مشير عون  في “النور والمصابيح” من لاهوت الإقصاء إلى الاحتواء…

Views: 624

د. ناتالي الخوري غريب

انطلاقًا من الضرورة الملحّة للحوار الديني باعتباره أسمى المقارعات الجدليّة والسجالات العقائدية وأرفع من أن يكون انصهارًا للتراثات الدينية المختلفة في بوتقة التركيب، وما يستتبعه من الإقرار بالتعدّدية الدينية والاعتراف بها، بعيدًا من  طغيان ذهنيّة الإقصاء، في عصر يسترهب فيه الوعي العربي الكثرة والتنوّع، يطرح الدكتور مشير عون، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية مقولة جديدة جريئة في طرحها ومضمونها، في كتابه “النور والمصابيح (التعدّدية الدينيّة في جرأة المساءلة اللاهوتيّة المسيحيّة)”،  الصادر (2013) عن جامعة البلمند (مركز الدراسات المسيحيّة الإسلاميّة)، وهي مقولة الإطلاقية النسبية المنتسبة الى الإيمان الذاتي، اي “الامانة الصادقة لمضامين الاختبار الايماني الذاتي واعتبارها وجه الحقيقة المتجلي لأصحاب الإيمان، مميزًا بين الاطلاقية المنتسبة الى الدين الذاتي والاطلاقية اللصيقة بالجوهر الإلهي في غنى انحجابه اللامحدود وانكشافه اللامتناهي”. “وبذلك تمنع هذه المقولة على الاديان ادعاء الاطلاقية المطلقة لأنّها لصيقة بالجوهر الإلهي، وما من بناء تاريخي يستطيع أن يدّعي الامساك بهذا الجوهر الالهي العصي على الادراك، لأنّ الاطلاقيّة المطلقة تفضي حتما الى الاستعلاء فالاقصاء فالعنف.”(ص200)

ميزة الكتاب انّه يفرّق بين الحوار الديني والبحث في مقارنة الأديان، مع الإضاءة على تبدّلات الوعي الكوني الذي يحثّ الأديان على تجديد تصوّراتها، وكيفيّة التهيئة من أجل تمهيد سبل الحوار والمتحاورين والذهنيّة التي يجب أن يتحلّوا بها، المنفتحة والملتزمة في آن.

د. مشير عون

 

تلاقي الأديان وأصول التعددية

يقسم الكتاب الى قسمين: يتناول القسم الاول تلاقي الأديان في قرائن التعدّديّة الكونيّة الانسانيّة،

بطرح ضرورة الاعتراف بواقع التعددية الذي يعتبر دليل الفطرة في الخليقة، ويستحيل الغاؤه، في حين أنّ الوحدة صفة جوهرية من صفات الالوهة.(كارل رانر)، ومن ثمّ يعود إلى نظرات في الاصول الفكريّة والتاريخيّة للتعددية، مبيّنًا علاقات المواجهة بين الاديان والعلمانيّة باعتبار هذه الأخيرة سعي الى الانعتاق من رقابة الدين، مظهرًا عدم التلازم بين التعدديّة والعلمانيّة، أو وجود رابط حتمي سببي بينهما. لقد شرح الدكتور مشير عون مفترضات المذهب النسبي في رعاية التعددية الكونية ومظاهرها في الإعراض عن تبرير وجود العالم بالاستناد إلى تصوّرات ماورائيّة، و”استحالة البلوغ إلى الحقيقة الكاملة، لأنّ المعرفة الإنسانية تصطبغ بالتصورات الذاتية الجزئية العاجزة عن الإحاطة بكامل أبعاد الواقع وما يصاحب هذه النسبية الفكرية من أزمة الهوية وأزمة المعنى التي نمت  في المجتمعات الغربية في مستوى البحث المعرفي والالتزام الاخلاقي على الصعيد الوجودي، وهذا ما أفقد الانظومات الدينية مطامح الإطلاقيّة والإكمالية والهيمنة، فالحقيقة لا تعطى كتلة واحدة  بل تتجلى في البحث عن الحقّ عبر الحوار.

في الفصل الثاني اهتّم الباحث بعرض واقع الاديان في حركة التاريخ البشري، ومصائر الدين في الزمن المعاصر من خلال ثلاثة تصوّرات، تنبئ بزوال كل دين يقوم على التصورات الاسطورية بزوال الحاجة اليه بتطور الوعي العلمي، وسقوط المذاهب الفكرية(المادية والماركسية) في انعاش حاجات الانسان الكيانيّة، لأنّ الحياة الانسانية تكره الخواء، والغلبة للدين الذي يعمل على  التحرّر من انتماءاته الثقافية وطبعه بطابع الشمولية القابلة للتكيّف.(48ص)، ومتقلبات الثقافة في احتضان الاديان، مبيّنًا مستقبل الاديان الاحيائية وغيرها في مسرى التفكير الإلحادي(58ص)، وإخفاق المذاهب  الفكرية التي تتوسل الإكراه والقمع تبريرًا لأحقّيتها والسعي إلى إبقائها، ما فجّر بعض طاقات الدين إعرابًا عن توق الانسان الى الحرية، أو هيمنة الأصوليات الدينية ما جعل المجتمع الانساني ينجرّ الى السقوط في محنة اللامبالاة الدينية”(ص60) مع استطلاع وجيز لآفاق الهندوسيّة ومآلات البوذيّة وقدر اليهوديّة والمسيحية وومصائر الإسلام في زمن التقابل الحضاري).

يشدّد الباحث في الفصل الثالث على سبل التخاطب بين أهل الاديان، وجديد الكتاب أيضًا هو الكشف عن قواعد الحوار الاساسية القائمة على انتماء إيماني ذاتي حرّ، حتى لا ينقلب الحوار الديني حوار ترف في مجالس الرخاء(92(. فاذا كان تصوّر موقع الآخرين مبنيا على امتلاك الحق، كان الحوار مخاطبة انعزالية ، واذا كان التصور مبنيا على امتلاك الجميع قبسًا من الحقّ الأسمى، كان الحوار طلبًا للتوفيق  او تعزيزًا للتنوع الشرعي المبني على الاحترام.

وخلاصة الأصول الخمسة في الحوار الديني، كما رأى إليها المؤلّف تكمن في استقامة العلاقة الشخصية بين المتحاورين والاقرار بقاعدة مشتركة استجلاءً لهويتها، والاعتراف بالانتماء إلى الانسانية الواحدة وبانفطارها على تطلّب المطلق، ما يستتبع ضرورة الانفتاح الإنساني على آفاق التجاوز الدائم لمستوى الوجود التاريخي في سبيل القضاء على كلّ أصناف العدمية. وفي الاصل الثالث، الحق في الاختلاف شرط يتجلّى في الاقرار بالمساواة المطلقة بين شركاء الحوار.أمّا الاصل الرابع فهو توليف بين أسمى مراتب الالتزام وأقصى درجات الانفتاح في حين أنّ الاصل الخامس يكمن في بناء عمارة الحوار الديني بالبحث عن الحقيقة التي لا يستطيع احد ان يقبض عليها او يستنفد غناها(97).

يشدّد الدكتور عون في هذا الفصل على الحوار ومكتسبات التمييز بين الايمان والأنظومة الدينية، (101)، فالايمان اتصال بالباطن الوجداني وهو مرتبط بالاختبار الفردي، قابل للنظر والمساءلة والتقويم، والعقيدة هي تعقّل الفكر لمعاني الإيمان في مذهب ما بما اجتمع عليه أهل التديّن،وعلى قدر ما تتجلى في الايمان حيوية الاختبار الشخصي يسهم الحوار الديني في تعميق معاني الإيمان والإعراض عن كل افراط فيالاصرار على أحقيّة الأنظومة الذاتيّة واستعلاء التقليد، سبيلًا  الى الحوار الديني، عارضًا أسباب معارضة الحوار الديني، عند الجميع، كالاصوليين، خوفا من تهديد إيمان الجماعة  وإدخال الشك والقلق في كل الاديان، وفي أنّ الحوار من فتوحات الحضارة الغربية المتأثّرة بالتصور المسيحي للوجود..

 ومن المعارضات التي ذكرها ايضًا أنّ الحوار يفضي الى شيء من النسبية الدينية التي تتعارض تعارضًا ظاهرا مع الحقيقة الايمانية غير المشروطة. كذلك يعيب اصحاب التشكيك نزوعه المقلق الى شيء من التوفيقية بين آفاق الكشف الإلهي ومقتضيات الانتماء التاريخي، ما يفضي الى الانتقاص من كمال الاديان. معارضة الحوار وانتقاده في مواقف الاديان الأخرى، ليختم الفصل الثالث بالسعي الى التلاقي في روحيّة الوثوق بأنّ الشراكة بين الاديان هي الأساس في كلّ تخاطب ديني، وضرورة الحوار والمساءلة الذاتية الناقدة، تجاوزا لكل الاعتراضات باستفسار الديانات عن طاقات الجدّة والتطور الكامنة فيها. وعلى قدر ما ينقلب الحوار الديني توقًا الى التسامي المطلق وانعطافًا الى العالم، يغدو هو بعينه حاملًا لمعاني الاختبار الديني ومعبّرًا عن حال الاعتناق الايماني الاعمق والارحب.

 

المسيحية بين الذات والآخر

في حين أنّ القسم الثاني من الكتاب، جاء كمنحى تطبيقي انطلاقًا من اللاهوت المسيحي  تحت عنوان المسيحية بين الذات والآخر، طارحًا الكثير من المسائل التي تتطلب جرأة ووعيًا نقديًا وانفتاحًا كلّيًا مقترنًا بالإيمان والالتزام، مبيّنًافي الفصل الرابع مركزية المسيح في مسألة المسائل في تلاقي الأديان من خلال خصائص لاهوت الفرادة والشمول والحب الالهي عماد هذه الخصوصيّة المسيحيّة، ورحابة المسيح كضمان للتنوع في الاختبار الايماني ومعاني احتواء الآخرين في سرّ المسيح. وأفرد الفصل الخامس لمناقشة الإخلاء الذاتي في المسيح والمسيحيّة، من خلال سرّ التجسّد الذي لا يبطل تسامي الله، كما انه لا يبطل القيم الروحية في التراثات الأخرى،لأنّه موضوع اعتلان في عمق الأصالة والفرادة، واحتجاب، أُفرغ السرّ الإلهي في حقيقته. معلّلا كيف أنّ المسيح هو أيقونة الله الحي الذي يكشف عمق الحياة الإلهيّة والحبّ البشري، وبذلك تكون فرادة المسيحية أنّها تبطل ادّعاءات التملّك  على المطلق في التاريخ، ففي مفارقة التجسّد إدخال للمطلق في التاريخ وإخراج للتاريخ من المطلق، والصليب إبطال لفرادة الاستعلاء وإثبات لفرادة الاتّضاع. وقد جاء الفصل السادس والأخير ليعرض موقع الآخرين في العمارة اللاهوتيّة المسيحيّة، والسبل اللاهوتيّة الممكنة في تصوّر الآخرين، من الإقصاء إلى الاحتواء، وصولًا إلى مساءلة الإيمان المسيحي من روح التجديد النقدي للوعي المسيحي الذاتي والتجديد الفكري في لاهوت التعدّدية.

ليختم كتابه بضرورة المعايشة السلمية نحو فكر مسيحي تعدّدي متجدّد في العالم العربي، والاعراض عن لاهوت الاقصاء والاقبال الى لاهوت الاقرار الطوعي بالتنوع الديني الكوني، عبر تجديد التفسير الذاتي للتصوّرات الإيمانيّة وللأنظومة الدينية، وبما انه ينطلق في هذا الموضوع من موقعه الايماني المسيحي، يدعو الى تجديد التفسير الذاتي للعمارة اللاهوتية المسيحية تحديدا.”من خلال اقتطاف ثمار الوعي النقدي التي انضجتها العلوم الانسانية في الازمنة الحديثة، وفي مقدمتها المقاربة العلمانية للإنسان في أصالة حريته الكيانية التي لا يهيمن عليها أيّ انتماء ديني معطّل لمبدأ الحرية الانسانيّة على شرط الا يأتي الاقتطاف محاكاة عمياء لمكتسبات الحداثة”(200).

يبقى أن نقول في ختام هذه العجالة، أنّ المؤلّف طرح العديد من المسائل العميقة التي تستوجب التوقف عندها والتفكير بها مليًّا، بما لا يتّسع لصفحات قليلة، لأنّها تتعلّق بأمور كيانيّة بدأت تنعكس بعض مخاطرها على حياتنا المعاصرة من تقاتل وتنافر على ما يجمع ويوحّد، مع ضرورة الإشارة إلى الاهتمام الكبير بنصاعة اللغة ونقاوتها في الطرح والنقاش والتحليل، مع استخدام الكثير من المفردات والاشتقاقات المتفرّدة في إعطاء المعنى الدقيق بما يتلاءم والفكرة المقصودة، على أمل أن يجرؤ آخرون استكمال هذه الطروحات بمساءلة نقدية جديدة وواعية.

            ***                     

(*) الدكتور مشير باسيل عون هو أستاذ الفلسفة الإلمانية في الجامعة اللبنانية. يعنى في أبحاثه بقضايا التعد>ية الكونيّة ومقتضيات الحوار بين الأديان والحضارات. أبرز كتبه: بين المسيحية والإسلام، مقالات لاهوتيّة في سبيل الحوار، الأسس اللاهوتية في بناء حوار المسيحيّة والإسلام، الفسارة الفلسفية بحث في علم التـاويل الفلسفي الغربي، محنة الإيمان اجتهادات ومساءلات في الفكر الديني المسيحي، الفكر العربي الديني المسيحي مقتضيات النهوض والتجديد والمعاصرة، بين الجامعة والسياسة.بالإضافة الى كتب وضعت في الفرنسية وكتب أخرى قام بتعريبها.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *