قراءة في “يوم قرَّرتُ أَن أَطير” لميراي عبدالله شحاده

Views: 175

سليمان يوسف إِبراهيم

كتابٌ من رسم غلافه والعنوان، يُمكنُ أن يُقرأ بمُعظمه. فتاةٌ في يناع الصِّبا، في حضنها الأَبويِّ تربَّت، وبين صدرَيّ الأَبوين نما زُغبُ جناحيها، فامتدّا مرفرفَين بأَحلام تُراودُها،نحو أُفق الغد، بعد أن ضاقت بها فُسحات مرآتها الرَّتيبة… فطارتْ مُحلِّقةً، حاملةً في وجهها سماتٍ تحيا فيها،وتحيا عليها، مِمَّا كانت عليه قد تربَّت من قِيمٍ وشِيَمٍ.عينٌ في سجن المرآة حاضرًا، والأُخرى تسوح بها تلفُّتًا إلى مُستقبلٍ ترسم خُطاه وتتلمَّس دربه بأَنامل المنى التّي تستطيل تشهِّيا للقبض عليها،بوسع الكفِّ وعُمق الرّاحة.وكأنّ طير الأَحلام في عمق المشهد، للجهة الأعلى إلى يسار الرَّسم، يرفُّ بحُلمِها الخارج من بيت مخيِّلتها،بجناحين اشتدّا خفقًا نحو البعيد…

فميراي عبدالله شحاده، تلملم من تفسُّخات مرآة الحاضر، رسمًا لذاتها التي تريد أن تكونها مُستقبلا،محتفظةً بلألاء أُنوثتها وصراحة وجهها أَمام الرّائي، فخورةً بزادها من الصِّبا،واثقةً من صورتها في ما ستكونه في ذهن الزَّمان وأَهله، عند دنو مواسم جوجلة أَوراق العمر مُنجزاتٍ،تعلو بها الهامة وتُخفضُ لها القبَّعات.  

ميراي عبدالله شحاده، هذه المتأنِّقة حضورًا وكلمةً، على مِسحةٍ وافرةٍ من خفر الأُنوثة النّاضجة المُحبَّبة؛ بمثل ما هي عليه: خرج كتابها للقارئ الرّائي إلى جودة تخيُّرٍ في الإخراج وحُسن الطِّباعة، حيثُ تنطبع في ذهن موافي شعرها، قلمًا نسائيًّا ضاوي الحرف صريحَه، ينبض برقَّة المشاعر والأَحاسيس،وسعَ المدوِّنة.

وإلى الكتاب ندخلُ، وفي رحابه أُجيل البصر وأُعملُ البصيرة، لنتعرَّف معًا بصاحبته: أُنثى وامرأة أنتِ، تضجُّ مدوّنتكِ بوافر الطيبة وفيض الرِّقة، وقد باشرتِها شاعرتي بكلمة الأب الوالد فيكِ، وختمتِه بنجوى ومَشكاةٍ من حياةٍ، لم تهبْكِ لأَحلامكِ والمُنى مُتَّسعًا ولا مرتعًا، بل سقَتْكِ من كؤوسها العلقمَ مرارةً، جاماتٍ جامات، حتَّى شعرتِ بنفسكِ وكأنَّكِ تحيين على نقيضين: كمَن يعيش “على قيد ممات”!!

كل ذلكَ حدث لكِ، يوم تقوَّض جمعُ دعائم أَحلامكِ وانطوى أَلق البريق، يومَ لملمَ قوسُ قُزح أمنياتكِ عطفَيه مُجلببًا أَذيالها بعباءةِ رحيل مَن حولَكِ “كان”!!

يومَ قرَّرتِ الشّاعرة أن تطيرَ، توغَّلت سَفرًا في سَفرِ ذاتها آملةً بعيش حرِّيتها. مَنْ لا يشعرُ بنفسه حُرَّةً، فعبثًا يسعى خلفَ تحقيق تحرُّرٍ، فالتّحرُّرُ من خارجٍ لا يتحقَّق للمرءِ قطعًا. فالحرِّيةُ نبعٌ تنبجسُ من صخرة الدّاخل ماؤه مُرويةً آمالنا ومرامينا. وبغير هذا، لن تكون حياتنا سوى سَفرةٍ من سجنٍ يِلا قضبان إلى رمسٍ أخير لا تهاب الرُّوح جدرانه والقيود…

ميراي الشّاعرة، تجدُ نفسها إِزاء خجلٍ ذريعٍ، يمنعها من الإنطلاق على دربٍ يُساوره الخُلم. ومن تُساور دربَه الأَماني، بحاجةٍ إلى أَجنحةٍ يُحلِّقُ بها بعيدًا هو. وشاعرتُنا، قد مهضَ جناحيها الخجل فأعاقها عن تحليق!!

 

حبُّها، حبٌّ لحبيبٍ مُفترضٍ، يبقى حُبًّا شرقيًّا لا يتعدّى كونَهُ دعوةٌ “لفطورِ من القُبَل” ويُختَمُ “بسجدةٍ على مائدةٍ شرقيّة”! ففي الحالين،دورانٌ حولَ لحمٍ ودمٍ بدوّامةٍ لا تنتهي، يبقى… عرسٌ يتأرجحُ ما بين فرحٍ وأنينٍ يستمر…(ص15-20). حُبُّها لا يُحتَبَسُ مُكوثًا في قفص زمانٍ. بل كان هو، وسيكون، ليبقى على المدى حُبًّا، لحبيبٍ توحدنَتْ معه، كما النَّغم من الوتر، لا فَوح بدونهما ولا عطيّةَ لقلبٍ ينفعل بحضور الآخر. حبُّها، بريئًا يبقى… وهي مُمسكةٌ به، مهما شاغبها وأَضناها…(ص21). (https://www.genusinnovation.com/) وفي مكان آخر من المدوّنة، أجد الشَّاعرة اختارتِ العشقَ فعلَ تنسُّكِ في معبد الحبيب: فإن جانبها، صلَّت له, وإن تجنَّبها هتفت ضارعةً لعودته، غير مُتخلِّيةٍ عنه، وإن أَعلن ذاته جلَّاد هواها، ما دام في قلبها هواه ينبض مقيمًا. (ص24-25).

أُتابع الجدَّ مرافقًا الشَّاعرة على مسالك نجواها، لأَتلمَّس حنين العودة يداعبُ، يلاعبُ، لا بل يُصارعُ روحها بإلحاحٍ للرُّجوع إلى أَرض عشقها… ومتى تمّ، أَتيقَّنُ أن أَوجعَ ما يُهشِّمُ قلبَها اكتشاف عودتها إلى أَرضٍ غدتْ غريبةً عنها، وكأنَّ عناصرها الطَّبيعيّة قد تآمرت عليها مُناهضةً حُلمها بالعودة إلى أرضٍ تودُّ في خواتيم درب رحلة الحُلم، لو تفتحُ لها صدرها، مُستحلفةً حبيبها: “بتربتِكَ ارمِني” (ص28-29).راجيةً أن يُترعَها من حُبِّه عتيقةً تسقي لائحة مطالبٍ تحقِّق لها ما تبتغيه من حُبِّها له…. فدربُها من غيره، تغدو مسار جُلجُلةٍ، مصمِّمةٌ على اجتيازها هي، مهما غلَتِ التَّضحيات، تحقيقًا لمُراد نفسها. إني أَدها ناذرةً عمرها “تنسُّكًا في صومعة الحبيب”، “للعشقِ تُصلِّي”، و”لرويِّ شعره تسجدُ”. (ص29-30).

وأُتابع سوحتي على متن سفينة النّصوص القصائد، ماخرًا عباب وجدان الشّاعرة،من “سئمتُ” مرورًا بـ “عصافير الشّوق” وصولًا لــ “هيَّا أَحبَّني” نزولًا بديار “أَعلَمُ”، مكوثًا “في عينيك” حلولًا في “أَقسمتُ يومًا”…مرورًا بــــ “يوم مولدي” حيث تحمِّل الشَّاعرة قصيدتها دعوةً لحبيبها كي يُكلِّل هامتها بقبلة مُعايدة من وزنة كأس وسفك دمٍ فوق جلجلة عذابٍ وتضحية، يكون لها من القبلة في ذكرى ميلادها حينها،ميرون عمادٍ بفرحٍ مقيمٍ. (ص135-136). أَمَّا قصيدة “ثلاثون عامًا” فهي لسيد الحبِّ، أَبيها الذي عنها وعن محبيه ارتحل باكرًا،زرعتها الحبيبة ميراي في الكتاب دعوة صادقة لكلّ من أَكرمهم الخالق بأن يحيوا بظلال الوالدين ويمتِّعوا مرامي العيش بعطور الحضور وبركات الرِّضى، الَّتي افتقدت إليها الشّاعرة في غرّة الصِّبا… مواعدةً أَبيها للقاءٍ به مُرتقب خلف الأُفق!! أَمّا فقصيدةُ “كم رائع”، تعترف خلالها، بفرحها أن تضبط أَلحان عمرها المآتي وما تنجز، على إيقاع نبضات قلبه وهي الرّاصدة لدورات دمه من يوم كانت تتوسَّدُ قلبه مُطمئنَّةً هانئة! فهو رجلها التَّاريخي، في كتاب عينيه وقلبه قرأت فصول محبَّة الحياة ومواجهة صعابها، وفي دفتر غيابه لا تزال تدرس أُصول الكِبر عند حلول المواقف الجَلل!!فأبوها علَّمها كيف تكون وكيف تصير نغمات عمره التي سيُطربُ لوقع حضورها كونٌ بعد انقضاء رحلة سفره… تربَّت الشّاعرة في صحن داره ابنةً وخرجت لخوض معترك الحياة من بين راحتيه امرأةً، ترى إلى والدها على أنّه بطل حياتها وحبيب عمرها وكونها الذي تجوب مراسح فكره وشعره وما تربّت عليه من قِيمٍ في حضنه: هانئةً مطمئنةً إلى كلّ حضوره في حياتها وحبيبها المتفرد الّذي ملكَ عليها قلبها، ولَربّما راحت تقلِّب في وجوه الرِّجال طويلًا إلى أن حظيت بمن كان فيه أَكبر قدَرٍ من سمات الوالد وصفاته،يوم قرَّرت أن تُنشِّيء لها في الحياة عيلةً.(ص146-147).

ومن بعدها يضمُّ السِّفرُ سِفرُ الحُبّ الّذي ما اسنطاعت الشّاعرة أن تطير بصورتها من مرآته إلَّا بما تربَّت عليه من قِيَمٍ وما تزيَّت به قسماتُ وجهها من أَنامل الوالد وما تركت عليها منه مِسحة راحتيه على وجنتيها والجبين… هي التي تركت في ختام القصائد، باقةً منها، تتوجّه من خلالها بمجملها لروح أَبيها وكأنّه لا زال حيًّا بقربها مثلما هو حيٌّ فيها ما امتدّ بها عمر… من “ستتة وعشرون ربيعًا”، فـــ “كم هو صباحي سُكَّر”، مرورًا بـــ “ولِدتُ وحيدةً”، وصولًا إلى “في مثل هذا الغروب”، مختتمةً الباقةَ بـــ “صلاة بداية الأُسبوع” حيثُ تعد أَبيها بأنّها “معه على موعد سجودٍ، أَمام أيقونة عينيه، ودفءِ يديه، وسحر صمته العمق”!!

ولم تطوِ الشّاعرةُ ميراي سِفر الحُبِّ المقيم فيها، قبل أن تتوِّجه بقصيدةٍ توجّهت بها إلى أُمِّها “علّة كيانها”،تتوجها برمزيّةٍ راقية، وهي التي فقدتِ الوالدَين، فنسمعها تقول:

“لم أَعش كثيرًا يا أُمّي

فأنا أَصبحتُ على قيد ممات…”

لتتابع في غير مكان من القصيدو نفسِها: 

فلا أرضي تأويني ( أمُّها).

ولا سمائي تُعانقُني (أَبوها، لعلو مكانته عندها).

بغيابهما عنها نفذت من قلبها والوجدان، كلّ مسببات البهجة…

وتختم كتابها ديوان القلب، بمخاطبة والدتها، أن بعد رحيلهما،غدَتْ:

“كلَّما بسطتُ يدي علَّني أَجني القُبلات

واُعتِّقها في خوابي الذِّكريات

وجدتُ شوكًا يا أُمّي وعلقمًا ومرمر! (ص161-162).

وأَظنُّها بالمرمر هنا، تبني بيت أَبويها الأبدي،لستُ أَعلم…

ميراي عبدالله شحاده، بنتُ محوكةٌ على نول وفاءٍ، بخيوط حريرٍ ولا أَنقى، منها نُسجَتْ قامةً وقيمةً من سمار حبرٍ وسمار بهاءٍ، على دروب السَّمر مع الكلمة، تزاحم أَقماره ببهاء العبارة، ونقاوة التّعبير من حقل معجميّ غنيٍّ بالإنسانية وما من نقي صدرها يتفجَّر شعورًا يدوم وننداوله الألسنُ…

ميراي عبدالله شحاده،ارتقت كلامًا بحبيبها الأَوَّل، أَبيها، لِما جسّده في خلدها من بهاء الرّجولة وحضور الإنسان الإنسان،وانتشار الفكر من لدُنه مُعلّمًا وشاعرًا. فتدرَّبت وهي في حضنه، جوَّابة مراتع قلبه، على فنون معرفة الحبّ الحقّ وتخيُّر الحبيب الرّجل، مِمَّا روى أَبوها شخصيتها من حُسن حضور وعيش الرّجل في خُلد المرأةِ ومخيِّلتها…. وكلُّ ذلكَ نما في شخصها من غير أن تُنحِّي جانبًا حنان الأُمّ وأُنوثتها التي اكتنزت منهما بالرُّغم من غيابها المُبكر عنها.

ختامًا، فهل أَجلُّ وأَعظم وفاءً وبرًّا،من إبنةٍ تجاه أَبيها؟ أَفنت اللّيالي تعبًا وسهرًا، حتى جمعت نتاج عمره شعرًا وخطابة، في إِجانة عمرها، لتسكر حبًّا ومحبةً عتّقتهما له وعنه في خمارة قلبها والفكر، حتى طابا خمرةً ستقدِّمها للمدعوين إلى عرس إِبداعٍ لن ينقضي فصولًا؛ ما دامت ميراي الصّديقة، كهرمان إبداع وجامعة مبدعين حول شعرها كما ومأدبة “شاعر الكورة الخضراء” ديوانَ عمر.

عنّايا، في 24/ 6/ 2020

    

 

 

 

 

 

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *