في التّجريب الصّحفيّ(5)

Views: 473

محمّد خريّف

       كُنْت  على ما أنا فيه من نقص في الاطلاع وشغف مفرط بنقل اليومي جاهلا بالتنظيرات الفكرية للسلطة وأسرارها حيث لم أكن على دراية أن للسلطة القائمة فلاسفة وأكاديميين يسندونها ويساعدونها،ولعلها نعمة من نعم الجهل يشقى بها  صحفي مثلي يدورفي سروال مقعور ولما يسمع ب”براكسيس قرامشي” ونظريته الفلسفيّة الخاصّة بالمثقف”العضويّ” وكيف يبرّر بعض التابعين المحسوبين على الماركسية عندنا انخراطهم في “السلطةالقائمة” طمعا أو وهما في التغيير من داخل منظومة الحكم رغم مزاعم  القائلين باستحالة التّوفيق بين الحكمة والسّلطان، وإذا بالسلطة تخدم بمريديها الذين يعتبرهم  غيرهم من معارضيهم “قلاّبة فيستة””.

وقد تكون لفلاسفة السلطة  في تونس ولاسيّما  في الحقبة النوفمبريّة مبرّراتهم النظرية التي تتطلبها مصلحتهم من الانخراط في الحكم وللحكم مزاياه وامتيازاته ومنها “النفع المادي والمعنويّ” ورأسها الجاه السّياسي باعتباره عملة صعبة أوصك عبورالى جنان الرّفاه والبذخ، فكان أن وُجد من أنخرط في اللعبة- ولاأدري أكانت قذرة أم نظيفة؟ وكان من ذوي الألباب فهادن النظام وعمل في  صلبه دون أن يحقق ولو النزر القليل من أحلام “المثقف العضويّ” فبالعكس قد تخلى عنه النظام في أول فرصة سانحة…

ولعل بعض المستشارين لامثالهم بالمرصاد و”حوت يأكل حوتا وقليل الجهد بل الدهاءو المكر يموت ” و”جعلناكم بعضا رقباء على بعض و لا أقول “بصّاصين” وكلنا نموت لنحيا ونحيا ويبقى  الوطن و”مصلحة الخضراء فوق كل اعتبار وزيد ماك اللاوي” سيدي بلحسن وبقية الأولياء الصالحين من جبال الشعانبي إلى جبل سيدي عبد الرحمان الدّخلاوي يحرصون البلاد والعباد والفلسفة في خدمة الشعوذة.

أنطونيو غرامشي (1891-1937)

 

وتلك بدعة التوافق بين العلم والخرافة يبتدعها رهط من  المستشارين وحكماء السلطان مما حازوا المرقبة العليا فصاروا من أصحاب الفتوى في الديار التونسية ولهم أن يساعدوا في تمرير القوانين وإصدار المراسيم وحتى ما يرتكبه النظام القائم حق الرعيّة من مظالم مغلفة بغلاف التشريع الأكاديمي وزيف شعارات مرفوعة مقموعة كادعاء نشر الحريات المسؤولة بعيدا عن الديمقراطيات المستوردة المزعومة من أجل ضمان العيش الكريم للمواطنين مع ضمان حقهم في الدراسة والبقاء مدة أطول في المدرسة لمزاولة التعليم العام غافلين أو متغافلين عما تلحقه السياسات التعليمية المتبعة من ضرر بالمستوى التعليمي وعلاقته بتدهور مستوي الشهادة الوطنية،  إذ غاب الفكر الفلسفي النقدي بمعاول محترفي الفلسفة المؤتمنين على البيداغوجيا وإجراء الامتحانات في جميع المستويات وهيمن التلقين على النقاش مما فتح الباب على مصراعيه للفكر الوصوليّ في زمن اشتد فيه الضغط من الأولياء وغيرهم من الفاعلين في عملية التدريس التي صارت تربوية لاتعليمية” والأخلاق في عرفهم قبل المعرفة فكانت حصص للتربية الدينية والمدنية والموسيقية وحتى التقنية.. وقيّد على التربية والسلوك المثالي ؟

وهكذا كان للمدرسة العمومية أن اضطرت أن تعمل بمبدأ “دز تخطف ” فكان أن هبط المستوى العلمي للشهائدوأهمهاشهادة البكالوريا وهي الشهادة الاهمّ   حيث صارت في متناول الجميع فحتى “الكركارة” من التلاميذ يمكن أن يشاركوا في امتحانها ولهم أن يحصلوا عليها بفضل الإسعاف وفرص النوافل الإجباريّة المتاحة وهو أمر تتعهد به الأسرة التعليمية الفاعلة من أستاذ و متفقد ومدير معهد وغيرهم ( وكل شيء يهون في سبيل أن تمرّ السنة الدراسية بسلام ودون قلاقل ناتجة عن قلق التلاميذ “المدللين” من ذوي المجهود الأدنى (ولعلي كنت أشرت إلى هذه الظواهر في صحف الصباح آنذاك  ولا من مجيب…).

و تحصل المفارقة نتيجة مايعرف بخلق ما يسمى “عقدة التلميذ الموسوعيّ” ولعلها فانزم من فانتزمات الأكادميين تنفيذا لبعض الاملاءات الداخلية والخارجية ومنها تطبيق برامج من شروطها توجيه كل التلاميذ نحو التعليم العام دون التعليم المهني ولو على حساب التفريط في المستوى العلميّ للبكالوريا وهو مستوى علميّ دقيق  قد لايقدر عليه كل المترشحين وملكاتهم  المعرفية متفاوتة بل محدودة وما شهادة”الباك”  سوى مفتاح الدخول إلى الجامعة لاختيار الدراسة في شعب غيرواضحة الآفاق” في حين يغادرالمتميزون البلاد للدراسة في الخارج ولا يعودون بعد التخرج فتربحهم الشركات الكبرى والدول والعظمى والبلاد معاها ربي؟ ؟  

لكن وأنا منشغل يهذه الأمور وغيرها أثناء هذه التجربة الصحفية العبثية وما نتج عنها من هزات الصدام بالواقع الحر المر حتى تراءى لي أن هذه الطريقة التقليدية في معالجة القضايا المصيرية لن يحلها خطاب صحفي مباشرمبتذل و في صحف لايهمّها سوى الربح المادي في سوق تجارية مفلسة فتضطر خوفا من الزوال والانقراض إلى الاحتماء بالنظام وما يوفره من تمويلات الإشهار وغيره  إرضاء النظام وعدم الخروج عما سطره وخطط له بمعية ” مثقفيه” الثقات المؤتمنين على مصالحه الضامنين لدوامه والمثقف من هذا الرهط قد يردّد في نفسه بعضا من شعر السّياب ” لست أبا لكل الجائعين” ولافرق بين يمين ويسار في تقريب الأقارب وإبعاد الأباعد.

وقد كان لابد لي أن أعي أني أسير على امتداد سنوات في طريق الوهم الزائف، وهم المواصلة في ممارسة الاقتداء القسري بمسايرة الأسلوب الصحفيّ المباشر المنافق حيث كنت مع غيري من السّذّج الأذكياء أنتظر حصول تحوّل غير مبارك على التحوّل المبارك ولاتحوّل غير تحول السابع من نوفمبر لاندري أكان مباركا أم مشؤوما؟ وان كان  لا يزال في كل عام تحولا لعهد يظل على الدوام جديدا بالنسبة إلى أنصاره الميامين الأوفياء لصانعه يفدونه” بالروح والدم” و”التونسي للتونسي رحمة” “وأيادي “الله من أيادي التجمّع لا التفرّق؟ والعوذ بالله من الشيطان الرجيم يوسوس في صدور شرذمة من الحاقدين الحالمين بتحوّل عهد جديد يأتي  على تحوّل عهد جديد لايزال خطابا وهميّا شبيها بالخطاب الصّحفي يدّعي الحداثة غارقا في التخلف الفكري والعقائدي يعد ولا يفي بتخليص البلاد والعباد من الظلم والاستبداد  يدعمه في دعواه جماعة “الله ينصر من صبح” وهم من الصحافيين وجلهم المستشارين المرتزقة المتحكمين في رقاب الناس صاروا في مابعد “ثوريين” متكهنين بالثورة وهم من الرّعايا والحديث زائف عن المواطنين وشعرة في سورة البقرة تظهر في حرب الخليج ؟ فأي نتيجة ترتجى من تجريب صحفيّ لاطائل من ورائه ورحى الخطاب الإصلاحي المبتذل تدور على فراغ ؟

فكيف للكاتب الصحفي العربيّ أن يواصل بهذا الأسلوب البائد في التعبير عن محنه بهذا الأسلوب “أسلوب قفا نبك” نقتفي أثر أصحابه منذ قرون متعلقين بأوهام البطولة وقيم الوفاء وحماية العرض صدمنا بخيبة آمالنا في “مجزرة صبرا وشتيلا” وسقوط “بغداد” مرة أخرى في “حرب الخليج” ولا أدل على بطلان شعاراتنا”أن يقدّم رمز من رموز البطولة والعناد والتحدي فدية يوم عيد الأضحى وهل يبقى بعد هذا أمل في خطاب المفاخرة بالأصل والفصل ونحن أحسن أمة أخرجت للناس ؟ وهكذا فالصحافة في الوطن العربي من هذا المنطلق مازالت توقع على أوتار البطولة الواهية والانتصارات الموهومة ؟

فكان لابد من الاعتراف بوجود ” أزمة خطاب ثقافي” يحتاج إلى تجاوز ما يعرف بخطاب التقرير المبتذل وشعاره الكاذب “البيان والوضوح”لذلك قرّرت القطع مع خطاب الصحافة السائد منذ التسعينات حيث دخلت في ضرب آخر من التجريب في الكتابة السّردية والنقدية لعله يلهيني عن آلام الضحك من نفسي لامن غيري وانا الباصص في عقلي وهل أشغل بالي بسفاسف البطون البطون دون جدّ العقول ؟ 

(….يتبع)

***

(*) كاتب من تونس

 

 

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *