الطّاقة الذّريّة…

Views: 157

هدى عيد

” لا توجد قوّة تتفوّقُ على هذه الطّاقة الذّريّة، أي ذرة حبّ الوطن… إلاّ أنّ حبّ الوطن يشكّلُ مادة روحيّة “خام”، تنتجُ طاقة أكبر من طاقة اليورانيوم والهيدروجين”.

 تضعنا واقعة التّفجير المشؤوم لمرفأ العاصمة الّلبنانيّة بيروت، عصرَ نهار الثّلاثاء الفائت، وجهاً لوجه، أمام صدقية هذه العبارة للزّعيم الكوبيّ الرّاحل فيدل كاسترو، ذاك المناضل الّذي خَبِر معنى حبّ الوطن، وأدرك كيف يمكن تحويل المشاعر الوطنيّة المتوثّبة إلى طاقة خلاّقة قادرة على التّحدّي، وعلى تحقيق الاختراق.

 يذهلكَ، بعد الاستيقاظ من هَول الانفجار، ورُعبه، ودخانه، وضجيج تحطيمه زجاجَ أبنية العاصمة الجميلة، يذهلك مشهدُ الّلبنانيّين على اختلاف انتماءاتهم ومناطقهم وأهوائهم، وهم يتهافتون على إعانة بعضهم البعض، وعلى نجدة وإنقاذ من جُرح من مواطنيهم، أوانتشال جثث مَن قتل، وبات تحت الرّكام ، مؤكّدين المرّة تلو الأخرى، أنّ حبّ الوطن طاقةٌ تجاوزيّة هائلةٌ تستطيع أن تكون، متى أُحِسنَ التّعاملُ معها، شحنةً حقيقيّة دافعة إلى إنجاز تغييرٍ طال انتظاره على ترابِ هذا الوطن، وتعثّرت المسالكُ في سبيل الوصول إليه.

تحكمُ الّلبنانيَّ منظومةُ تركيبٍ غريبة قد لا تجد ما يشبهها عند البشر، في سائر بقاع الدّنيا؛ فأن تكون لبنانيّاً يعني أن تبحثَ طوالَ الوقت عن جذورك وهويّاتك، وأن تنتشل الحججَ والبراهين الّتي تثبتَ انتماءَك من ناحية، وتبرّر بالمقابل شوقك النّسغيّ إلى الهروب. أن تكونَ لبنانيّاً يعني أن تعيش طوال الوقت على الحواف، أن تجيد رقصةَ الفرح والموت في آن، أن تغازلَ أصابعُك النّايَ، وفي يدك الأخرى تحملُ السّكين.

أنت في لبنان إنسانٌ ذكيّ، شديدُ الحيويّة، دائم البحث عن الحياة، لكنّك كثير التّعثر بنظامٍ يطبق عليك الخناق، يستغلّ وجودك، ويرغب في تصفيةِ دمائك لأنّك تشاركه الإقامة على هذه الأرض المربكة الّتي أثارت، وتثيرُ دائماً شهية الفاتحين، وأطماع الغزاة !

أنت تحيا في لبنان، يعني أنّك تعيش في الوطن العصيّ على الاستقرار، في السّحر وفي الخطر. تنهضُ عند كلّ صباح، فتسبّح بارئكَ الّذي أتاحَ لناظريك جمالاتٍ قصوى، وأباح لقلبك أن يستشنق عبير الحبّ، يرتشف قطراته مع زغردات العصافير تربَى على الأغصان،  لتصيرَ في الظّهيرة إنساناً غاضباً موتوراً، ترفضُ كلّ ما يجري أمام ناظريكَ، من انتهاكات لإنسانيّتك، لحقوقك في تحصيل أبسط شروط العيش النّبيل، ثمّ تحلم بل تصمّم في الفترة المسائيّة، على حزم حقائبك سريعاً، والهرب إلى أحضان وطن ( غريب)، قد يوفّر لكَ فرص العيش الكريم، لكنّه لن يتمكّن في أيّة لحظة، من احتلالك كما احتلتكَ، وتحتلّك عاصمة لبنانكَ بيروت.

أنتَ لبنانيّ يعني أنك مُحتلٌّ في الصّميم؛ استباحتكَ هواجسُك بطِلاب غدٍ آمن سعيد، بخوف من نزاعٍ صميميّ قد يستفيق، بحذرٍ من عدوٍ يتربّصُ بك، وأنت تصرّ طوالَ الوقت على تحدّيه.

يصيبكَ إحباطٌ، وقد يعتريكَ وهنٌ أحياناً، فتطالب من صَلبوكَ حيّاً على خشبة صليب المطالب الحياتيّة السّخيفة بالرّحيل عنك، وبإتاحة فرص العيش لقلبك السّخي، وقد ترغبُ بشدّة في إلقاء هذا الحمل – حملِ الوطنيّة والانتماء- في وجوههم، والسّعي سعيَ آلافٍ سبقوك إلى عالم موهوم بحبّ يسكنك من جديد، لكنّك سرعان ما تكتشف أنّ هؤلاء المهاجرين مسكونون في غربتهم، مثلكَ تماماً، بهذا اللّبنان العجيب العصيّ على النّسيان، فتعضّ على جراحك، وتعاود الصّبر مسكوناً بالحنين، ممزّقاً أبديّاً بين النّعم والّلا.

بين الحُلم والحلم تقيمُ منطقة قصيّةٌ فاصلة تقضمُ الإحساس بالرّاحة والأمان، إنّها منطقة الشّعور الماحق بالعجز، بانعدام القدرة على تحقيق الرّغبة بتقدّم ما، بخرق حقيقيّ ينقلك من حالات العجز إلى إمكانيّة الإنجاز. تستغربُ كلَّ هذا الخواء، كلّ هذا الغياب لأنموذج وطنيّ ينقذك من هواجسك، من قسوة الحياة الّتي صارت فجأة غير معقولة، وغير مقبولة وغير عادلة، ومتمرّدة على أيّ احتواء. بل يُدهشكَ تماماً أن تجد مواطنيك يطالبون رئيساً غربيّاً ضيفاً بإعادة احتلال البلاد، أي بإفقادهم الحريّة مجدّداً، لأنّهم وجدوا أنّ قسوة الانتداب صارت أرحم من وحشيّة الدّيموقراطيّة الّتي ابتكرها زعماؤهم لحكم البلاد!

في لبنان يحكم التّناقضُ كلّ شيء: المظهرَ والداّخل، الطبيعةَ والمدنيّة، التّعقّل  وجَهالة السّلوك، التّدّين والإلحاد والسّفالة، المواطنيّة المتسامحة والعصبيّات المقيتة، وأنت، أنتَ الإنسانُ العاديّ، المواطن المسالم الّذي يريد الحياة كما يُفترض أن تكون الحياة، تجدُ نفسك طوال الوقت منتهكاً، منهوباً، مسلوباً أمام أحداثٍ لا تشبهك، مسوقاً بالقوّة، إلى مواقفَ تتنافى مع مبادئك وإنسانيتك، والأهمّ من ذلك كلّه تجدُ نفسَك راقصاً رشيقاً في حفلةٍ، لا تمتّ إليك بصلة، حفلة لا تشبه راقصيها أبداً، لكنّك مدعو دائمٌ إلى الإقامة على موائدها،  ومطلوبٌ منكَ فيها أن ترفع الأنخاب!

( 7 آب 2020)

(Valium)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *