كَم كنتُ ساذجاً

Views: 297

باسم عون

 

صرخة وجع من وسط قطاع الهندسة

 

منذ عقدين ونيّف، كانت عصبة من الخرِّيجين في قسم الهندسة المعماريَّة ترفلُ بأثوابِ الفخر والنّجاح. أثوابٌ تُزيِّنها الأشرطة الملوّنة وتعلوها قبّعاتُ التّخرّج السّوداء، تُجلِّلُ الهامات “الذكيَّة”، فترفع رؤوس أهلٍ بذلوا الغالي والنفيس للوصول بفلذات أكبادهم هؤلاء إلى عتبات المستقبل الواعد…

وكانت احتفالاتٌ وقبلاتٌ وتهانٍ. وعلى هامش وداع المرحلة الجامعيَّة، راح أفرادُ تلك العُصبة يتراشقون بالأفكار بعدما ضجَّت الرؤوس بالأحلام والأماني. ودارت أحاديثُ، ونُوْقِشَتْ أفكارٌ، وكانت الخُلاصة تصبُّ في خانة السّفر إلى الخارج طلبًا للعمل حيث المجالات الرّحبة والإثراء الوشيك.

غير أنّ هذه الخُلاصة لم تكن لتُرضي “فيلسوف” العُصْبة الذي هو أنا. فأدليت بمطالعةٍ تاريخيّة، روحيّة، اجتماعيّة وفنيّة، كانت لتحظى – فيما لو أُلقيتْ في العصر الرومانسي البائد – بعلامة جيّد جدًّا، ولكنّها لم تنَلْ من الرِّفاق إلّا ابتسامات شفوقة، تشي بما تحفّظَتْ به الألسن من مثل ما معناه: “يا له من مسكين”!

وها أنا اليوم – وبمزيد من الأسف والأسى – أستعيد بعض ما جاء في مطالعتي “السعيدة الذكر” تلك:

“فعلى المستوى التاريخيّ، قُدِّرَ لهذا الـ”لبنان”، أيّها الأصدقاء، أن يتّكئ على أمجاد ستّة آلاف سنة من الحضارة. فأجدادُنا الفينيقيّون رادوا المجاهل البحريّة والبريّة، وأشادوا لنا حضارةً قلّ نظيرها. هؤلاء الرّوّاد الذين بلغوا قبل “كولومبوس” الشواطئ الأميركيّة، عابرين الأطلسي – بحر الظُّلمات في ذلك الوقت – ساعين وراء السؤدد والرفاه الاقتصادي، ممّا يعود بالخير على وطنهم الأم فينيقيا. وقد تعُود تسمية بحرنا بالبحر المتوسّط كونه يتوسّط المستعمرات الفينيقية المنتشرة على شطآنه. ومنعًا للإطالة، يكفي الفينيقيين فخرًا اختراع الأبجدية المباركة التي غدت من أُسس الحضارة في العالم أجمع، ولا غروَ فقد استعار الكتاب تسميته العالمية Bible من إحدى أشهر مدنهم، أعني مدينة “بيبلوس” الجُبَيليّة.

أمّا على الصّعيد الرّوحيّ، فكان لديانة الفينيقيين السَّمِحَة وثالوثهم المختصر بِـ (إيل وبعل وعشتروت)، الإلهامات الكبرى في ديانات العالم الحاضرة… وهذه التوراة والعهد القديم يزخران باسم لبنان، فيذكرانه أكثر من سبعين مرّة، حتى بات الأنبياء العبرانيّون ينظرون بعين الغيرة والحسد إلى هذا الجبل الشامخ الذي بات حسرة في القلوب، ابتداءً بموسى الكليم وانتهاءً بالزعماء الصّهاينة اليوم في فلسطين المحتلّة.

وفي الشأن الاجتماعي، فإن هذه المساحة من التّلاقي بين شرائح المجتمع على كلّ انتماءاتها الإثنيّة والدينيّة والقوميّة، تكفي لجعل هذا الوطن وطن الرسالة والتعايش، ما يمنحه الفرادة بين الحضارات المعاصرة. فضلًا عن متانة الجذور التي تربط الأجيال من خلال رسوخ القيم الاجتماعية، وعلى رأسها رسوخ مبدأ العائلة المتضامنة. فها هنا ترقد عظام الأجداد الذين صمدوا لنبقى، وها هنا الأهل المتفانون في سبيل الأبناء. ألم يقُل سعيد عقل:

“مِنْ حُفْنَةٍ وَشَذا أرْزٍ كِفايَتُهم زُنودُهُم إنْ تَقِلَّ الأرْضُ أوْطانُ”.

وهنا لا بُدَّ من الانتقال إلى زبدة القول، وهو أنّ ما نَقُص من أساس لبنان الحضاري قد تمَّ رفدُه بفنون أهله وإنجازاتهم. فلقد تضافرت جهود الكُتّاب والشّعراء والموسيقييّن في صياغة ما نعرفه اليوم في هذا الوطن؛ فهذه الكوكبة المجيدة مِمّن ذكرت، وعلى رأسهم الرحابنة وفيروز وصباح ووديع الصافي وزكي ناصيف ونصري شمس الدين وعبد الرحمن الباشا ونعيمة وجبران والريحاني وعبّود، وغيرهم كُثر ممّن يضيق المجال بذكرهم في هذه العجالة، هؤلاء المباركون كان لهم الفضل الكبير في ترسيخ ما نَقَصَ من هويّة هذا الوطن في اللّاوعي الجماعي عند أبنائه.

نعم يا أصدقائي، كل هذه الأمور مجتمعة باتت جزءًا لا يتجزّأ من كياني، فاسمحوا لي أن أتحفّظ على فكرة السفَر، مع ما يكتنفها من طموح؛ فلقد تأمّلت وضعي جيّدًا وقد أرعبتني فكرةٌ ألحّت عليّ طويلًا فكدت أطير…”.

وهنا اشرأبّت أعناق الرفاق مستفسرين. فقلت بكل سذاجةٍ: “أخاف يا أصدقائي فيما لو كنت مغتربًا أن تتناهى إلى مسمعي أغنية فيروز:

“نسّم علينا الهوا من مفرق الوادي، يا هوا دخل الهوى خدني على بلادي”.”

فانفجر الرفاق بالضحك حتى انساب الدّمع من عيونهم!

هكذا انتهت المطالعة.

…وها أنا اليوم وسط هذه الأزمة التي يمرُّ بها وطننا، إذ تعتصرني المرارة على لبنان الجميل الذي قضى، أبكي – وأنا هنا بين أهلي – ولا أنفكُّ أُرَدِّدُ “خدني على بلادي”! بلادي التي نُزِعَتْ منّا ونحن على أرضها، فباتت أرضًا يبابًا يتراءى شبح المجاعة بين خرائبها، وتلك “الغربة” التي كنتُ فزِعًا أن أكبر فيها، وفقما تقول فيروز أصبحَتْ ههنا بين ظهرانينا…

وإذ رُحْتُ أُراسل زملاء الأمس من المهندسين المغتربين الخالين من أيِّ وهمٍ حضاريّ أو إرثٍ روحيّ وفنّيّ، علّني أستطيع بواسطتهم الخروج من هذا الجحيم الوطني، أراني أردّد في سرّي وفي العلن لازمةً لا شكَّ في أنّها سَترافقني ما حَييت: “آه، كم كنت ساذجًا”!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *