أدب الأوبئة: سرديّات رمزيّة ورسائل تنبّؤيّة

Views: 1110

د. فاطمة واياو

قال الفيلسوف اليونانيّ أبيقور Epicurus: “يُمكن للإنسان أن يكونَ في مأمنٍ من كلّ شيء سوى الوباء، فأمامه يعيش كلّ البشر في مدينة لا أسوار لها” وهي حقيقة ما زال الكائن البشريّ يعيشها إلى اليوم، فمع الأوبئة يتساوى عالَم ما بعد، بعالَم ما قبل في تاريخ البشريّة.

هل كان سيختلف شعور الناس لو قرأوا مثلاً عبارتَيْ: “النضال المُشترَك هو ما يجعل المجتمع مُمكِناً”، أو “إنّ كُلَّ ما يستطيع الإنسان أنْ يربحه في معركة الطاعون والحياة هو المَعرفة والتذكُّر”، من الرواية الأكثر شهرة “الطاعون” لألبير كامو Albert Camus؟ بالتأكيد سيحارون أمام هَول ما يقع من ضحايا كورونا، ونحن في القرن الحادي والعشرين، أليسَ غياب النضال المُشترَك والتعاوُن الإنسانيّ وعدم أخذ عِبَرٍ من دروس التاريخ من بين آفات عصرنا الحالي؟

لقد شكّلت رواية “الطاعون” صرخةً وجوديّة فلسفيّة عبَّر فيها الفيلسوف والكاتِب الفرنسيّ الأصل، الجزائريّ النشأة، ألبير كامو، عن عبثيّة الوجود من خلال التخييل الباذخ حدّ الواقع الصادِم. فكما هو معلوم، فإنّ مدينة وهران الجزائريّة لم تُعان الطاعون، حين كتبَ ألبير كامو روايته، هذا المعطى يضعنا أمام حقيقة مهمّة وهي أنّ أدب الكوارث أو الأوبئة كُتِب أغلبه خارج سياق الحادث/ الوباء، أي بعد أو قبل وقوع الكوارث. وهي حقيقة تتجلّى أيضاً في رواية “الإنسان الأخير” The Last Man للكاتبة الإنكليزيّة ماري شيلي Mary Shelly التي شكَّلت أحداثها فكرة استشرافيّة تخييليّة، إنْ لم نقلْ تنبّؤيّة، فالكاتبة أصدرت روايتها سنة 1826 ولكنّها تحكي عن الوباء الذي سيضرب الإمبراطوريّة البريطانيّة كما تخيّلتها ماري شيلي، والذي سينتشر بدايةً من القسطنطينيّة كبؤرة له.

تبدأ أحداث الرواية سنة 2073 وتنتهي سنة 2100. هذه الرواية التي ستلقى وابلاً من النقد والسخرية إبّان فترة صدورها، أي قبل أن يصبح أدب الكوارث أدباً مُعترَفاً به في ستّينيّات القرن العشرين. لقد كانت ماري شيلي في روايتها هذه عرّافة تنبّأت بما نعيشه اليَوم من كوارث وأوبئة، وأيضاً ازدياد أعداد اللّاجئين والتغيّرات المناخيّة المُميتة التي شهدتها الحضارة الإنسانيّة في بداية القرن الحادي والعشرين. إنّها رواية استشرافيّة بامتياز، حيث يُمكن اعتبار ماري شيلي من الكُتّاب الروّاد لما بات يُعرف الآن بأدب الكوارث أو بأدب ما بعد النهايات، بحسب التصنيف الأدبي الإنكليزي. وهي عكس رواية “الطاعون”، حيث إنّ مدينة وهران كان قد ضربها الطاعون فعلاً، ولكنْ 100 سنة قبل رواية كامو، وهو أمر يجعل من التكثيف الخيالي مجالاً للتعبير الباذخ، ذلك أنّ وقوع الكارثة وانتشار الأوبئة في التاريخ يُمكن اعتباره فترة جمود وحِصار وحجْر قد لا يَمنح السرد الكثير من ألَقِه وإبداعه وعنفوانه. ولعلّ ألبير كامو أشار إلى هذه الحقيقة في رمزيّةٍ عميقة من خلال غران Gran أحد أبطال روايته “الطاعون” الذي كان يَعِد بكِتابة قصّة جميلة؛ غير أنّنا نكتشف في نهاية الرواية أنّها لم تتجاوز العبارة الأولى التي أعاد نسْخها خمسين مرّة من دون أن تكتمل القصّة لتكون تعبيراً عن صعوبة التفكير والإبداع في زمن لا يستطيع العقل البشري فيه سوى التفكير في النجاة لا غير.

فيروس كوفيد-19 أو ما يُعرف بكورونا، ليس الجائحة الوحيدة التي عرفتها البشريّة، وبالتأكيد لن تكون خارج أدب الأوبئة أو ما يُصطلح عليه بأدب الكوارث. فكلّ الأوبئة التي مرّت على بني البشر وجدت طريقاً لتُخلَّد في إبداعاتٍ أدبيّة وفنيّة، سواء بوصفها أم بالتأريخ لها أو بالتنبّؤ بها. فمع فرْض الحجْر الصحّي على سكّان الأرض من دون استثناء، على الرّغم من بعض الفوارق في درجة الإغلاق، اتّجهت الأنظار إلى السرديّات التي احتفت بالأوبئة في التاريخ الإنساني. ولعلّ المُنقِّب في المَكتبات العالَميّة لن يعدم أن يجد العديد من الروائع الروائيّة على الخصوص التي جعلت من موضوع الأوبئة مادّة ومحوراً للسرد. فمن “أوديب مَلِكاً” للكاتب اليوناني سوفوكليس Sophocles، وجيوفاني بوكاتشيو Giovann Boccaccio وروايته “الديكاميرون” The Decameron التي صدرت سنة 1353، ومروراً برواية “القناع الأحمر” The Masque of the Red Death للكاتِب إدغار ألان بو Edgar Allan Poe الصادرة سنة 1842، وصولاً إلى رواية “عيون الظلام” The Eyes of Darkness الصادرة سنة 1981 التي تنبّأ فيها الروائي الأميركي دين كونتز Dean Koontz وبشكلٍ غريب، بظهور فيروس من مدينة أوهان الصينيّة، والتي ستعود للواجِهة مع جائحة كورونا، وصولاً إلى رواية “العمى” Blindness للكاتِب البرتغالي خوسي ساراماغو José Saramago الصادرة سنة 1995 التي تصوِّر بدَورها انتشار وباء يصيب العيون في زمانٍ ومكانٍ مُتخيَّلين.

ففي كلّ مرّة تُكتب رواية عن بعض الأوبئة، يكون الزمان فيها في الغالب استشرافيّاً، حيث يتنبّأ الكُتّاب بما سيحدُث في عالَمٍ مُستقبليّ، غير أنّ المُفارَقة هنا أنّه غالباً ما يحدث ذلك بعد عقودٍ من الزمن. فرواية “فراكنشتاين” Frankenstein مثلاً، وهي للكاتبة الإنكليزيّة ماري شيلي، تتنبّأ أيضاً بفظاعة ما يُمكن أن تقترف اليد البشريّة بالطبيعة، حيث إنّ أحد أبطالها، وهو المسخ أو الوحش، يُمكن أن يكون رمزاً لكورونا في زمننا هذا، إذ يموت هذا المسخ في نهاية الرواية، ولكنْ بعد أن يكون قد قضى على الكثير من الأحبّاء. أمّا في الحالات النادرة التي كُتبت فيها الرواية في زمنٍ قريب من زمن انتشار الوباء، فنكتشف أنّ الأبطال ينتمون إلى جغرافيا تبعد بنِسبٍ مُتفاوِتة عن بؤرة الوباء، وهو الأمر الذي نستشفّه من رواية “الديكاميرون” لجيوفاني بوكاتشيو التي صدرت في العام 1353، والتي تسرد مائة قصّة داعِرة، ومُضحِكة، وجنسيّة رواها أبطال الرواية على مدى عشرة أيّام خلال حجْرهم الصحّي في فلورنسا، بينما كان الوباء يتمدّد في شمال إيطاليا، وهي تقنيّة أراد من خلالها الكاتِب أن يمنح لأبطاله فرصةً للعيش وإلهائهم عمّا يُمكن أن يتسرّب إليهم من فظاعات وأحزان ومَخاوِف.

نقطةُ بدايةٍ لعالَمٍ جديد

إنّ إلقاء نظرة على الأدب الذي احتفى بالأوبئة، وبخاصّة منها وباء الطاعون في العديد من السرديّات العالَميّة، يقودنا إلى الوقوف عند رمزيّةٍ دلاليّةٍ مهمّة، وهي أنّه في الكثير من الأحيان يُصبح الطاعون رمزاً للفساد السياسي، وهو ما نستشفّه من حكاية الكاتب الفرنسي جان دي لافونتين Jean de La Fontaine المُعنونة بـ “الحيوانات المُصابة بالطاعون” Les animaux malades de la peste الصادرة سنة 1678. وإذا كانت حكايات لافونتين مُستقاة من الآداب القديمة البيزنطيّة والآشوريّة والهنديّة والعربيّة أيضاً، فإنّه استطاع مع ذلك أن يُحيّنها ويُلائمها مع عصره واضعاً أصبعه على مَكمن الداء السياسي في رمزيّةٍ تشي بالقمع المُمارَس آنذاك في أوروبا القديمة، كما أنّه تحدَّث من خلالها عن العديد من الأمراض الاجتماعيّة كالنِّفاق والظلم والمحسوبيّة والرشوة وغيرها من العلل التي كانت تنخر المجتمع الفرنسي آنذاك.

وفي مرحلة تاريخيّة لاحقة، نجد أنّ الكاتِب الفرنسي ألبير كامو استطاع أن يجعل من روايته “الطاعون” رمزاً سياسيّاً بامتياز؛ فعلى الرّغم من أنّ الرواية تتحدّث عن وباء الطاعون الذي سيضرب مدينة وهران الجزائريّة، إلّا أنّ ألبير كامو كان يرمز إلى تفشّي النازيّة واحتلالها بلده الأصلي فرنسا، والنازيّة كما الطاعون، لن تتحرّر منها فرنسا إلّا بمُساعدة الحلفاء في الحرب العالَميّة الثانية، وبتضافُر كلّ قوى التحرُّر عبر العالَم من أجل القضاء على الطاعون الذي هو صنو الاحتلال والفساد السياسي.

أمّا الكاتِب الإنكليزي دانييل ديفو Daniel Defoe صاحب مُغامرات Robinson Crusoe الشيّقة، فقد أصدر سنة 1722 رواية “دفتر أحوال عام الطاعون” A journal of the Plague Year وثَّق من خلالها لوباء الطاعون الذي اجتاح لندن في العام 1665، مُقدِّماً تاريخاً تفصيليّاً، يجعلنا نشعر بالدهشة ولكنْ أيضاً بالقشعريرة من تفشّي الوباء، الذي بدأ في أيلول (سبتمبر) من العام 1664، بشكلٍ شَرسٍ بين سكّان لندن. غير أنّ الكاتِب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز Gabriel García Márquez في روايته “الحُبّ في زمن الكوليرا” El Amor de los Tiempos de Colera الصادرة سنة 1985 استدعى وباء الكوليرا كتيمة تكثيفيّة غير واقعيّة، لا في الزمان ولا في المكان، ليُتيح لقصّة الحبّ الأساسيّة أن تَجد طريقها للتشكُّل بعيداً من أنظار الفضوليّين إن صحّ التعبير. ليغدو الوباء هنا حاملاً دلالة رمزيّة فنيّة وإنسانيّة أيضاً.

يبدو إذن أنّ أدب الأوبئة ليس مرآة مأسويّة لما يُمكن أن يصيب البشريّة أو أصابها من حروب وكوارث طبيعيّة وأوبئة أو جائحات فحسب، بل هو بالأساس نقطة ضوء تمنح الأمل؛ فجلّ الروايات تنتهي بزوال الكارثة وعَودة الحياة تدريجيّاً إلى طبيعتها، وبالطبع مع خسائر فظيعة في الأرواح. غير أنّ هذه الحياة تغدو في كلّ مرّة نقطة بداية لعالَمٍ جديد. فبعد زوال جائحة الأنفلونزا الإسبانيّة مثلاً في سنة 1919، انبرى العديد من الدول الغربيّة لإنشاء أنظمة صحيّة قويّة تضمن الصحّة كحقٍّ من حقوق الإنسان للجميع وتقديم الخدمة الصحيّة بالمجّان، نذكر على سبيل المثال روسيا التي بدأت بإنشاء نظامٍ صحّي شامل سنة 1920، وبريطانيا التي أثمرت تلك الجهود فيها في العام 1948 بتأسيس المنظومة الوطنيّة للخدمات الصحيّة، أو ما يُعرف بـ NHS. فهل ستمنحنا جائحة كورونا فرصةً سانحة لبزوغ عالَمٍ إنساني جديد أكثر عدلاً ومُساواة ورحمة؟

في النهاية وأمام هذه الفظاعات الماضية والآنيّة وربّما الآتية، يظلّ الأدب الوجه المُشرِق من الكارثة كما قال الفيلسوف والأنتروبولوجي الفرنسي روني جيرار René Girard.

***

 (*) كاتبة من المغرب مُقيمة في إدنبرة

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *