العبثيّة اللبنانيّة احتفالًا بالمئويّة الأولى

Views: 900

أ.د. مشير باسيل عون

 من أبلغ الأوصاف التي يمكن أن ينعت بها الإنسانُ اللبنانيّين أنّهم أهلُ العبث. اللبنانيّون عبثيّون، فوضويّون، متعجرفون، فاسدون، مستهترون، انتهازيّون، انتحاريّون! وباستثناء قلّة نادرة أضحت على شفير اليأس والهجرة، بات اللبنانيّون في معظمهم يعبثون بكلّ شيء: بوطنهم، واجتماعهم، ومعيّتهم، وضمائرهم، وقيَمهم، وأسَرهم، وأولادهم، ومستقبلهم، وبيئتهم، وطبيعتهم، ومواردهم. ولكن لمَ هذا العبث الجهنميّ؟ ومن أين أتاهم فأطبق عليهم؟ اعتقادي الأرسخ أنّ الحرب اللبنانيّة (1975-1990) والاحتلالات والوصايات والإملاءات أجهزت على الشخصيّة اللبنانيّة الفرديّة والجماعيّة. فأفسدتها وأبطلت فيها حسَّ الإنسانيّة السويّ.

ليس للمرء أن يبحث في مواضع أخرى عن الخلل الجسيم الذي أصاب الذات اللبنانيّة. فاعتلالها ناشبٌ فيها. وقد يكون السبب الأعمق عالقًا بتراكم القرون المظلمة منذ العصور الوسطى، مرورًا بالأزمنة الحديثة، وصولًا إلى العقود الأخيرة من القرن العشرين والعقدين الكالحَين من القرن الحادي والعشرين. إذا أكبّ المرء على تحليل أسقام النفس اللبنانيّة الفرديّة والجماعيّة، أرعبه الانحرافُ النازل بها. فاللبنانيّون، في سوادهم الأعظم، منحرفون في مسلكهم الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ. ولا يقنعني أحدٌ بخلاف ذلك، إذ ما الذي يفسّر الانهيار الإنسانيّ والأخلاقيّ الذي يضرب بنا من كلّ حدب وصوب؟

 

من لم يقتنع بما أقوله اليوم، عليه أن يربط بين حادثتَين لا رابط بينهما في الظاهر. منذ سنوات وأنا أشاهد من على وسائل الإعلام منظرًا تقشعرّ له الأبدان والعقول. الحادثة تصوّر لنا رجال الأمن يحاولون أن يصدّوا لبنانيًّا متهوّرًا يهمّ بالاعتداء على بعضٍ منهم، وذلك من بعد أن أوقفوه معاينين في مسلكه مخالفةً صريحةً لقانون السير. على طريقة اللبنانيّين المتعجرفين المستقوين بزعمائهم الفاسدين، ينتفض اللبنانيّ المتهوّر لكرامته وكرامة زعيمه ويرفض الانصياع لأحكام القانون، لا بل ينهال بالسبّ والشتم والتعيير البذيء. أفدحُ ما يُحزنني في هذا المنظر أنّ رجال الأمن أنفسهم كانوا على الأغلب يتوسّطون بين اللبنانيّ المخالف المعتدي ورجال الأمن الآخرين المعتدَى عليهم. فكيف لوطن أن يُبنى على احترام القانون إذا كان المسؤولون عن حماية القانون يلجأون إلى المساومة والمدارأة والتسوية الرخيصة اجتنابًا لغضب الزعيم وانتفاضة عبيده الذين يعيثون في الأرض فسادًا؟

هل يذكر اللبنانيّون زمن الفرقة 16 في قوى الأمن اللبنانيّ، وهي التي كانت تفرض القانون العادل فرضًا مهيبًا يُظهر قوّة السلطة اللبنانيّة الأمنيّة الحازمة؟ ذاك كان زمن الانتماء إلى لبنان الفكرة الحضاريّة الرفيعة، وزمن الدولة اللبنانيّة الجامعة الحامية الحكيمة، على الرغم من بعض الفساد فيها، وزمن إخضاع اللبنانيّين جميعًا لسلاح الدولة اللبنانيّة الوحيد، وزمن تنمية المناطق اللبنانيّة تنميةً عادلةً من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وزمن التوافق على إبعاد لبنان عن آفات الشرق العربيّ المهلكة. غير أنّ نوائب الدهر أرخت بثقلها كلّها على الوطن الصغير الساعي إلى احتضان التنوّع الإنسانيّ في أبهى تجلّياته. فأطبقت عليه أطماعُ الطامعين  وأثخنته بالجراح الكيانيّة حتّى انهار انهيارًا عظيمًا، إذما من كيان سياسيّ على وجه البسيطة يمكنه أن يصمد أمام الزلازل الإقليميّة السياسيّة والأمنيّة التي هزّت لبنان منذ نهاية السبعينيّات من القرن العشرين. فلو أراد العالم العربيّ والغربيّ أن يصون الاختبار اللبنانيّ، لما وضعه على فوّهة البركان الكونيّ، وتركه وحيدًا يصارع الأقدار متسلّحًا بهشاشة بنيانه الطائفيّ التعدّديّ!

 

ما الرابط بين الحادثة الأمنيّة المألوفة المقزّزة هذه والانفجار الكيميائيّ “الهيروشيميّ” في بيروت؟ أرى خيطًا ثقيلًا أسود من التوطؤ المقيت في مسلك اللبنانيّين بين ذهنيّة الإفساد وذهنيّة الاستعباد. الزعماء يُفسدون الأرض ومن عليها، والشعب يخضع للاستعباد والمذلّة. وحده هذا التواطؤ يفسّر أسباب الإبقاء على أخطر الموادّ ضررًا في مخازن المرفأ البيروتيّ. أمّا كيف اشتعلت وانفجرت، فتلك أحجية الزمان اللبنانيّ. العقلاء لا يخزُنون مثل الموادّ هذه في الموضع المدنيّ الآمن هذا.وحده هذا التواطؤ يفسّر أسباب الانحراف الخطير الذي ألمّ بالشخصيّة اللبنانيّة، فأفسدها وأسقمها وعطّلها وأفرغها من كلّ مضامين الانتساب الإنسانيّ السليم.

ما دام اللبنانيّون، في سوادهم الأعظم، يُصرّون إلى اليوم على مناصرة زعمائهم الفاسدين وأحزابهم المرتكبة وعشائرهم المستكبرة المتخلّفة، فإنّهم يستحقّون أن ينعموا بمذلّة الاستعباد هذه. ما دام كلّ لبنانيّ يعتقد حتّى اليوم أنّ زعيمه على حقّ في كلّ أمر وعلى الإطلاق، وأنّ الآخرين على ضلال في كلّ أمر وعلى الإطلاق، وأنّ الأرض اللبنانيّة له وحده دون غيره، وأنّ حزبه هو الغالب، وطائفته هي المنتصرة، وعشيرته هي المقتدرة، وأنّ الآخرين أعداء يجب إبادتهم أو خصوم ينبغي إخضاعهم واستعبادهم، فإنّ الاجتماع اللبنانيّ سينقلب مقالبَ أخرى من الانحراف لا تخطر ببال أحد.

 

ما دام اللبنانيّون، في سوادهم الأعظم، يفضّلون إرادة الزعيم على حكمة القانون، ويأتمرون بشريعة الغاب عوضًا من الخضوع لشرعة حقوق الإنسان الكونيّة، ويؤثِرون مصلحتهم الخاصّة على الخير العامّ والمجال العموميّ، ويتبارزون في اختلاس أموال الخزينة، ويتفنّنون في مزاولة الخبث والرياء والتقيّة، ويساومون على الغالي والرخيص من أجل مقعد نيابيّ أو وزاريّ أو بلديّ أو حتّى اختياريّ، ويتشاطر بعضُهم في سرقة بعضهم الآخر، من بائع الخضار والبوّاب والحارس والحمّال إلى الطبيب والأستاذ الجامعيّ والقاضي والوزير، ويستبيحون أعراض الناس وممتلكاتهم وأرزاقهم وبيئاتهم، فإنّ الاجتماع اللبنانيّ سيظلّ على وهنه وضعفه وانحطاطه وتفكّكه وانهياره.

مادام اللبنانيّون يصدحون ويزمُرون ويرقصون للسلاطين الخارجيّة، ويهزجون ويتغنّون ويتباهون بالإيديولوجيات الغريبة عن تراثهم الإنسانيّ الفكريّ التعدّديّ، ويستجلبون العبوديّة الرخيصة من أصحاب النفوذ الغرباء الطامعين في استتباع الوطن اللبنانيّ واستغلاله واستعباده، ويُفني بعضُهم بعضًا من أجل الحظوة الرخيصة والتنعّم المبتذل برضى القناصل والسفراء والموفدين، من أهل الشرق وأهل الغرب، فإنّ الاجتماع اللبنانيّ سيُبتلى بمصائب ونوائب ودواهٍ وعظائم تفوق التصوّر وتتخطّى المنطق.

 

ما دام اللبنانيّون، في سوادهم الأعظم، يعتقدون أنّهم أفضل الناس على الإطلاق، وأنّهم يعلّمون الأرض الحرف والفكر والممارسة والاقتصاد والحرب والممانعة والتجارة والفنّ والسياسة والأخلاق والدِّين، وأنّهم يستطيعون أن يتحدَّوا العالم كلّه ويعادوا الأمم المتّحدة والمنظّمات العالميّة والهيئات القانونيّة والمحاكم الكونيّة، وأنّهم يتلاعبون بالمبادئ والأصول والقيَم والنواميس والشرائع من غير رقيب ولا حسيب، فإنّ الاجتماع اللبنانيّ سوف ينحدر إلى القعر الأقصى من الانحطاط حيث لا حياةٌ ولا نورٌ ولا رجاء.

علّة العلل في انحراف الشخصيّة اللبنانيّة هو التعجرف القبيح هذا الذي يمنع اللبنانيّين، معظم اللبنانيّين، من الاتّضاع والاستكانة والترويّ والاتّعاظ بأمثولات الدهر التي أنشبت مخالبها في صميم أجسادهم شطبًا وشقًّا وذبحًا على تراخي المئويّة الأولى. أوَما آن الأوان لكي يسأل اللبنانيّون أنفسهم عمّا صنعوه من بعد أن احتربوا احترابًا فظيعًا واستمات بعضُهم في إبادة بعضهم الآخر؟ أين لجان تقصّي حقائق الحرب الأهليّة، ولجان تنقية الذاكرة، ولجان ترميم الهويّة، ولجان التوافق على أصول المعيّة اللبنانيّة ومبادئ التمييز بين القريب الشريك والغريب المعتدي، ولجان التغافر والتصالح والتسالم؟ وأين لجان محاسبة الفاسدين الذين نهبوا خيرات الوطن اللبنانيّ منذ أن وضعت الحرب اللبنانيّة أوزارها واعتقد الناس أنّ الزمن قد حان للانصراف إلى النهوض والترميم والإعمار؟

 

لا ريب في أنّ هذه الأسئلة مصيريّة، فاصلة، حاسمة. غير أنّ السؤال الأخطر يصيب عمق الذات اللبنانيّة. هل أدرك اللبنانيّون اليوم أنّهم في سوادهم الأعظم مرضى معتلّون يحتاجون إلى معالجة كيانيّة نفسيّة عميقة؟ وهل يعترف اللبنانيّون أصلًا بمرضهم الخطير؟ وكيف لا يكونون على هذا الاعتلال، وأقلامهم الاقتراعيّة ما برحت تنتخب الطغمة الفاسدة هذه من السياسيّين، وعقولهم السقيمة ما زالت تشايع جلّادي الوطن وخائنيه ومجرميه، وأصواتهم المهتاجة ما فتئت تصدح بمديح المتسلّطين النافذين النهّابين؟ في اعتقادي أنّ الذات اللبنانيّة مريضةٌ مرضًا يصيب كلّ تجلّيات الحياة الإنسانيّة فيها. قلتُ بعض القول في المرض السياسيّ، إذ إنّه الأخطر والأفدح. ولكن ينبغي التوسّع أيضًا في الأمراض النفسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة وسواها من الاعتلالات التي تُنهك الشخصيّة اللبنانيّة الفرديّة والجماعيّة، وتقذف بالوطن اللبنانيّ في لجّة المهالك. وما الانفجار الكارثيّ في مرفأ بيروت سوى مهلكةٍ من المهالك التي تتربّص بشعب فقدَ أصول الإدراك الإنسانيّ السليم في مسائل الانتماء البشريّ المشترك، والكرامة الكيانيّة الواحدة، والحرّيّة الذاتيّة الأصليّة، والتنوّع والتحاور والتعاون والتضامن.

عوضًا من الاحتفاء بالمئويّة الأولى على غرار الدول المتحضّرة التي تنير السماء في عيد استقلالها الوطنيّ برسوم ناريّة متآلفة مع البيئة لا تؤذي الطبيعة ولا تضرّ بالإنسان، احتفل اللبنانيّون احتفال العبثيّين بإحراق مدينتهم، عاصمة القانون، ومنارة الشرق، وموئل الحرّيّات، وموطن التنوّع الحضاريّ الرفيع. فأظهروا لجميع أهل الأرض أنّهم لا يستحقّون الوطن البهيّ هذا، والطبيعة السخيّة هذه، والمناخ الهنيّ هذا، والتعدّديّة الحضاريّة الواعدة هذه، والتألّقات الفرديّة النبوغيّة هذه.

 

أنصح اللبنانيّين القلائل الذين ما برحوا يعتصمون بمبادئ الحقّ والخير والجمال والمحبّة، ويؤثرون قيَم العدالة والإنصاف والتضامن والتنوّع والتشارك، ويتخلّقون بأخلاق النزاهة والاستقامة والنبل والإخلاص، ويتزيّنون بصفات الرقّة والعطف والحنان، أنصحهم إمّا أن يتلاقَوا خارج المسرح السياسيّ الفاسد ويتعاونوا من أجل إنشاء مجتمع لبنانيّ جديد يشبههم ويشبه الأحلام البريئة التي يتصوّرونها لأولادهم، وإمّا أن ينفضوا غبار أرجلهنّ وأرجلهم ويرحلوا عن هذا المستنقع الآسن، حرصًا على حياتهم، وضنًّا بكرامتهم، وصونًا لمستقبل أولادهم. أمّا إذا استحال الأمران معًا، فلا بدّ، والحال هذه، من الاستنجاد بوصاية أمميّة تستنقذ اللبنانيّين من أنفسهم. في هذه الحال، يتبيّن للجميع أنّ هذا الوطن قد انتهت صلاحيّتُه، فأمسى في موضع الإخفاق البنيويّ الذي يجلب على أبنائه أفدح المضرّات. حين تعجز الأوطانُ عن الاضطلاع السويّ بمسؤوليّاتها الإنسانيّة، ينبغي أن يُقفل عليها وتُحجر حتّى يعاد ترميمُها إنسانيًّا وأخلاقيًّا ووطنيًّا. ذلك بأنّ الملايين الخمسة من اللبنانيّين لا يجوز أن يصبحوا رهائن الإجرام المستفحل فيهم ومن حولهم. من بعد أن أثبت معظم اللبنانيّين أنّ نضجهم الإنسانيّ لا يؤهّلهم للانتظام مجتمعًا سليمًا في عمق منطقة ملعونة مصابة بهذا القدر من الزلازل التدميريّة، لا بدّ من الاستنجاد بضمير الأمم المتّحدة حتّى تحتضن الكيان المعتلّ وتحميه من مآسي الانفجارات الداهمة المبيدة.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *