انطوان كرباج … أستاذ وليس مُمَثِّلاً

Views: 34

د.  جورج شبلي

بعضٌ من ناقِدي الفنون رأى أنه بالإمكان أن يُوازَنَ بين قصيدةٍ من الشِّعر ومقطعٍ من مسرح، وإن لم يتَّحد الموضوع. وغابَ عن هذا البعض أنّ القصيدةَ مسألةُ الكلام المُعجِز المُتَفَلِّت من القواعد لأنه يُحسِن تَهييمَ القلب، في حين أنّ المسرح ليس إخباراً بالغُيوب لأنه يَجري في سُبُله على نظام، وفي وصفه على منهاج، وفي وَضعه على حَدّ، وفي صفاته على باب. وأكثرُ، فالمسرحُ هو ذلك المقامُ الملجأ الذي يُركَن إليه، ساعة تقسو الحياةُ ويُمَسّ الواقع بحضارةٍ مُشَوِّهة، لكنّ المسرح لا يرتفع الى هذا المقام من تلقاء ذاته، بل من خلال فنّانين قادِرين يتكرَّمون بالإرتقاء به الى هذا المَصاف. 

انطوان كرباج محاولةٌ بارعة في عِلم المسرح يُحكَمُ لها بالفَضل، لأنه أَعرَفُ الواقِفين على الخشبة بأسرِارها. فقد لازَمها ليلَ نهار في صحبةٍ دامت سنيناً، فكان الأَنفذَ سَهماً في الدقَّة ولُطفِ الجوهر، والأَعظمَ شعاعاً في الحِرَفيّة، والأقدر في تَناسُل النَّجاح. إنّه من الأَعيان المُمَدَّحين الذين استقام معهم العمل المسرحيّ، لما هم عليه من انفرادٍ بجرأة الموهبة وإِقدامها الغَلاّب، حتى قيل إنّ كرباج يروّضُ الخشبة، بما يتمتّع به مِمّا يُدعى “الفِطرةُ المَهارة”. لكنّ الحقيقة أنّ هذا المُبدِع لم يَفِضْ نجاحُه من فوق، بل كان نتيجةً محتَّمة لصعوباتٍ وعقبات وشَوك، في بداياتٍ عنوانُها: التَّجارب والأخطاء، الى أن أصبح متمكِّناً من أنْ يَسبَح في جميع المَسارب مُواجِهاً الضَّارَ والمُؤذي، ومُتلمِّساً الإتجاهَ الذي لا تَجدُ فيه إلاّ المياهَ العَذبة. وهذا لم يكن وليدَ المُصادفة، بل بِفَهمٍ وقَصد هما المِعياران الأساسيّان لبلوغ الغايات، فالرَّجل وعى الصعوبات التي اصطدم بها، ورسمَ في ذهنه حلولاً لها طبَّقها في النُّطقِ وفي الحركات، وبلغ القمّة.

إنّ مَهد كرباج في المسرح هو مَهدٌ جَبَليّ، لذا فأَثَرُ الجبلِ به بَيِّنٌ في الصّلابة والعَزم والنَّزعة الى التفوّق. إنّ استعراضاً سريعاً لسلوكيّات كرباج المسرحيّة، يُعزِّز نشاط التَمَيُّز لديه، خاصةً في الإرتكاسات أو ردّات الفعل التي ليست سوى استجابات حَرَكيّة، بعيداً عن الآلية والإصطناع. من هنا، لم يكن كرباج خاضعاً لما يُسَمّى الإنتحاء الذي تنظِّمه أجهزة تشريحيّة وظائفيّة، ففي هذا النّوع من السّلوك فوق الخشبة، كُنّا لَنجدُ أمامنا في الواقع “كرباج الآلة” وليس “كرباج النَّفور”. لقد كان كرباج يتمتَّع بقدرةٍ على اتَّخاذ مبادرات ناجمة عن تركيزٍ فَوريّ فوق عاديّ، أو تَفَنُّنٍ لا حدّ له، وهذا التطوّر الخلاّق معه كان الفاصل بين الفنّان الإصطناعي والفنّان الأصيل، كالفارق بين صُنع الأدوات آليّاً وبين التفنُّن في هذا الصّنع.

إنّ ارتباط كرباج بالتَّمثيل شبيهٌ بما سأله “وليم جيمس” عن العلاقة في الحبّ: ” لماذا تهِمُّ الفتاةُ الشابَ الى درجة أنّ أقلَّ شيءٍ يتعلَّق بها، يتَّخذ في نظره قيمةً لا يتَّخذُها الكَونُ بأسره ؟ “. نعم، إنّ مدى التَّماهي بين كرباج والإقتباس يفوق أيَّ مدى، وهو لا يحتاج الى وسيط لأنّ الترابطَ بينهما مُمَنهَج بدون اجتهاد، وكأنّهما حالةٌ تُجاوِزُ قوانينَ الفيزياء، فتندفعُ في مسيرةٍ صوبَ الأُفق المُتألِّق من دون أن تُقيمَ حساباً لتأثير الجاذبيّة. من هنا، فإنّ كرباج الذي يتمتّع بالحذق والإبتكار والحِرَفيّة، شكّلَ القاطِرة التي كانت ” تَجرُّ ” العمل الفنّي الى سُدَّة النّجاح، أو أنّ العمل نفسه كان يستخدمها للوصول الى هذا الهدف. والحال، أنّ تَصَوّرَ العلاقة بين كرباج والمسرح، يُشبه تماماً الرَّابط بين الماء والمَركب، فالماء هو قويٌّ فيحمل المَركب، وليس المركبُ هو قويّاً فيعومُ من نفسه.

إنّ المسرح هو البيئة الطبيعية لكرباج، يختنقُ خارجَها، ولا ينتظمُ فِكره إلاّ في إطارها. المسرحُ هو عشيرتُه، وهو القوة العُليا التي يشعر جميع أفراد “العشيرة” بأنّهم خاضعون لها، يلوذون بها وكأنّها “الطَوطَم” المقدَّس. لقد تبوَّأ كرباج ” المُحارِب ” مركز القيادة لأنه مُستحِق، لكنّه لم يُلَمِّح مرّةً الى شخصه الغالِب، فهذا مُنزَلَقٌ مُتسرِّع يشنُّ به العاديّون آخرَ معاركهم، وبحماسة عديمة الجَدوى، ليتخيَّلوا واهِمين أنّ قيمتَهم في أعيُن القَوم مُتسامية، لكنّ النّاس العارِفين لم يُلقوا إليهم بالاً. أمّا كرباج، البعيد عن الغَطرسة الفارغة، بالرَّغم من “إمبراطوريَّته”، فَلم يفقد الإتّجاه لأنه كان يعي تماماً الفَصل بين عالَم الإدّعاء والإستعلاء وبين عالَم الوَزن الحقيقيّ، ولا بُدَّ بالتالي من التَّواضع. 

كرباج ” أستاذ الأبجديّة ” المُثَقَّف، يُقيم علاقاتٍ نوعيّة مع المُرسَل إليهم، فهو يتعدّى مضمون الرسالة التي ينقلها الى المُتلقّين كمَعلومة وكإِخبار، لينشئ معهم وشائجَ مرموقة، لأنّ موهبتَه الفذَّة تفتحُ له ما أُغلِق على سواه. إنّ الحَظوةَ السَّاطعة التي يُغدقها النّاس على كرباج، مَردُّها الى اعتباره جديراً بالتَّقدير وليس بالمُساندة. (mva.la) ولأنّ أصالتَه الفنيّة ليست مسألة معلَّقة، كان الرَّجل نموذجاً قابِلاً للإقتداء به، بالرَّغم من الرسائل التي تضطرمُ بالغِيرة. والحال أنّ كرباج لم يعتبر المسرح عالَماً ناجِزاً، مُرتَّباً، مُكتمِلَ النّضوج، ليس له إلاّ أن يحيا وجودَه التاريخي الإرثي، وبلا مفتاحٍ لمَجال الإبتكار، ويتكرَّر على مدى الزَّمن مُطمئنّاً الى امتلاكه أَوج المعرفة وبلا نَقص. ولم يكن كرباج مُجرَّد قاطِنٍ في هيكل المسرح، أو مُستَلقٍ مُتفَرِّجٍ على ضِفّة بركته الرَّاكِدة، فالمسرحُ بالنسبة إليه مجرىً لا يتلقّى التَّجديد فحسب، بل يَفرضه. لذلك، فالتَّقليد، بمفهوم التبعيّة الفنيّة، لم يكن مأثوراً لدى كرباج، فلم يتردّد في الإنسلاخ عنه الى حِراكٍ إبتكاريّ ثَوريّ شكَّل نقلةً نوعيّة في كيفيّة التَّمثيل، ودرساً في الإحترافيّة التي عقَّمت الفنّ المسرحيّ من مُستَنقَعيَّته. لقد أضاف كرباج جديداً بعصيانه المُكَرَّر، وحلَّ مكانه، تماماً كما تحجبُ جملةٌ واضحةٌ جملةً سابقةً لها تتَّسِمُ بالغموض والإبهام.   

كان كرباج يُدركُ فعل التَّبديل في العمل المسرحي، بمعنى أنّ المسرح هو بساطٌ سحريّ ينقلنا من حقيقة الى أخرى، بحيث لا نفيقُ من الأولى إلاّ وقد رَسَونا عند سواها. لذلك، كان للمسرح سلطة خفيّة، على مُستوى الإِطْلاع والتأثير، بِغَضّ النَّظر عمّا إذا كان يُشكّل لدى البعض مصدراً للمعرفة، قياساً بالسؤال: هل المسرحُ يقولُ الصِّدق؟ والغريبُ أنّك إذا “سَلطَنتَ” مع أنطوان كرباج، وهو يؤدّي، تخرجُ من حالة ال ” يُقال “، أي الباطل أو أَقلّه الشكّ والإلتباس، الى وَضع القَبول وكأنّ المُرسَلة القَوليّة المُتلَقّاة حقيقةٌ ناصعة نقيّة. فكرباج الذي يخطفنا الى جوِّه، بقدرةٍ ملحميّة، يجعلنا نتبنّى تلقائياً مَسرَحَتَه بدون جدال أو مُحاجَجة، وبدون قِوى إثباتٍ، وكأنّها الحقيقة المَحض. من هنا، ليس على مُبتَكِري الديمقراطية في المسرح إلاّ أن يُعيدوا النَّظر في فاعليّتها.

أنطوان كرباج صاحبُ القلب الصَّادق، لم يكن ممثِّلاً بالإسم لأنه آمنَ بالمسرح عقيدةً ناشطة، لذلك أَطلعَته الأرضُ في “جبال الصَوَّان” من أجل أن يكون جنسَ المُمَثِّلين.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *