العقد السياسيّ الجديد في لبنان… إمّا العَلمانيّة الهنيّة وإمّا تشريع الفِدِراليّة القائمة

Views: 1087

أ.د. مشير باسيل عون

إذا ما استثنى المرء العصر الذهبيّ أو عشرين سنة على الأغلب من المئويّة الأولى، لا يني اللبنانيّون يعانون الذلّ والظلم منذ نشأة دولة لبنان الكبير، وهم على تنازعٍ مميت في تخيّر سبُل النجاة الحقّ. اتّفق أن نشأوا على هذا الائتلاف الهشّ، ولا سبيل إلى العودة الاسترجاعيّة. ومن ثمّ، فإنّ تعاقب النكبات على وجودهم الفرديّ والجماعيّ يحتّم عليهم أن يقفوا وقفةً صريحةً أمام أنفسهم وأمام التاريخ. فيسألون أنفسهم هل يستطيعون أن يواظبوا على معيّتهم المهشّمة، وتركيتبهم المنعطبة، وفسادهم المتفاقم؟ لا شكّ في أنّ مقاصد المعيّة الإنسانيّة الحقّ انبثّت انبثاثًا خفِرًا منذ القرن السابع عشر في اختبارات الجبل اللبنانيّ وتفتّح الوعي السياسيّ الذاتيّ. وما انفكّت تتطوّر حتّى بلغت نضجها، ولاسيّما النظريّ، في إنشاء دولة لبنان الكبير وفي الخلفيّات الدستوريّة التي انتهت إلى تثبيت النظام اللبنانيّ الراهن. من الواضح أنّ إفساد هذه المقاصد تفاقم بفعل الابتعاد المبدأيّ والزمنيّ عن لحظة الإنشاء التي جسّدتها الرعاية الدوليّة في هيئة الانتداب الفرنسيّ. فكلّما أوغل اللبنانيّون إنكارًا للإرث الإنسيّ والسياسيّ والإداريّ الذي انطوى عليه الانتدابُ الفرنسيّ، على علّاته، أمعنوا ضلالًا وفسادًا وانحدارًا. وقد يشفع بهم أنّ اضطرابات العالم العربيّ كلّها انعكست آثارُها على مبانيه الهشّة.

غير أنّ اشتداد التأزّم السياسيّ في الزمن الراهن لا يسوّغ الانتقال من نظام لبنانيّ إلى نظام آخر انتقالًا اعتباطيًّا، متعجّلًا، انتفاعيًّا، والحجّة في ذلك مواكبة الفكر السياسيّ الحديث الذي ينبذ الطائفيّة والمذهبيّة والانتمائيّات القبيليّة الضيّقة. من أفظع الهرطقات التي ابتُلي بها الواقع السياسيّ اللبنانيّ القولُ بالدولة المدنيّة حلًّا سحريًّا للانسداد الاهترائيّ الذي يشلّ البنى والناس في الاجتماع اللبنانيّ. ذلك بأنّ صفة المدنيّ نقيضُ السياسيّ. فالمجتمع هو صاحب الصفة المدنيّة، والدولة هي الجسم السياسيّ أو الجهاز السياسيّ الذي يناط به تدبير شؤون الناس في المدينة الإنسانيّة الواحدة. ومن فضائل الفكر السياسيّ المعاصر التمييز الدقيق بين المجتمع والدولة، إذ إنّ مثل التمييز هذا يضمن الأداء الدِّموقراطيّ في الفعل التدبيريّ الشامل في المدينة الإنسانيّة.

 

الحقيقة أنّ لبنان يواجه ثلاثة مشاكل قد يستطيع بهشاشته ومعطوبيّته أن يتصدّى لواحدة منها فحسب. أمّا إذا تواطأت الثلاثة عليه، فإنّها تهلكه، لا محالة. والحال أنّها مجتمعةٌ عليه منذ نشأته. المشكلة الأولى أصلُها في تعثّر نشوء الدولة العربيّة الإنسيّة (humaniste) العَلمانيّة الدِّمواقراطيّة العصريّة، وفي ابتلائها بشرّ المفاسد في إدارة مصائر الناس وموارد الطبيعة. والثانية مقترنةٌ بصعوبة التفاعل الحقيقيّ بين الأنظومتَين الأنتروبولوجيّتَين المسيحيّة والإسلاميّة، ولاسيّما في نطاق تدبير شؤون المعيّة الإنسانيّة والحقل الاجتماعيّ والسياسيّ. والثالثة ترتبط بالآثار الخطيرة التي استتبعها الصراعُ العربيّ الإسرائيليّ، واستتلاها جنونُ الكيانات العربيّة المستبدّة، وافتعلها دهاءُ الدول الإقليميّة المقتدرة، واستجرّتها مساوماتُ الدول الغربيّة المهيمنة.

ربَّ معترض يستغرب أن أعترف بعجز اللبنانيّين عن التصدّي الفعّال للمعضلات الثلاث هذه. أسأل المعترضين أن ينظروا في حال اللبنانيّين، إذ في هذا التبصّر عبرةٌ للمعتبرين. يعلم جميع اللبنانيّين أنّ نخبةً نادرةً من المسؤولين اجتهدوا في بناء دولة الإنسان الحرّ الكريم العزيز، وأنّ طغمةً ساحقة منهم عاثت في الأرض اللبنانيّة فسادًا وإهلاكًا. أمّا ما يبعث اليأس في نفوسهم، فهو أنّهم لن يستطيعوا على الإطلاق محاكمة أيّ فاسد من هؤلاء الفاسدين، لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل.

وعليه، فإنّ الحكمة تقتضي بأن يتّعظ اللبنانيّون بالتأمّل الحصيف في إخفاق المئويّة الأولى في أغلب مبانيها ودساتيرها وأنظمتها وأعرافها وإنجازاتها وتطبيقاتها وآثارها. والتأمّل يستوجب النظر في أسباب الإخفاق. أخفق اللبنانيّون في بناء الدولة العربيّة الإنسيّة العَلمانيّة الدِّموقراطيّة الحديثة لأسباب شتّى. أوّلًا، لأنّهم ما اختبروا في ماضيهم البعيد ولا القريب أيّ تأسيس تمهيديّ لنشوء مثل الدولة الدِّموقراطيّة هذه. وثانيًا، لأنّهم آثروا عليها مناصرة طوائفهم وقبائلهم وعشائرهم ومصالحهم. وثالثًا، لأنّهم ما عاينوا في محيطهم العربيّ مثالًا يُحتذى بها في بناء دولة عربيّةِ التراث، خليقةٍ بمواكبة مسرى التطوّر الدِّموقراطيّ الذي اختبره الغرب الحديث والمعاصر. ورابعًا، لأنّهم أتقنوا فنّ الفساد والإفساد من صغيرهم إلى كبيرهم، ومن بائع خضارهم إلى وزير حكوماتهم، حتّى لقد أمسى الفسادُ بنيةً ناشبةً في أعماق التركيبة الاجتماعيّة السياسيّة الاقتصاديّة اللبنانيّة، وتحوّل إلى ثابتةٍ من ثوابت الوعي الثقافيّ اللبنانيّ. فالسؤال الأوّل الذي يتبادر إلى ذهن اللبنانيّ المنصرف إلى فعلٍ من أفعال التدبير التقنيّ أو الإداريّ أو التربويّ هو كيف يمكنه أن يتحايل على القانون، وأن يَشطُر شطارةً يمتدحه نظراؤه عليها، وأن يجتني ربحًا فاسقًا من خزينة الدولة وجيوب الناس.وخامسًا، لأنّهم ما انفكّوا على ارتباط مرَضيّ مخزٍ بمحاضنهم المذهبيّة الخارجيّة التي تزيّن لهم الاستعباد فضيلةً، والخنوع قيمةً، والارتهان إنجازًا وطنيًّا.

 

وأخفق اللبنانيّون في تدبّر التنوّع الأنتروبولوجيّ بين المجموعتَين المسيحيّة والإسلاميّة التي نشأ لبنان من عقدِ ائتلافهما الملتبس. أخفقوا في اختبار المعيّة المتنوّعة لأسباب شتّى. أوّلًا، لأنّهم أنكروا الفوارق الأساسيّة التي تميّز كلّ جماعة على حدة، وعظّموا المشتركات العقائديّة والفكريّة التي تُسهم بعض الإسهام في تسويغ عقدهم الائتلافيّ وترسيخ معيّتهم الإنسانيّة. وثانيًا، لأنّهم ظنّوا أنّ تطوّر التصوّرات الأنتروبولوجيّة في الديانتَين المسيحيّة والإسلاميّة هو تطوّرٌ منسجمٌ متساوقٌ متلازمٌ يتيح لهم أن يتدبّروا مسألة التمييز الضروريّ بين الحقل العامّ والحقل الخاصّ. والحال أنّ الأنظومة الإسلاميّة ما فتئت حتّى اليوم تعاني تمخّضات التأويل الذي قد يُفضي بها في يوم من الأيّام أوّلًا إلى اعتماد التصوّر الأنتروبولوجيّ الحديث الذي يعاين في الإنسان فردًا حرًّا منعتقًا من كلّ عبوديّة ماورائيّة ومن كلّ انتسابٍ غير الانتساب الأوّل والأخير إلى إنسانيّته؛ ويُفضي بها ثانيًا إلى صون حياديّة المجال العموميّ وتدبّره بمعزل عن تصوّرات الخير اللصيقة بالمبايعات الإيديولوجيّة أو التذوّقات الصوفيّة اللاهوتيّة الغيبيّة؛ ويُفضي بها ثالثًا إلى رعاية الاختبار الإيمانيّ الحرّ في وجدان الضمير الجوّانيّ واستلهام القيم الروحيّة استلهامًا خفِرًا في أخلاقيّات المسلك الإنسانيّ الفرديّ والجماعيّ. من غير هذا الفصل الواضح، لا قيام لمعيّة إنسانيّة لبنانيّة حقّ. وكلّ حديث عن دولة مدنيّة لا توحّد نظام الأحوال الشخصيّة، ولا تعتمد القانون المدنيّ، ولا تفرض الزواج المدنيّ الواحد، ولا تتصوّر الشأن الاجتماعيّ والثقافيّ والسياسيّ والاقتصاديّ منفصلًا عن الاختبار الإيمانيّ، إنّما هو حديثٌ باطلٌ يستبطن قدرًا عظيمًا من التمويه والتضليل. وإنّ أشدّ ما يُحزنني في حوار اللبنانيّين المختلفين اقتصاره على اجترار العموميّات النظريّة العقيمة التي تستحضر المشتركات الإنسانيّة المجرّدة، ولا تجرؤ على معالجة التباينات الصريحة التي تعوق بناء المدينة الإنسانيّة الواحدة وتُبطل الإجماع على حياديّة المجال العموميّ.

وأخفق اللبنانيّون في التصدّي لاضطرابات المجتمعات العربيّة السياسيّة، ولآثار الصراع العربيّ الإسرائيليّ المهلكة، ولأطماع الآخرين ونزواتهم المتفلّتة. مشكلة الإخفاق الأخير هذا ناشئةٌ من تضارب آرائهم في شرعيّة الوطن اللبنانيّ. أغلب المسلمين وبعض المسيحيّين رأوا في نشوء دولة لبنان الكبير خيانةً عظمى لإيديولوجيا الأمّة العربيّة الموحّدة. والأمّة هذه كيانٌ تخيّليٌّ وهميٌّ ما نشأ نشوءًا تاريخيًّا، وما استقرّ استقرارًا شرعيًّا في المباني الدستوريّة والقانونيّة والتدبيريّة. الأمّة العربيّة هذه أشبهُ بقصيدة وجدانيّة يلتجئ إليها أهلُ العرب كلّما انتابتهم شدائدُ التخلّف الذي أصاب مجتمعاتهم منذ العقود الأولى لنشأة الخلافة الإسلاميّة. وأغلب المسيحيّين وبعض المسلمين عاينوا في هذا النشوء بركةً تاريخيّةً تحتضن أجمل وعود الرقيّ الإنسانيّ. ولشدّة ما اتّصف اللبنانيّون بقدرتهم المرَضيّة على تشرّب أعظم الإيديولوجيات القوميّة هذيانًا وجنونًا، أضحوا  كالنسيج المهلهل يتلبّس عشقُ الآخرين بدمهم ولحمهم. ولذلك جعلوا وطنهم أرضًا يستبيحها الغرباء، ويذلّها المقتدرون، ويستوطنها الطامعون. أمّا المأساة الصادمة، فتتجلّى حين يُصرّ اللبنانيّون على الكفر بوطنهم وأرضهم وميراثهم ويسترسلون في امتداح وطن الآخرين وأرضهم وميراثهم. ولكنّهم لا يجرؤون على الإقامة يومًا واحدًا في مواطن الاستبداد العربيّ التي يصدحون بإيديولوجياتها ليلًا نهارًا. حريٌّ بالذين يستقبحون الوطن اللبنانيّ المنعطب هذا أن يخرجوا منه ويتخيّروا الوطن الذي يناسب تصوّراتهم الإيديولوجيّة.

لا ريب في أنّ المشاكل البنيويّة الثلاث شديدةُ الإعضال والاستغلاق، ولا يطيق أيّ كيان سياسيّ أن يضطلع بها مجتمعةً. فما بالنا بالكيان اللبنانيّ المقطّع الأوصال، المترامي المنازع، المتضارب الآراء، المتهالك على مفاسد الأرض ومقابحها! إحساسي أنّ اللبنانيّين كانوا قادرين على الاضطلاع بواحدة من هذه المشاكل اضطلاعًا رزينًا مُفلحًا. فلو صانت اللبنانيّين دولةٌ مبنيّةٌ على شرعة حقوق الإنسان، علمانيّةٌ في حكمتها التدبيريّة، دموقراطيّةٌ في شرائعها وأنظمتها، ولو تَسيّج الوطن اللبنانيّ بكوكبة من الأوطان العربيّة الحديثة المتألّقة في ثقافتها الإنسانيّة المنفتحة، المستندة، دستورًا وتطبيقًا، إلى شرعة حقوق الإنسان، لاستطاعوا أن يتفرّغوا للنظر الهادئ في تدبّر اختلافاتهم الدِّينيّة الأنتروبولوجيّة المتعلّقة بمقام الإنسان الفرد في المجتمع، وبمقولة الحرّيّة الذاتيّة الأساسيّة، وبموقع الإيمان الفرديّ وأثره في إغناء الأنظومة القيميّة الاجتماعيّة إغناءً يصيب المعاني العميقة من غير أن يهيمن على القطاع العامّ هيمنة المؤسّسة الدِّينيّة في العصور الوسطى. أمّا أن يطلب الدهرُ من اللبنانيّين، وهم على معطوبيتّهم الكيانيّة وقد تفاقمت آثارُها بتعاظم مقادير الانحلال في مباني الدولة، أن يحيوا معًا حياةَ الكرامة والمساواة والعدل والأخوّة، وأن ينشئوا جهازًا إداريًّا نزيهًا وقضاءً عادلًا فاعلًا حازمًا، وأن يجعلوا اختلافاتهم الدينيّة الشرعيّة مثالًا للإثراء التأويليّ المفتوح، وأن يجابهوا أهل الأرض كافةً صونًا لوطنهم ولأرضهم ولحرّيتهم ولمعيّتهم، فهذا من المحال التاريخيّ الممتنع عليهم امتناعًا مطلقًا!

وعليه، أسأل لم ينبغي للّبنانيّين أن يتكبّدوا كلّ العناء والمذلّة والقهر والاضطهاد؟ ولم يتحتّم عليهم أن يحافظوا على صيغةٍ أثبتت عقمها ومضرّتها في قرائن الاجتماع العربيّ الراهن؟ ولم يجب عليهم أن يقضوا على أنفسهم وعلى الأجيال الآتية في مثل الأتّون الملتهب هذا؟ أفلا يحقّ لهم أن يتصوّروا صيغة أخرى، وعقدًا جديدًا، ونظامًا مختلفًا؟ أفما آن الأوان لكي يبتكروا، في غير احتراب دمويّ، ائتلافًا متنوّعًا يصون، على قدر المستطاع التاريخيّ، كرامة الإنسان فيهم، وحرّيّة الاختيار لهم، وإمكان الاستقلال الجماعيّ عندهم؟ أنا أعرف حقّ المعرفة أنّ الحلّ الأمثل هو ببناء دولة لبنانيّة عَلمانيّة حديثة، تستند إلى شرعة حقوق الإنسان وتعتمد أرقى معايير النزاهة والكفاءة والاستقامة في تدبير الشأن العامّ. غير أنّ الواقع الذي تبسّطتُ في وصفه يعوق نشوء هذه الدولة إلى أمدٍ بعيدٍ، قد يتراخى على مئويّة أخرى من الفساد والقهر والإذلال. فالدولة الحديثة، شئنا أم أبينا، مبنيّةٌ على خلفيّات فكريّة عَلمانيّة حياديّة تميّز تمييزًا صارمًا بين المجال العموميّ والمجال الخصوصيّ، بين السياسيّ والدِّينيّ، بين المدنيّ والسياسيّ. ويقيني أنّ استزراع العلَمانيّة، حتّى الهنيّة منها، في الثقافة العربيّة المتشنّجة وفي المجتمعات العربيّة المتهاوية يستوجب عقودًا من النضال والصبر والملاينة. وقد يُفلح المناضلون في ذلك، وقد يُخفقون. أمّا الاجتماع اللبنانيّ، فليس فيه المنعة الذاتيّة هذه التي تؤهّله للصمود الدهريّ. وأخشى أن تكون بعض الإيديولوجيات قد قرّرت إزهاق العزيمة اللبنانيّة حتى ينفرط العقد، وتتلاشى المقاومة الفكريّة،ويذوب الوجود الإنسانيّ، فيقتطف أصحابُها الفراغ ويُنشئون منه وبه ملكوتهم الموعود.

 

إذا ثبت أنّ المشاكل الثلاث البنيويّة هذه لا فكاك لبعضها عن بعض، ولا حلّ لها في قرائن الثقافة السياسيّة العربيّة الراهنة، فإنّ أضعف الإيمان أن يعمد اللبنانيّون إلى فكّ الارتباط وإنهاء الصيغة من أجل استحداث عقد لبنانيّ جديد يقوم على احترام التنوّع في إدراك معاني الوجود والحياة والإنسان والأرض والوطن والحرّيّة والكرامة. وهذه كلُّها قيمٌ لا يتّفق عليها اللبنانيّون ولن يتّفقوا في القريب الزمنيّ المنظور. وما عاد بهم حاجةٌ إلى تجديد الاختبارات الفاشلة المهلكة. فكلّ إخفاق في اختبار المعيّة اللبنانيّة المستقيمة يجرّ عليهم آلاف الشهداء وفظائع الاقتتال الإفنائيّ.

مثالي الأوّل في لبنان العَلمانيّة الهنيّة التي تحتضنها دولةُ شرعة حقوق الإنسان. غير أنّ هذا المثال صعبُ المنال، دونه خرطُ القتاد! لذلك أرى أنّه من الحكمة أن يعود اللبنانيّون إلى بيئاتهم الجماعيّة التي نشأوا فيها، وأن ينفردوا في إدارة شؤونهم في حدود مناطقهم، وقد رُسمت رسمًا جغرافيًّا تقريبيًّا، وأن ينعموا بحرّيّة فهم الحياة وقيَمها بحسب تصوّرات الخير السائدة في ما بينهم. وحدها الفِدراليّة الثقافيّة يمكنها أن ترعى مثل التنوّع الدِّينيّ والفكريّ هذا، وذلك في ظلّ استحالة تكوّن الدولة اللبنانيّة الحديثة. لا تعني هذه الفِدِراليّة الثقافيّة تقسيمًا قاطعًا للوطن اللبنانيّ، بل تنويعًا لمقامات الاختبار الإنسانيّ الجماعيّ في تدبّر قيَم الوجود وتذوّق معاني الحياة. ولتكن السياسة الخارجيّة هي سياسة الحياد الإيجابيّ الناشط في مؤازرة قضايا الإنسان في المجتمعات العربيّة؛ ولكلّ متّحد جماعيّ لبنانيّ ثقافتُه في التزام المناصرة الإنسانيّة هذه. ولتكن السياسة الدفاعيّة مبنيّة على مساندة الأمم المتّحدة في صون الائتلاف اللبنانيّ المتنوّع القابل الحياةَ والاستمرارَ في صيغة الفِدِراليّة الثقافيّة. أمّا المسألة الاقتصاديّة، فينظر فيها أهلُ الاختصاص الدقيق لكي يخرجوا بتصوّر عادل يُنصف جميع المتّحدات والمناطق. وباستثناء الحقول الثلاثة هذه، الخارجيّة والدفاعيّة والاقتصاديّة، فإنّ لكلّ متّحد من المتّحدات، وقد يقارب عددُها الأربعة، الحرّيّة في إدارة حقول الثقافة والتربية والتنظيم المدنيّ والتنمية المستدامة والصيانة البيئيّة، وما إلى ذلك من ميادين الشأن العامّ.

وقد يكون لكلّ متّحد من المتّحدات الأربعة هذه برلمانه وحكومته ومحاكمه وأنظمته، ويكون للوطن اللبنانيّ ممثّلون عن المتّحدات الأربعة ينظرون في مسائل التنسيق والتفاعل البنّاء وتنظيم العلاقات اللبنانيّة. ولتكن لنا رئاسة جماعيّة يتناوب عليها ممثّلو الجماعات اللبنانيّة، وقد ينضمّ إليهم ممثّلٌ عن التيّار العَلمانيّ من بعد أن يشتدّ عودُه وتتعاظم أعدادُ المنتسبين إليه في سجل النفوس.ولتكن لجميع اللبنانيّين حرّيّة التنقّل والإقامة في جميع مناطق المتّحدات، شرط الخضوع للأنظمة الخاصّة وللتصوّرات الثقافيّة التي يناصرها هذا المتّحد أو ذاك. وفي يقيني أنّ هذا كلّه ليس مستحيلًا في خبرة الأمم المتنوّعة المعاصرة التي نجحت نجاحًا باهرًا في تدبّر اختلافاتها الأصليّة، العرقيّة منها والدِّينيّة والمذهبيّة.

 

أمّا إذا أصرّ اللبنانيّون المسيحيّون على اعتبار جميع اللبنانيّين مشابهين لهم في كلّ شيء، وأصرّ اللبنانيّون الشيعة على اعتبار جميع اللبنانيّين مماثلين لهم في كلّ شيء، وأصرّ السنّة والدروز على ذلك أيضًا، فهذا يعني أنّ الجميع ينافق ويختلق من الحالات التاريخيّة ما لا وجود له على الإطلاق. فاللبنانيّون مشتركون في الطبيعة الإنسانيّة الواحدة. غير أنّ هذه الطبيعة لا يعثر عليها المرءُ في حلّتها النظريّة البهيّة الواحدة. فهي ترتدي أردية الثقافة والدِّين والمذهب والعرق، فتتجلّى متباينةً في تحسّساتها وتذوّقاتها وإيثاراتها ومفاضلاتها ونوازعها واختياراتها وأنظمتها. وإذا كان اللبنانيّون حتّى اليوم لا يعترفون بمثل التباينات الأساسيّة هذه، فإنّهم إمّا في حال الإنكار المرَضيّ، وإمّا في حال النفاق الخبيث.

آن الأوان لكي يتصارح اللبنانيّون تصارحًا صادقًا ويُكبّوا جميعهم على استجلاء سبُل النجاة من حتميّة الاهتراء والفناء القريب. لا سبيل إلى ترقيع الثوب القديم. المطلوب حياكة ثوب جديد لجسم لبنانيّ متنوّع الهيئات والانتماءات والأذواق. والثوب الفِدِراليّ الثقافيّ هو أرقى الأثواب طرًّا. فضيلتُه أنّه يتيح لكلّ مفصل من مفاصل الجسم اللبنانيّ أن يتحرّك تحرّكًا عفويًّا حرًّا طليقًا من غير أن يجرح الجسم ويُدميه أو أن يشقّ الثوب ويخرقه. وإذا كان يحلو لبعضهم أن يطالب بالمثالثة من جرّاء تقلّص حجم الجماعة المسيحيّة، فأنا أطالب بالمرابعة، أي بمتّحدات أربعة، مسيحيّة وسنّيّة وشيعيّة ودرزيّة،ثقافيّةِ الانتساب، جغرافيّةِ الالتئام على قدر المستطاع، تفاعليّةِ الاستعداد. فهل تكون لنا الجرأة الضروريّة من أجل النهوض معًا إلى مثل العمليّة الإصلاحيّة الشاملة هذه، أم إنّنا سوف نميّع الأمور تمييعًا معيبًا، فنبتكر مجالس لبنانيّة جديدة فاسدة على غرار المجالس القائمة، كمجلس الشيوخ مثلًا، ونخترع تدابير عقيمة، ونستورد حلولًا هجينة حتّى يقضي الدهر لنا بأمرٍ يقضي علينا قضاءً مبرمًا؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *