دروب الظلمة

Views: 791

يوسف طراد

(ثمن النسخة أربع ليرات لبنانية أو ما يعادلها) هذا المبلغ، هو ثمن كتاب بعنوان (طريق الخطيئة)، للأستاذ الشهيد سليم اللوزي، بطبعته السادسة لقصّةٍ كتبها عام 1954 ونشرها متسلسلة في مجلة الحوادث.

مئةٌ وثلاثٌ وأربعون صفحةً، ضمّت العديد من الحلقات المشوّقة المنشورة في المجلّة، مجموعة في كتابٍ من دون إهداء، طُبع على مطابع مؤسّسة الحوادث. بعد قراءة الكتاب يتيقن القارىء أن الإهداء موجّه إلى التي كانت تدعوها بطلة القصّة أختاه وقد ابتدأت ذكرياتها بالكتابة (عزيزتي الآنسة الفاضلة…)، هذه الفاضلة هي مسؤولة عن مدرسةٍ تضمّ طالبات يتيمات فقدن الأب والعائلة والسند.

المراهقة بطلة القصّة المُرسلة من قبل الفاضلة لتوزيع بطاقات على (أصحاب الأريحيات وذوي القلوب الطيّبة) من أجل حفلةٍ لدعم صندوق المدرسة، وزّعت مشاعرها اللّاهبة، وجسدها المتعطّش للعشق الممنوع، وقبضت ثمن البطاقات أضعافًا، لتمتلك عدّةَ الخطيئة ثيابًا مثيرة بالمال المتبقي. خمس تجارب مع خمسة رجال، بأهواءٍ مختلفة، ومزاجاتٍ مملوءة رغباتٍ يسكنها جحيمٌ مشتعلٌ ابتدأ بها الكتاب، للوصول إلى قصّتين غيّرتا مجرى حياتها، قصّتها مع الفنّان الذي رسمها لوحةً نابضةً، وقصّتها الأخيرة مع الأمير الذي دفع ثمن اللوحة مالًا، وثمن جسدها الذي لم يحصل عليه ورضاها كلّ ما ملك، من دون الحصول على حبّها. فكان زواجها منه أغرب من صفقة القرن، كلّ ذلك لإرضاء والدتها التي ربّتها على الفضيلة، وإشباع نهمها إلى المال والشهرة، والوصول إلى حلمٍ رقصَ في مخيلتها مع راقصات الباليه الإيطاليات، متمنّية أن تكون إحداهن.

هل لأن الماضي كان جزءًا من الكاتب، قد كتب بتجرّدٍ مشرِّحًا الحقائق، كي لا تتناسل أجيالٌ وراء أجيالٍ لا تعترف بالحبّ، بل تسرق اللحظات من زوايا المطاعم المظلمة. نعم كتب اللوزي، بعد أن حصد الرعشات الحارّة في عزّ الصقيع، وزرعها في كتاب (طريق الخطيئة) فأزهرت حقائق مرةً، ضاقت بها الرؤية، العبارات، المعاني والكلمات. كتب عن الفقر، الظلم، الشهوة، الشذوذ، المال، الدسائس، الخيانة، رعشات الأجساد الصادقة في الحبّ، الرغبات الغريبة، العلاقات المشبوهة والشهرة كأنه يكتب اليوم، فلم يتغيّر شيء منذ حوالي ثلاثة أرباع قرنٍ من الزمن، لأن قفزة التكنولوجيا الهائلة في جميع المجالات، وخاصّة الإعلام والاتّصالات، لم تمحِ المشاعر والرغبات المتنوعة التي وردت في قصّةٍ كُتبت عام 1954، بل هي رغباتٌ ومشاعر عابرةٌ للحاضر متخطّيةٌ المستقبل، وإلّا لما استمرت منذ بدء التكوين إلى يومنا هذا، بدءًا بآدم وحوّاء مرورًا بقايين وهابيل، مدن لوط، حبّ بنلوب وروائع شكسبير.

فنّد الكاتب النساء، فمنهنّ من كنّ زهرة من الزنبق، خلقنّ ليعطرنا الدنيا، ومنهنّ من كنّ (ثمرة كرزٍ، خلقت لتُعصر على الشفاه). سخِر من المال وطرق الحصول عليه (ما أسهل الثراء يا أختاه، في مجتمعٍ كمجتمعنا، كل شيء فيه يرتدي مسوح الرهبان). وضع المؤسسات التربوية في ذلك الزمان عند مسؤولياتها، بالنسبة إلى التربية والثقافة التي لا تميّز بين الجنس والحبّ (ماذا علمتني المدرسة؟ علمتني القراءة والكتابة واللّغة الفرنسية… وماذا بعد؟ لا شيء. هل علمتني شيئًا عن الحياة، عن الدنيا، عن الرجال، عن الحبّ الذي هو أهم شيء في حياة المرأة؟)

ألهذا قتلوك يا سليم اللوزي؟ ألأنك لم تسر على طريق الخطيئة، فأنصفت الحب، المرأة، الوطن والوطنية. ألهذا قتلوك؟ ألأن الحقيقة صدحت من يراعك عن الإحتلال الذي كان عندهم وصاية. ألهذا قتلوك ألأن الظلم القاهر في نظرك كان عندهم ضرورة للأمن القومي وخدعة المسار والمصير. نعم غرسوا الأقلام في أحشائك وأحرقوا أصابعك بالأسيد لأنك لم تحابِ، ولأنك كتبت في السياسة حقائق دامغة بنفس الأسلوب الذي كتبت فيه قصة (طريق الخطيئة). كشف سليم اللوزي عري الأمنيات، لم يحجبها بغيمة محتشمة، بل فكّ أزرارها كما فكّ الفنان أزرار شبه قميص بطلة القصة، بحجة رسمها في لوحة لترتسم لوعةً أصابته في الصميم.

(طريق الخطيئة) قصّة علّمتنا الشغف على أوتار الروح، متراقصة على خيط يربط الفضيلة بالخطيئة في حضور العبث. وحده العاشق يدرك النبض بين السطور، والفرح في شوق عناقٍ لم يتمّ. فعند الانتهاء من القراءة ينبهر القارىء من النور الذي يضيء دروب الظلمة.

(الجمعة 31 كانون الثاني 2020)

***

(*) موقع Mon Liban

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *