من الاعتقاد بالتقدّم إلى مُجتَمَع الخَطَر

Views: 355

ترجمة: المهدي مستقيم

في حوار مع الفيلسوف الفرنسيّ (Luc Ferry) لوك فيري – 1952، الذي شغل منصب وزير التربية الوطنيّة في عهد رئيس الوزراء جان بيار رافاران ما بين العامَيْن 2002 و2004، والذي أجراه كلود كابليي Claude Capelier، وتمّ استنباطه بتصرّف من كِتاب “تاريخ الفلسفة الأجمل” La Plus Belle Histoire De La Philosophie، الصادر في العام 2014 عن دار روبير لافون الفرنسيّة، دارَ الحوارُ بشكلٍ أساس حول السؤال التالي: “كيف انتهى بنا الأمر إلى هذا الوضع الجديد؟ لماذا أصبحنا نرتاب من مُثُل كانت العقول المُستنيرة تعتبرها إلى وقتٍ قريب ركائز الحضارة الأوروبيّة؟”

فيري، الذي هو من أشهر الفلاسفة الفرنسيّين في عصرنا إلى جانب ميشال أونفري وأندري كونت سبونفيل، يجيب بأنّ في هذا السؤال يكمن مربط الفرس، ويسأل بدَوره عمّا إذا كان الأمر يتعلّق بتنكّرٍ للمُثل أو أنّه يتعلّق بنتيجةٍ غير متوقَّعة لما يُمكن أن ينجرّ عن مبادئ كهذه؟

تُشير أعمال الفيلسوف الفرنسيّ لوك فيري إلى كفاءة وحنكة على مستوى البحث والإنجاز الأكاديميَّين، والتي نخصّ بالذكر منها كِتاب “الفلسفة السياسيّة” (في ثلاثة أجزاء بالاشتراك مع ألان رونو (1984-1985)، و”مقال في مُناهضة الأنسنة المُعاصِرة” (1985)، و”لماذا لسنا نتشيويّين” (1991)، و”الإنسان الإله أو في معنى الحياة” (1996)، وصولاً إلى “هايدغر، أوهام التقنيّة” (2013)، و”الابتكار الهدّام” (2014)، و”تاريخ الفلسفة الأجمل”، بالاشتراك مع كلود كابليي (2014).

من سؤال كلود كابليي الأمّ، يجترح لوك فيري الأسئلة لا الأجوبة، فيتساءل بدَوره قائلاً: هل يرجع خوفنا إلى ذلك الخلل النَّاتج عن المرض المعروف بشكلٍ واسع، والذي عهدنا على نعته بـ “مقاوَمة التغيير”، أو أنّ الأمر يتعلّق، على العكس من ذلك، بمرحلة جديدة في تاريخنا، منفصلة كلّ الانفصال عن أيّ مخلَّف رجعيّ، ومرتبطة بأقصى مُنتجات الحداثة التي بإمكانها أن تؤهّلنا لمستقبلٍ أجمل؟ إنّها أسئلة حاسمة بيد أنّ ما يُمكن أن تقدّمه من أجوبة، ستجعل سيناريوهات المستقبل مُختلفة تمام الاختلاف.

ومن أجل الإجابة عن هذه الأسئلة، أو على الأقلّ تأمّلها بشكلٍ أوضح، يجدر بنا، والكلام لفيري، أن نشدِّد على تقديم النصح للقارئ الكريم بقراءة “مجتمع الخطر”، باعتباره أهمّ كِتاب قام بتأليفه عالِم الاجتماع الألماني إيلريش بيك Ulrich Beck، ويُمكننا بسط الخطوط المركزيّة لأطروحته كما يلي: بعد الحداثة الأولى التي نمت بذورها في القرن الثامن عشر، والتي هَيمنت على القرن التاسع عشر بأكمله، والتي لا زالت لم تكتمل إلى يومنا هذا، تكون مجتمعاتنا الغربيّة قد أقبلت على مرحلة جديدة، تتّسم بالوعي بالمخاطر المُحدقة بها، نتيجة تسارع وتيرة العَولمة التي يعرفها التقدّم العلميّ والتقنيّ، بحيث نتجت عن هاتَين الحداثتَين تصادمات وتناقضات عدّة، تكتنفها في الآن نفسه علاقات خفيّة. ومن أجل استيعاب هذا الوضع الجديد الذي بات يرخي بظلاله على الغرب المتقدِّم، وُجِب أوّلاً فهم كلا الحداثتَيْن على حدة.

حداثة دوغمائيّة

تتفرّد الحداثة الأولى بحسب فيري بمجموعة من المميّزات الرئيسة التي تفضي كلّ واحدة منها إلى الأخرى. فهي أوّلاً، تتأسَّس على تصوّرٍ سلطويّ ودوغمائيّ للعِلم؛ حيث كان العِلم واثقاً من نفسه، وذلك بإحكام قبضته على موضوع دراسته الرئيس، الذي هو الطبيعة، ما دفعه إلى التمادي في الدعاية لقدرته على تحقيق التناغُم، وتحرير البشر، والحرص على إسعادهم، من دون إخضاع ذاته لمحكّ النقد. كما كان يتعهّد بتخليص الناس من أتون الظلاميّة الدينيّة التي سيطرت على القرون الوسطى، وذلك بمنحهم المسوّغات التي من شأنها، بحسب التعبير الديكارتي الشهير، أن تجعلهم كـ”أسياد وأصحاب ملكيّة” لعالَم يُمكن توظيفه واستثماره في كلّ ما من شأنه أن يخدم انتعاشهم المادّي.

لقد تجذَّرت فكرة التقدّم بعد التفاؤل الكبير الذي روَّج له الِعلم، وتمّ تركيزها في عبارة دالّة على الحرّيّة والسعادة، وجدت تجلّيها اللّامع والمنطقي في إطار الديمقراطيّة البرلمانيّة والدولة الأمّة؛ ما أدّى إلى زواج العِلم بالديمقراطيّة الوطنيّة: ألم يحدث أن كان من البدهي القول إنّ الحقائق المتوصَّل إليها من قبل الأولى تُعدُّ صورة تعكس المبادئ التي تؤسِّس لها الثانية، وهي مسخًّرة لنا من حيث الأصل؟ إنّ ما ينطبق على حقوق الإنسان بما هي نزوعٌ كَونيّ صالح، من حيث المبدأ على الأقلّ، لكلّ الكائنات البشريّة، بغضّ النظر عن عرقها وطبقتها وجنسها، ينطبق على القوانين العِلميّة بالسواء.

ولعلّ هذا ما جعل من هاجس إنتاج الثروات وتقاسمها، بؤرة اهتمام الدول العلميّة الديمقراطيّة. ومن ثمّة كانت إيقاعاتها كما سبق وأعلن توكفيل، مؤسَّسة على المساواة، أو باقتباسنا للصيَغ الماركسيّة، إيقاعات الصراع ضدّ أشكال اللّامساواة. وفي هذا المخاض الصعب والحاسم في آن، كان من اللّازم وضع الثقة في المستقبل، حيث غالباً ما كان يتمّ إرجاء المصاعب إلى المرتبة الثانية.

وفي نهاية الأمر نجد الجمود قد بدأ يطبع الأدوار الاجتماعيّة والعائليّة، بل إنّها تحوّلت إلى ما يشبه “الطبيعة”؛ ومثال ذلك أنواع التمييز الطبقي والجنسي، من دون أن نتحدّث عن الاختلافات الإثنيّة، التي استمرّ الواقع في التعامل معها كما لو كانت ذرعاً منيعاً لا يمسّ، على الرّغم من هشاشتها الظاهرة بما هي مبدأ، كما أُثير الحديث آنذاك، عن مسألة الحضارة في شكلها المفرد، وكأنّها أوروبيّة الأصل بيضاء ذكوريّة.

إنّ مجموع ما جِئنا على ذكره أعلاه من نقاط، سيُمهِّد لانبجاس الحداثة الثانية، هاته الأخيرة التي ستركن إلى الدخول في قطيعة مع الحداثة الأولى، ليس كنتيجة لمفعولِ نقدٍ خارجي، يعتمد نموذجاً اجتماعيّاً سياسيّاً جديداً، بل على العكس من ذلك تماماً، وأعني بذلك استنادها الجذريّ على مبادئها الخاصّة.

الحداثة الثانية

وعن هذه المُفارَقة الهائلة، التي مازالت مكسوّة بالالتباس إلى اللّحظة، يسأل كلود كابليي، كيف بالإمكان تفسير انتهاء الحال بالأنسنة الديمقراطيّة، المنبجسة عن الأنوار، إلى تقمّص شكلٍ جديد من الحداثة، أعقبه انقلاب على مستوى المنظوريّة. فيجيب فيري قائلاً: أوّلاً، في ما يخصّ علاقة العِلم بالطبيعة، نحيل على الثورة الحقيقة التي شهدتها نهاية القرن العشرين، إذ منذ ذلك الحين لم نعُد نميل إلى إرجاع الأخطار الجسيمة التي تحدق بنا إلى الطبيعة، وإنّما (للأسف) إلى البحث العِلمي، حيث لم نعُد نراهن على الهَيمنة على الطبيعة، بقدر مُراهنتنا على إحكام قبضتنا على البحث العِلمي، ذلك أنّ العِلم، ولأوّل مرّة في تاريخه، أصبح ينتج للجنس البشري مسوّغات دماره وأفوله، وهذا غير وارد بالنسبة إلى المجتمعات الحديثة التي باتت تعاني من مخلّفات الاستثمار الصناعي للتكنولوجيات الحديثة، بل يحصل أيضاً،عندما يتمّ توظيف هذه التكنولوجيا من قِبل غيرنا. وإذا كنّا اليوم نشعر بالتهديد أكثر من أيّ وقت مضى، فذلك يرجع لوعينا بأنّ الإرهاب بإمكانه أن يمتلك من اليوم – أو في وقت قريب – الأسلحة الكيماويّة، بل وحتّى النوويّة المروّعة. لقد بات العِلم الحديث بفروعه وتفعيلاته كلّها متملِّصاً منّا، وقوَّته الماحقة صارت تبعث فينا الدهشة.

بناءً على ما سبق، وأمام هذه “السيرورة فاقدة الذات” لعَولمةٍ تجعلنا نحسّ أنّه ما من حَوكمة عالَميّة بإمكانها التحكّم فيها، فإنّ مجال الدولة/الأمّة ومجال الأشكال التقليديّة للديمقراطيّة البرلمانيّة بدأ يضيق، حتّى لا نقول إنّه فقد قيمته. لم تقف سحابة تشيرنوبيل بفعل معجزة جمهوريّة اخترقت حدود فرنسا. كما أنّ السيرورات التي تحكم النموّ الاقتصاديّ أو الأسواق الماليّة لم تعُد هي الأخرى تخضع لأوامر نوّاب الشعب الذين توقّفوا عن إخفاء عجزهم عن الالتزام بالوعود التي يودّون تقديمها، أمام تزايد وتيرة هذا النموّ. هنا بكلّ تأكيد يظهر سرّ نجاح أولئك الذين يريدون إقناعنا، شأن جمهوريّينا الجُدد، بأنّه ثمّة إمكانات للرجوع إلى الوراء، وأنّ التحالف القديم بين العِلم والأمّة والتقدّم مسألة ينحصر تحقّقها في “المدنيّة” و”الإرادة السياسيّة” – كم بودّنا تصديق ذلك!، وخصوصاً أنّ شحنة لا بأس بها من التعاطف تُرافِق حتماً أقوالهم المُفعمة بالحنين.

أمام هذا التطوّر الذي شهدته البلدان الأكثر تقدّماً، تنتصب مسألة توزيع الثروات إلى أن تُرجأ إلى مخطَّط ثانوي، هذا لا يعني أنّها قيد الأفول، وإنّما يعني أنّها تضعف إلى حدّ الاندثار أمام حتميّات التضامُن الجديدة، نظراً لتفاقُم أخطار ترتفع وتيرتها بمُوازاة تعولمها وانفلاتها من قبضة الدولة/الأمّة ومن أساليب العمل الديمقراطي المعهودة.

في الأخير ونتيجة نقدٍ ذاتي، أو بتعبير أفضل نتيجة تأمّل ذاتيٍّ ذي طابع معمّم، توضع الأدوار الاجتماعيّة القديمة على محكّ السؤال، فتتوقّف، نتيجة اختلالها، عن الظهور بشكلٍ ينمّ عن تعرّضها للاختراق من قبل طبيعة خالدة، وتشهد على ذلك الأوجه العديدة التي تتقمّصها حركة التحرّر النسويّة، وغيرها من الحركات المُطالَبة بالمصادقة على مطالبها الجديدة.

 ***

(*) أكاديمي وباحث من المغرب

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *