رياض السنباطي (1906-1981)… نقّاش الموسيقى العربية

Views: 1310

سليمان بختي

كان في العاشرة عندما سمعه والده يغني قصيدة صعبة وانتظره حتى أكملها. كان والده يغني في الحفلات والموالد وقرر اصطحابه معه في كل العروض. ذاع صيت رياض السنباطي الصغير ولقّب بـ”بلبل المنصورة”.

دون الثامنة عشرة ارتحل السنباطي عن المنصورة إلى القاهرة ملتحقاً بمعهد الموسيقى العربية دارساً الموشحات. وهناك اكتشف أساتذته أن ما يعرفه هذا التلميذ الضئيل الجسم يكاد يفوق معرفتهم. ولما سمعوه يعزف على العود طلبوا منه تدريس مادة العود ولم يمضِ على التحاقه بالمعهد شهور قليلة.

أولى تجاربه في التلحين كانت قصيدة “يا مشرق البسمات” لمحمود علي طه. ويروي رياض السنباطي (1906-1981) انه التقى الشاعر احمد شوقي الذي سأله عن معنى كلمة في قصيدة طه فأعجزه الرد، فنصحه أمير الشعراء ألا يلحن يوماً كلمة لا يعرف معناها. شقّ طريقه المهنية بتعاونه مع شركة أوديون للاسطوانات وراح يلحّن المدائح النبوية وقصائد الإنشاد الديني وعرف نجاحاً.

 

يقول السنباطي: “التلحين أنساني الغناء، ورأيت أنني كملحن أفضل مني بكثير مغنياً”. عام 1934 غنت له منيرة المهدية “أوبريت عروس الشرق” وغنى له عبد الغني السيد “يا ناري من جفاك” ولكن غناؤه وألحانه وجهوده في تلك المرحلة لم تدفع به إلى صفوف الكبار التي كان يتصدّرها محمد القصبجي وعبد الوهاب وزكريا أحمد وداود حسني.

نقلته الثانية كانت إلى الإذاعة الرسمية من خلال برنامجه الاسبوعي “الموسيقى” ومدته ربع ساعة.

 

دعته ام كلثوم لزيارتها في العام 1935 وطلبت منه تلحين قصيدتين لأحمد رامي “يا طول عذابي واشتياقي” و”لما كنت ناوية تهجريني آمال دموعك كانت ليه”. هل كان اللقاء هو الأول مع أم كلثوم”؟

يذكر فكتور سحاب في كتابه “السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة”: “إن اللقاء الأول كان لدى عودة السنباطي مع والده في إحدى ليالي الافراح. التقيا شيخاً آخر ومعه ابنته الصبية السمراء في محطة القطار. تعانق الشيخان. وتعارف الفتى بالفتاة التي كانت عائدة بدورها من فرح أحيته مع والدها في إحدى القرى. ولم يخطر ببال أي من الأربعة أن اللقاء الثاني بعد عقد في القاهرة سيعقد شراكة دائمة ويشيدا معاً صرحاً من صروح الموسيقى العربية في هذا العصر.

 

عرفت الاغنيتان اللتان لحنهما لأم كلثوم نجاحاً وطلبت إليه تلحين قصيدتين وهما: “سلوا كؤوس الطلا” و”سلوا قلبي” لأحمد شوقي. وهناك قصة لبيت ورد في القصيدة وهو “ما نيل المطالب بالتمني/ ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً”. فقد أنذرته السلطات البريطانية، وقررت منع الأغنية من الإذاعة باعتبارها تحريضاً على الثورة. علمت أم كلثوم ودخلت غاضبة على رئيس الإذاعة وطالبت برفع المنع ولم تخرج من الإذاعة قبل تحقيق ذلك. قالت وهي تخرج من باب الإذاعة: “تؤخذ الدنيا غلابا يا رياض”.

عام 1936 لحّن لأم كلثوم من كلمات أحمد رامي “النوم يداعب جفوني” ومن فيلم “نشيد الأمل” (1936) لحن “افرح يا قلبي” و”شباب النيل” و”قضيت حياتي”. ولحن لها “بغداد” 1939 ولكن سنة 1946 كان خصبة مع أم كلثوم التي استمرت الشراكة معها 40 سنة ولحن لها “نهج البردة” و”ولد الهوى”، والرائعة “غلبت اصالح بروحي”. عام 1949 لحن “رباعيات الخيام” و”النيل” التي قالت فيها أم كلثوم إنها معجزة شوقي.

 

وبرأي عبد الوهاب أنها من أجمل ما وضع السنباطي من ألحان. وفي 1950 “سهران لوحدي” (كلمات احمد رامي) و1951 “يا ظالمني” و”جددت حبك ليه” (1952)، ولهذه قصة جاءت بعد جفاء بينها وبين رامي، دخل عليها مرة للسلام فقالت: “زمان ما اسمعنا حاجة منّك يا أحمد”. فأجاب: “دي قصيدة كتبتها ولِسّه”. قالت: “قول يا احمد”. قرأ مطلعها والقسم الأول وتوقف. قالت أم كلثوم: “الله… كمّل يا احمد”. ولمّا انتهى صمتت هنيهة وقالت: “إدّيني إيدك يا أحمد”. فقال لها: “علشان ايه يا ستّ الكل”. فأجابت: “لإن الإيد اللي بتكتب الكلام ده بتنباس”. و”اغار من نسمة الجنوب” من كلمات أحمد رامي 1954، وفي عام 1956 قدم أغاني “ذكريات” كلمات أحمد رامي. و”اروح لمين”  و”لن أعود إليك” و”شمس الأصيل” من كلمات بيرم التونسي. وفي 1960 قدم “لسه فاكر” وفي 1961 لحن “الحب كده” والكلمات لبيرم التونسي. والرائعة “حيرت قلبي معاك” والكلمات لأحمد رامي. وفي عام 1962 لحن “حسيبك للزمن” و”ليلي نهاري”. وفي عام 1965 “اراك عصي الدمع” لأبو فراس الحمداني و”اقولك ايه عن الشوق” كلمات عبد الفتاح مصطفى. أما في العام 1966 فكانت رائعته “الأطلال” كلمات الشاعر ابراهيم ناجي والتي اعتبرت أيقونة ألحانه. وتمّ اختيارها من بين مئة لحن في العالم في القرن العشرين. ولكن ماذا يقول السنباطي نفسه عن “الأطلال”: “كان فيها شيء غريب. شعرت بذلك. مستني بسرعة. ولحنتها بشكل مختلف قصيدة كتب لها الخلود معنى  ولحناً وأداءً”. وتروي أم كلثوم أنها اتصلت ذات مرة بالسنباطي هاتفياً تسأله احواله فسمعت منه بعض التحفظات على اغانيها الأخيرة واستخدام الآلات الغربية فيها، فقالت له: “بص يا رياض… الأطلال ح تعيش مية سنة”. والسؤال، هل صحيح انه كان هناك قصيدة ثانية لابراهيم ناجي بعنوان “انتظار” برسم الغناء من أم كلثوم؟

بالفعل لحنها السنباطي، لكن أم كلثوم رحلت قبل أن تغنيها فغنتها المطربة اللبنانية سعاد محمد التي يصف صوتها السنباطي بأنه “قادر بلا حظ”.

واستمر التعاون بعد الأطلال فغنت له أم كلثوم عام 1969 “أقبل الليل” كلمات احمد رامي وفي العام 1971 “من أجل عينك عشقت الهوى” وكان آخر ما شدت به أم كلثوم من ألحان السنباطي “القلب يعشق كل جميل”. ولكن إلى جانب ذلك كانت هناك الأغاني الدينية والوطنية التي لحنها السنباطي ونذكر منها “إلى عرفات” و”ذقت الهدى” و”يا صحبة الراح”، رابعة العدوية “من عيني بكت عيني”، “تائب تجري دموعي ندماً” و”حديث الروح” لمحمد إقبال و”الثلاثية المقدسة” و”رحاب الهوى”.

 

 وفي الألحان الوطنية “مصر تتحدث عن نفسها” و”وقف الخلق ينظرون” و”صوت الوطن” و”يا جمال يا مثال الوطنية” (بعد نجاته من الاغتيال) و”منصورة يا ثورة الأحرار”. واغنية “طوف وشوف” وكانت المرة الوحيدة التي كسر فيه التقليد إذ كان لا يحضر إلى المسرح بل يستمع إلى ألحانه عبر الراديو “مصغياً إلى تجاوب الناس مع اللحن”، إذ كانت المناسبة 23 يوليو وحضرها الرئيس جمال عبد الناصر ومنحه وسام الفنون والعلوم من الدرجة الأولى.

وغنت من ألحانه في زمن الوحدة 1958 “بعد الصبر ما طال” و”وفق الله على النور خطانا” كلمات محمود اسماعيل و”قصة السد” 1960 والأغنية الجميلة “ثوار” 1961 كلمات عبد الفتاح مصطفى وغنت “يا حبنا الكبير” 1965، وقبل النكسة لحن لها “راجعين بقوة السلاح” والكلمات لصلاح جاهين ثم عند استقالة عبد الناصر غنت “قم واسمعها من اعماقي” ولما توفي عبد الناصر في أيلول 1970 غنت من شعر نزار قباني والحان السنباطي “رسالة إلى عبد الناصر”.

 

ولكن هل مرت علاقته مع أم كلثوم بخلافات أو شوائب؟ يجيب السنباطي: “قصة حياتي هي أم كلثوم” (والجواب يشبه ما قاله صبري الشريف على فراش المرض عن عاصي الرحباني حيث قال: “عمري كله عاصي الرحباني”). ويوضح أن “الخلافات كانت تصل إلى ما يشبه الانفصال ومرة استمرت لعامين 1960-1961. كانت خلافات على أتفه الأسباب. وصلنا معاً إلى تقديم قمة الشعر الراقي. عرضت عليّ قصيدة فرفضتها لأنها تشكل نزولاً عن المستوى الرفيع الذي وصلناه. أم كلثوم لم تكن صوتاً فقط بل مجموعة من الميزات العجيبة. لم أحمل عودي إلا لها. كانت متقلبة غريبة، لذلك كنت أناديها أحياناً “دنيا” ولهذه الدنيا لحنت أكثر من 300 لحن”. ونظر مرة في ألحان أم كلثوم معتبراً أن بعض ألحانها تحتاج إلى تدقيق. ولما سؤال من تحديداً أجاب: “قصدت بليغ حمدي”.

عرف عن السنباطي انضباطيته الفنية، ذات مرة ألفى تمريناً مع إحدى الفرق الموسيقية لضبطه عازف يدخّن. كما رفض تلميذة في معهد الموسيقى العربية جاءت تتعلم الغناء “بعدم صلاحها للغناء العربي” وكان اسمها “عفاف راضي”.

 

يروي الشاعر نزار قباني انه حضر تسجيلاً لأم كلثوم لأغنيتها “الثلاثية المقدسة” في استديو الإذاعة المصرية. وكانت تنصت إلى السنباطي في ملاحظاته وتصويباته وتجيبه بقولها: “حاضر يا فندم… كأنها تلميذ محب للعلم”. ولا تقترح تبديل أي شيء في لحنه إلا بلهجة التمني والرجاء. وكانت تطلب من السنباطي أن يقسّم لها على العود قبل التسجيل حتى تسلطن.

رياض السنباطي الكلثومي هل لحن لغيرها من المطربين والمطربات وكيف أخذت أم كلثوم الوهج وحدها؟ بتكليف من الإذاعة لحن لمطربات مثل فايزة أحمد ونجاة الصغيرة ووردة وعزيزة جلال وسميرة سعيد.

وكان يعلق مقارناً ذلك مع أم كلثوم بالقول: “يؤسفني أن الفنانات اليوم يتكلمن ولا يغنّين”.

وهو غالباً لم يلحن إلا القصائد الفصحى ولما لحن العامية وصفها بالعامية المفصحة واعطى مثلاً: “شمس الأصيل” أو “القلب يعشق كل جميل”.

لحن لليلى مراد “من يشتري الورد مني” و”ليلة جميلة يا محلاها” و”يا حبيب الروح” وغيرها. ولحن لأسمهان “أيها النائم” و”نشيد الأسرة العلوية” وغيرها.

 

ولحن لنور الهدى “يا ريت كل الناس فرحانة” والرائعة “يا اوتومبيل” وغيرها. ولحن لصباح: “الليل لنا” و”يا هواي” و”يمينك لف” وغيرها. ولحن لعبد الحليم حافظ “اوبريت لحن الوفاء مع شادية” واغنية “فاتوني التقي وعدي” (فيلم ليالي الحب 1956). ولحن لسعاد محمد: “فتح الهوى شباك” و”أنا وحدي” و”يا قدس يا حبيبة السماء” و”إذا الشعب يوماً أراد الحياة”، و”انتظار”. ومحمد عبد المطلب “شفت حبيبي” وعبد الغني السيد “شفت الأمل والهناء” و”يا أسرة قلبي” والرائعة “لا دمعي كفى وطفى النار” وغيرها. ولحن لنجاح سلام “عايزة جواباتك” و”النشيد الجميل “أنا النيل مقبرة الغزاة” (أثناء العدوان الثلاثي). وفتحية احمد “رأى اللوم” ونجاة الصغيرة “يا سلام عليك” و”أنا املك” ولحن لشهرزاد وكارم محمود واحلام ونازك ورجاء عبده وفدوى عبيد. كما لحن لوديع الصافي “نغم ساحر” كلمات الشاعر جورج جرداق وغنّاها الصافي على العود ولم يسجله.

وكانت له قصة مع فيروز في بيروت إذ شاءت الأقدار أن يضع لحنين لفيروز قبل رحيله. ومن كلمات الشاعر الراحل جوزف حرب “بيني وبينك خمر وأغاني” و”اصابعي منك في اطرافها قبل” ولم تذع مع أنه تمّ تسجيلهما… وهناك بروفات بصوتها وصوته. وبحسب الباحث محمود زيباوي أن السنباطي اقترح عليها ايضاً أغنية ثالثة من كلمات عبد الوهاب محمد بعنوان “آه لو تدري بحالي”. علماً أن الاغنيات الثلاث متوفرة على اليوتيوب بصوته وعلى العود.

وكان رأيه بعد سماعه لبروفات بصوت فيروز “انه صوت جميل جداً وحساس للغاية ولكن فيه مقامات مخنوقة لم يحسن الرحابنة اظهارها”.

 

ولحّن لوردة: “يا لعبة الأيام” و”حاقولك حاجة”، و”يا حبيبي لا تقل لي ضاع حبي” (1980). وأشاد غير مرة بوردة بأنها الوحيدة بعد أم كلثوم التي تجيد غناء القصائد، مع انه قال غير مرة أن في جوانب صوتها صراخ. ولحّن لفايزة أحمد أربعاً أخرى “لا يا روح قلبي أنا” وكانت آخر ألحانه وآخر اغنياتها ولم يتسنَّ له الإشراف على تسجيلها ومات قبل أن يسمعها.

وماذا عن رياض السنباطي المطرب والمغني؟

ونورد هنا رأي محمد عبد الوهاب إذ يقول: “لو لم يغنِّ السنباطي غير قصيدة “اشواق” 1968 لحقّ له أن يعد مطرباً كبيراً”. وسجّل الكثير من القصائد الملحنة لغيره على عوده. وهو غنى في الفيلم الوحيد الذي مثله عام 1952 بعنوان “حبيب قلبي” وهي “على عودي” و”فاضل يومين” وأيضاً محاورات غنائية مع هدى سلطان “بتبكي ليه يا نغم” و”ايش معنى يا ناس” و”عندي سؤال”. وغنى قصيدة “فجر” و”أين حبي” وغنى لسيد درويش “أنا هويت” و”ضيعت مستقبل حياتي” وغنى على العود “سلوا قلبي” و”عودت عيني” و”رباعيات الخيام”.

 

أخيراً ترك رياض السنباطي أثراً كالنقش لا يمحى في الموسيقى العربية. بمناخه ومزاجه وتراكيبه ووحدته وقفلات جمله الموسيقية وفي تكامل هوية لحنه وأصالة فكره الموسيقي. ورغم تأثره بجو عبد الوهاب القديم (كان عوّاداً في فرقته 1933-1934) ورغم تأثره بالقصبجي وذكريا أحمد إلا انه استطاع أن يكون رياض السنباطي المتفرّد الذي يشبه ولا يشبه أحداً. وكان صاحب رسالة للفنان مفادها أن ينهض بالجمهور ويرتقي به إلى الأعلى ولا ينزل إليه أبداً. مات رياض السنباطي في التاسع من أيلول 1981 متأثراً بمرض الربو بعد عمر سيظل يصدي بالألحان في طريق تخصه وحده ولزمن بعيد.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *