.
  50. المصدر نفسه، 159-160.
  51. المصدر نفسه، 163.
  52. المصدر نفسه، 191.
  53. المصدر نفسه، 180.
  54. المصدر نفسه، 269.
  55. المصدر نفسه، 265.
  56. يونس الابن، أربع خمس كلمات، بيروت: منشورات مجلة المواسم، 1966، 65.
  57. رياض والصباحي، المصدر المذكور، 82.
  58. المصدر نفسه، 310.
  59. المصدر نفسه، 152.
  60. المصدر نفسه، 175.
  61. المصدر نفسه، 122.
  62. المصدر نفسه، 206-210.
  63. المصدر نفسه، 330.
  64. المصدر نفسه، 324-327.
  65. المصدر نفسه، 316.
  66. المصدر نفسه، 75.
  67. عزّ الدين إسماعيل، الشعر القومي في السودان، بيروت: دار العودة، 1969، 52.
  68. محيي الدين خريّف، المصدر المذكور، 14-30.
  69. المصدر نفسه، 29.
  70. المصدر نفسه، 15-16.
  71. المصدر نفسه، 15.
  72. المصدر نفسه، 72.
  73. المصدر نفسه، 139.
  74. المصدر نفسه، 109.
  75. المصدر نفسه، 137.
  76. المصدر نفسه، 193.
  77. معنّى رشيد نخلة، 50.
  78. جريدة الرياض، العدد 14040، السبت 2 ديسمبر (كانون الأول) 2006

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *