السنة الطقسية الفكرية

Views: 789

يوسف طراد

كلُّ صباحٍ عندما تقرأ مقطعًا من كتاب الكاتب شربل شربل (في مثل هذا اليوم) الصادر عن دار سائر المشرق للنشر، تسترجع لذّة التفاصيل بومضات أفكاره مع قهوة الصباح، فتفوح من الكلمات نكهة ذكية تضاهي رائحة البُن المحمّص.

بعد الإهداء الوجداني والمقدّمة بقلم الأستاذ أنطوان رعد وضمن التمهيد يضع الكاتب متابعي صفحته الفايسبوكية في قفص الاتهام، جرمهم أنهم ورّطوه في كتابة الكتاب، فنحتار لحدث ولادة (في مثل هذا اليوم) هل نشكر المتابعين أم نشكر شربل شربل؟ ندخل في آلةٍ افتراضية كمتعة اللّعب بألعاب (البلايستايشن) تسكن الكتاب تعيدنا بالزمن إلى تواريخ قريبةٍ وبعيدةٍ، دخول هذه الآلة يجبرك على متابعة الأحداث ويصبح الخروج منها رهنًا بانتفاء لذّة المطالعة التي تزداد مع توغّل الفكر في معاني السطور لأن الصفحات تتحوّل بين أيدينا أرجوحةً تحملنا إلى عالمٍ نتوق إليه بإحساسٍ وندخل إلى شوق استشفاف عمق المنشورات.

هل هي صدفة أن تكون ولادة الكتاب متزامنة مع ولادة الأديب جبران خليل جبران؟ فالمنشور الأول تضمّن شكرًا لجبران من خلال معاني غاصت في كينونة المحتويات لتظهر رمزية المؤلّفات. ثم ولادة مونتسكيو الذي كتب رائعة “روح الشرائع” وابتكر نظرية فصل السلطات.

الكاتب شربل شربل

 

المنشورات مدرجة بالتتابع الزمني فلا يمكن لأي قارىءٍ أو ناقد السؤال لماذا لم يتمّ إدراجها حسب المعنى أو الغاية من المنشور، فالمواضيع التي تناولها الكاتب شيّقة ومتعدّدة تتضمّن كمًّا هائلًا من الإضاءات على ولادات ووفَيات كتّاب مشهورين إلى أحداثٍ تاريخية ومحلية غيّرت وجه التاريخ مرورًا بأيامٍ عالمية لمسائل متعدّدة في عالم الإنسانية جمعاء كالعدالة الاجتماعية، الدفاع المدني، المياه، الشجرة، الممرضة، الرقص، الشباب، العمل الإنساني، المخفيين قسرًا، رجال الفضاء، مكافحة السيدا، العمران، الكتّاب الذين يكتبون من السجون،… بالإضافة إلى الأعياد الثابتة كعيد الأم وعيد النوروز والمعالم الأثرية التاريخية كالباستيل وذكريات تهجير البلدات اللبنانية، وأبواب كثيرة نفتحها بشغفٍ ونقفلها بأسفٍ آني للعبور إلى الأبواب الأخرى. ضمن جميع هذه المعلومات القيّمة يحتار القارىء أين سيصنف (ولادة النعجة دوللي) أفي باب ولادة المشاهير أم في باب (فتح غير مسبوق يسجّل للذكاء البشري) وفي أي خانة يدرج موضوع صناعة أول علكة معدّة للتسوّق، من هنا ومن صعوبة التبويب التي لا تعصى على الكاتب أتى السرد بالنسبة لتتابع التواريخ ليختلط المعنى مع المعنى ويصبح لذيذ الاستنشاق للفكر كما لذّة اختلاط التبّولة للمذاق مع العرق في بلاد الأرز.

حسب العرف تكون الرواية في كتابٍ واحدٍ لكن هذا الكتاب ضمّ العديد من الروايات الشيّقة، فقصّة يوسف شعبان وعمران المعايطة التي وردت في الواقع إنها روايةُ أسطرٍ قليلة لكنها لا تتسع لخيال القارىء مجلّدات لطبعها. يُلفتنا المواضيع الغريبة التي أدرجت كموضوع اليوم العالمي للتثاقل فيخطر على بالنا سؤال هل هنالك يومًا عالميًا للكسول وتحضر أمامنا قصّة معبّرة لخلقه كما وردت على لسان معلّم اللغة العربية في بلدتنا الأستاذ أنطونيوس عكّاري رحمه الله فحواها: بعد أن خلق الله آدم من الطين في ساحةٍ كبيرة وعند جفاف الطين المتبقّي أراد الرب أن يخلق إنسانًا آخرَ فلم يجد طينًا في الساحة فكنس نتف الغبار وجبلها فخرج منها الكسول. الظرافة والنكتة المحبّبة الهادفة لم تفارقا الكلمات فخلال منشورٍ يتحدث عن الركمجة يسأل الكاتب مجازيًا هل هنالك يومٌ عالميٌ (للركخزة) أي ركب الخازوق؟ كما ربط أمورًا كثيرة تُعنى بتطور الوعي لدى المجتمعات المتقدّمة كربطه بين إشارة المرور والثقافة. جميع فقرات الكتاب تحمل مستوى الفكر الراقي لدى صاحبه لكنه توجد فقرات مميّزة تلتصق بالمخيّلة كالوشم: (الرقص ديوان الجسد)، (حقًّا إن الضحية الأولى في الحروب هي الحقيقة؟)، (لقد كان النفط أغلى من دماء الأرمن) بالإضافة لمصادفاتٍ كثيرةٍ وردت كوفاة المعلّم بطرس البستاني التي حصلت في مثل يوم ولادته من السنة عند وفاته فيكون عمره الزاخر بالعطاء رقمًا مدورًا. تعرّفنا على مشاهير ليسوا من عالمنا فعندما كانوا يحاولون الخروج من هذا الكتاب الوثيقة إلى فكرنا اشتمّوا رائحة الفساد الذي حاربوه في مؤلّفاتهم وثوراتهم ففضّلوا سجن السطور لأنهم لن يؤثّروا في حبور العقول أمام جنون وعشق الدولار. بانتظار اليوم العالمي للهواتف الذكية فإن محتوى المنشور الخاص بالتلفزيون يفي بغرض الإضاءة على هذا الموضوع للشبه الكبير بين حسنات وسيئات الإثنين.

 

لا نرتوي من شهد المعاني على امتداد الصفحات وكأن العناق بين الفكر و الكتاب تُرجم بمنشور اليوم العالمي للقبلة. رعشةٌ سرقتها النصوص عنوةً من روزمانة الكرة الزرقاء الهاربة في الفضاء، منشورات حاملة الهدف النبيل تتهادى كرقص سنابل القمح الذهبية المكتنزة حبوب حنطة. كتابٌ رمزُ التوهّج بحبر الحقيقة، لا تخافي أيتها الثقافة طالما يوجد كتّاب كشربل يحمونك من لصوص صفحات الجوّالات، فالثقافة الحقّة ستحرق شتائمهم في قصورها العاجية وتحلم بالأوطان الندية.

إذا كان كتاب القدّاس الماروني يُعنى بالسنة الطقسية للذبيحة الإلهية من تجديد البيعة إلى زمن الصليب مرورًا بزمن الميلاد، الدّنح، الآلام، القيامة، العنصرة، فإن كتاب شربل شربل بمثابة السنة الطقسية الفكرية لمراحل وأيام مميّزة لطقوس الإنسانية.

الخميس 17 تشرين الأول 2019

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *