سالم: “الحياد الفاعل” بدل “النّأي بالنّفس”… لبنان بعد مئة سنة يواجه أسئلة مصيريّة

Views: 449

جوزيف خوري

منذ إعلان الكيان اللبناني قبل مئة سنة يتعرض لمحاولات احتواء وسيطرة عربية أو اقليمية أو دولية، تتظهر في انحياز فئات أو جماعات أو طوائف فيه الى دول أو قادة أو أحزاب أو تنظيمات في الخارج، تستسهل فكّ الانتماء اليه للأرتماء في أحضان غيره، وبذلك تستهين به وبشعبه من اللبنانيين الآخرين، فكأنه كتب على لبنان منذ إعلانه كياناً في 1 ايلول 1920 أن يواجه مصيره جيلاً بعد جيل، وأن يصدّ تحديات تفرضها صراعات سياسية تلبس لبوس الطائفية فلا تفسح له المجال للاستقرار والتطور.

إنّ العوامل التي واجهها الكيان اللبناني عند انشائه واجهها اللبنانيون المقتنعون بأحقية كيانهم باسلوبين:

الأول، الإصرار على ان للكيان وجود تاريخي يعود الى قرون خلت، فكرة تشبث بها أهله الأصيلون الذين استمروا يبنون وطنهم  في فكرهم ويعبّرون عنه في كتاباتهم ويحتوونه في ارادتهم ويرسمون امجاده بخططهم واعمالهم.

والثاني، في مرحلة لاحقة، دعوة جماعات التعايش اللبناني، خصوصاً التي استجد وجودها بعد الحاق الأقضية الأربعة بجبل لبنان، الى كلمة سواء في المحافظة على هذا الكيان بميثاق وطني وصيغة عيش وحكم.(أخطأ الذين دعوا أخيراً الى تعديل الميثاق وتغيير الصيغة، لأن الميثاق هو علّة وجود لبنان سيداً حراً مستقلاً عن الشرق والغرب ، والصيغة هي اتفاق اللبنانيين على العيش معاً، فأيهما يجب ان ننقض ؟ إنّ طرح اي تغيير يهدم كيان لبنان ويُسقط رسالته).

فهِم الأولون علّة وجود كيانهم، لذلك بحثوا في التاريخ والآثار والجغرافيا والديموغرافيا، ليدعموا حججهم ويثبتوا نظريتهم، أنه في عصر القوميات كانت لهم قومية هي اللبنانية، لا السورية ولا العربية، وأدركوا أن دورهم وضع الأطر النظرية للكيان اللبناني الذي صار واقعاً قائماً باعلانه.

يبدو أنّ هذا الكيان بعد مئة سنة على إعلانه يواجه الأسئلة المصيرية التي سبقت هذا الاعلان أو أعقبته، وهو يحتاج الى فكر جديد يرفد ايديولوجيته اللبنانية في مواجهة ايديولوجيات متطرفة  في المنطقة تغيّر أنظمة وتزيح حدوداً، وتطرق باب الكيان اللبناني بعنف، ما أثار حمية مفكرين لبنانيين، لوضع اسس جديدة مستحدثة تستلهم التجارب الفكرية والممارسات السياسية لمن عايشوا مرحلة تأسيس الكيان أو سبقوا بنظرياتهم إعلانه دولة أو دافعوا عنه بعد الاعلان ومازالوا يدافعون.

إنّ لبنان الوطن تتناوب عليه الصراعات وتتآكله الخلافات والانشقاقات في الداخل ويتعرض للمؤامرات من الخارج، وقد وُضع أمام مصيره بعد مئة سنة من وجوده الفعلي، وعلى المفكرين الذين يؤمنون بلبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه أن يبحثوا في السبل التي يمكن أن تنقذه من صراعات قد تقضي عليه إذا استمرت دون حل، لذلك بادر البروفسور فيليب سالم الى طرح مجموعة أفكار في مقالة بعنوان:” نحو قومية جديدة”، (جريدة “النهار”، 13 حزيران 2019) علماً أن  أفكاره السياسية والاصلاحية ونزعته القومية اللبنانية لا تقتصر على مقالة، بل تمتد الى افتتاحيات كتبها في “النهار” ومجموعة من الكتب أصدرها على مدى ثلاثين عاماً.

ما هي المقاربة التي حمّلها سالم حلولاً لمستقبل الكيان في ذكراه المئوية الأولى ؟

استند الى الميثاق كي يجدده ويبعث فيه الحياة، ورسم خطة عرض فيها أفكاره وهي قابلة للمناقشة كي يلاقيه مفكرون آخرون يبحثون في سبل المحافظة على الكيان اللبناني. وعلى صعيد القومية أرادها حضارية، جوهرها الانسان، وقيمتها من قيمته نموذجاً لوحدة الوجود، وبذلك يقارب المستقبل بإنشاء انسان جديد على أسس تربوية حديثة.

لن يقوم لبنان الذي نريده إلا بعد أن يندفع ابناؤه على طريق الولاء له وحده. إنّ عدم الولاء للبنان وحده يطغى على نسبة كبيرة من اللبنانيين لذلك يتوجه فيليب سالم اليهم :” يجب أن يكون ولاؤكم للأرض مقدساً. هذه الأرض المصلوبة هنا في الشرق. وحدها هذه الأرض من بين جميع بقاع الأرض هي أرضكم وإذا ما ذهبتم بعيداً عنها فخذوا حفنة من ترابها حتى لاتنسوا أبداً من تكونون”. إنّ الوطن هو أرض وشعب ولايمكن أن تكون لبنانياً إلا إذا شدّك الحنين الى تراب الوطن وانسانه.

أخفق السياسيون اللبنانيون في بناء الدولة بعد انهيارهاعام 1975 ، ولم تقم حتى بعد اتفاق الطائف، بل ازدادت تشرذماً وانهياراً …حتى الإفلاس، لأن الولاء للبنان حسم في الدستور على الورق وليس في الواقع، حيث زادت الشرذمة والصراعات والانقسامات التي صارت تهدد وجود لبنان ومصيره. منذ إنشاء لبنان ظلت ولاءات قسم من اللبنانيين للعروبة أو للقومية السورية أو الأمة الاسلامية، قبل لبنان. وخلال الحرب وجدنا لكل دولة عربية أو أجنبية فئة من اللبنانيين تتبع توجهاتها وتخلص لها دون الولاء للبنان. وبالتالي فإنّ الانتماء للبنان والولاء له أولاً ليسا أولوية لدى كثيرين من اللبنانيين، وفي هذا الخلل تكمن العلة في العجز عن بناء الدولة والوطن.

والخلل الآخر هو في النظام السياسي الطائفي الذي يجعل ولاء اللبنانيين لمرجعياتهم الطائفية سواء دينية أو حزبية. ولن يقوم لبنان الذي يرغب فيه المخلصون من أبنائه إلا إذا حرّرناه من النظام الطائفي بفصل الدين عن الدولة، وهي القاعدة التي تتبعها دول العالم المتقدم. ومادام الأمل مفقوداً من الأجيال الحالية فإنّ المراهنة على الأجيال المقبلة بعد تغيير العمارة التعليمية والتربوية من أجل بناء انسان قادر على إقامة لبنان جديد يعكس أبناؤه في الداخل والخارج عظمته ومجده. إنّ القومية اللبنانية الحضارية، حسب مفهوم فيليب سالم، تفترض “الولاء للبنان وحده أولاً وأخيراً. ولن يقوم لبنان إلا عندما تنتصر القومية اللبنانية على القوميات الأخرى”.

بالنسبة لما يُطرح حول حياد لبنان، يتحدّث سالم عن كيفيّة التنسيق بين لبنان والدول العربيّة ليكون دور لبنان فاعلاً. هناك خيارات وصيغ عديدة يمكن إستخدامها، لأنّ “لبنان ليس فقط ذا وجه عربي، بل هو دولة عربيّة من رأسه حتّى أخمص قدميه”. لذا يضيف سالم: يجب أن ننسّق جيّداً مع جامعة الدول العربيّة ومع العالم العربي وفق سياسة فاعلة، وليس سياسة “النّأي بالنفس”، لأنّ إتّباع هذه السياسة يعني أنّ لبنان ضعيف ولا يقدر أن يضع سياسة فاعلة للحياد الذي أسمّيه ب”الحياد الفاعل”.

إنّ الصلاة هي رسالة مهنة  للبروفسور في الطب، وهي مبادرة إصلاحية في وطن هزمته الطائفية، وهي خطوات ثورية يرسمها لشعب مقهور، وهي آمال كبيرة لمجد مفقود، وهي دعاء قبل النوم على كل لبناني أن يردّدها كي يمحض وطنه ولاءه المطلق، فيردد في أعماقه: “انا قومي لبناني حضاري. ابي هو لبنان هذا، امي هي هذه الارض، أهلي هم كل اللبنانيين. ديني “اعبد لبنان بعد الله”. منطقتي كل حبة تراب من أرضي، احب اخوتي إلا انني لا أحب اخي الذي لا يلتزم الولاء لأبي وامي. أعاهد الله ان اكون انساناً حضارياً وأعاهد لبنان ان اكون مواطناً اقوم بواجباتي قبل ان اطالب بحقوقي. انا قومي لبناني، إلا انني اعتبر البشرية جمعاء عائلتي”.

إنّ القومية الحضارية تفترض احترام الانسان بتطبيق الشرعة العالمية لحقوق الانسان وليس ايرادها في الدستور فقط. ولا احترام للانسان إلا بدولة علمانية، لا دينية ولا طائفية، تبنى على أفضل القوانين الحضارية في العالم. علماً أن دستور لبنان لا ينص على دين للدولة ولا قوانينه مستندة الى الشريعة، إلا في ما يتعلق بالأحوال الشخصية للطوائف.

تبدو الديموقراطية البرلمانية ملائمة للبنان، حفظت نظامه السياسي ( الذي يحتاج الى تحديث ) خلال مئة سنة، فلمَ لاتكون صالحة خلال المئة المقبلة؟ 

إنّ لبنان البلد الصعب يبدو علاجه مستحيلاً، لكن إذا كان نشؤوه ممكناً، فلمَ يكون استمراره مستحيلاً؟

***

(*) رئيس تحرير “المستقبل”- سيدني

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *