من منّا يا بيروت؟.. وقصائد أخرى

Views: 314

أحمد فرحات

 

حتّى البحر تفكَّكت أركانُه

وما عاد بحراً أمام عري دماركِ الأخير

بيروت

مَن منّا لم يصعقه الرعب وقد وُلد للتوّ في سماء مُباغِتة لسمائك؟

مَن منّا لم يمُت؟

مَن منّا لم يَغْرَق؟

مَن منّا لم يَختفِ في الهواء؟

مَن منّا لم يرْدمه الردْم؟

من منّا لم تهرب مياه روحه منه؟

من منّا لم يصر مزيجاً من كلّ شيء في لجّة هذا الضباب الجنائزيّ؟

مَن منّا لم تُطبق وحدتُهُ على وحدتِهِ؟

من منّا لم تتوسّع فيه عيونُ الانتقامِ الذي لا يُشبهه انتقام؟

بيروت يا أنثى البحر مُذ كان البحر

أطلّي بشباكِكِ الذهبيّة الآن من قلب البحر الكحليّ الجديد

وانقذينا.

***

أبجديّة جديدة

 

بين المدُن القديمة

بين المُدن الحديثة

باتت اللّغاتُ كلّها ضيّقة عليكِ

وما عاد يُغويكِ حَرْفٌ

صارَ كلُّ سردٍ سائدٍ يرتجف بسوادِه أمامك

لذا أريد أن أبتكر لك أبجديّة جديدة..

أبجديّة تليق بكِ كمدينة على خطّ الزمن اللّاحق

مدينة لن تُسحب سماؤها ثانية من فوقها

انزلي عليّ من وحيكِ المُغايِر الآن يا بيروت

وأعيدي كتابتي

أعيدي كتابتنا كلّنا شعراء هذي الأرض

امنحينا الوقتَ الذهبيّ كي نتعلَّم مُعجزتك

كي تكون حياتكِ الأبديّة مِلْكاً لنا..

ولأرواحنا المُرمَّمة

يا مدينةً تختصرُ الشعرَ كلَّه

وقمح الكلمات الجديدة كلّها

ستظلّ شهوة المعرفة لهيباً ينبع من عينَيك

***

الانفجار

 

فجأة يا بيروت

صَعَقَنا الإعتامُ

بَهَرَنا الموتُ من فرطِ مَوتِه

وشلَّنا الهواءُ المرمّد

***

تراني الآن أدير وجهكِ باحثاً عنك

أهبط بالصمت الشارحِ على الصمتِ الشارح

كي أظلّ على الدوام فائضاً فيك

فإلى الآن لم يتوقَّف انفجارُكِ فيّ

إنّه يتسلّقني يوميّاً رافعاً وجوهه الفوسفوريّة

الموشَّحة بالفطرِ القرمزيّ

مُعبّئاً سمائي المُجهَدة باللّامعقول

ويُجرِّدني حتّى من أقداري

***

أجمة فينيقيّة

 

تاريخ فينيقيا يَرشَحُ منكِ

ومنّي بعدك

ثمّة أرضٌ ثالثة بالشغف تجعلنا الآن

وبعد آلاف الأعوام

نمتلك ملحمة الهواء الشاهق بالبحر

حيث يُطلّ “ملياغر” (1) عابراً ذرواتك ومزوّداً

بأجماتك الضوئيّة إلى جزيرة “كوس” (2)

ليحيا سفيراً أبديّاً لكِ فيها

ويجعل من خطوطِ المُدن البحريّة المتوسطيّة دروباً إليكِ

يقول هيرودوت إنّ ملياغر

استنبتَ على أرضِ قبره في كُوس شجرة أرزٍ باذخة التألُّق

استحالت الآن علامة لولبيّة تمسك بالجهات كلّها

وتظلّ تسحب الأسرار الناعمة لسطح البحر إليها

خضراء.. خضراء، ووجهكِ دوماً أخضر يا “بيريت” (3)

يمتصّ نشيد الزرقة أمامه ليُضاعفها في أخضره المُضاعَف

جاعلاً الألوان كلّها تتنازل عن بَهجتها لتلتحقَ ببهجَتكِ

تلك إذن مُعجزتكِ يا “بيريت”

أفرأيتِ؟؟

أفرأيتَ يا ملياغر؟؟

أفرأيتِ يا أجمة فينيقيا؟

ها هو سحركِ يتنازل ليعطيني كلّ شيء من جديد

بما في ذلك أسراركِ وأسرار ملياغر

التي صارت كلّها أسراري

مغذّاة بالأبديّة

وبالمُطلق الآتي ليكون أبديّةً أخرى

 

(1) ملياغر: شاعر فينيقي

(2) كوس: جزيرة فينيقيّة قديمة، وهي تتبع اليوم، وبالاسم نفسه، لدولة اليونان

(3) بيريت: الاسم الفينيقيّ القديم لبيروت

***

اللّبناني

 

ما إن ينزل اللّبناني من بطن أمّه

حتّى يُؤخَذ إلى المُعتقلات الطائفيّة والمذهبيّة

يظلّ فيها، هكذا، يقتل الوقت.. ويقتله الوقت

بلا جدوى يخوض معارك دونكيشوتيّة

تجرّه صاغراً إلى فَيضِ المَهالك

ولا تنتهي به إلّا في التقاء الساكنَين:

جثّته والمَقبرة

***

بعد الكارثة

 

بعدكِ بيروت

لا معنى للألم

لا معنى للحُزن

لا معنى لدَمي وهو يلمع في عيون الناظرين إليه

لا معنى للمُختلف

لا معنى لشهوة السماء للبحر

وشهوة البحر للسماء

لا معنى للمعنى

تراني أطرد العالَم منّي

أو هو يطردني.. سيّان

لم أعُد ذاتي، ولا أريد أن أكون ذاتاً أخرى

أريد أن أكون شيئاً بلا بداية ولا نهاية.

***

مُطارَدة

 

ضاقت الأرضُ بفضائها

ضاق التكوينُ بالتكوين

وتكدَّست الأساطيرُ في رأسي

أتحدّث الآن عن بحرٍ يُلاحقني

عن سماء تتنزَّل لتهربَ أمامي

عن فوضى تَصرعني وأصرَعُها

قُدْني إليها أيّها الخراب

قُدني إلى لؤلؤتِها في الضوء الذي سيطلعُ منها

أشدَّ نقاوَةً من ظهيرة صيف

وحدي الآن أسمعُ رَجْع صوتها

وحدي أنسكبُ في وَرْدَتِها

مثل غوايةٍ تأبى إلّا أن تندسّ في غوايتها

لكلِّ شيءٍ أوانُ قدومٍ.. وأوانُ رحيل

إلّا أنتِ بيروت لكِ الأوان المفتوح كلّه

لك الآفاق كلّها

واللّا آفاق أيضاً.

***

حضورٌ وغيابٌ

 

حطامكِ الآن يَستبصر كلّ شيء

وليس لي سوى أن أكون حطامك

كلّ شيء حين يأتي معكِ، يُغطّي كلّ شيء

وكلّ شيء حين يَغيبُ معكِ يُغيِّب كلّ شيء

بعدكِ العالَم كلّه بلا حاضر.. بلا آت

وليس للمُدن كلّها أن تعرف نفسها

إلّا عندما تعرفكِ أنتِ يا بيروت

معك، في غيابك

أنا لا أُلمْلِم إلّا الأعالي كلّها

الأعالي الجديدة والمُعتَّقة

الأعالي التي لا تُعلِّم سوى الإحساس بالشاهق الحضاري

وبصَوت الوهْج المُتدفِّق على العالَم

بيروت فيزياء المُستحيل

أنت لا تزولين

ولا تتحوّلين إلّا لما تريدينه

العالَم كلّه يدور حولكِ

ويشرب من جديد

نخب صحّة أطلس قيامَتك.

***

في جزيرة كوس

 

أمام قبر ملياغر في جزيرة “كوس”

وبقلبٍ ملؤه الشعر العظيم، سألني شاعرُ فينيقيا:

ماذا دهاها “بيريت”؟ ما الذي جعل أبنيتها تطير في الهواء؟

وأحشاء بحرها تلتصق بالسماء؟

وكلمات شعرائها تنام في الظلال البليدة للفراغ؟

أجبته: إنّها السياسة أيّها الشاعر

تجعلنا نَهيم في فضاءاتٍ نعرفها، ولا نريد أن نعرفها

تجعل طيورَنا البيض غرباناً

وشمسَنا عماءً مُتمادياً

وعقولَنا تتكلّس كما يتكلّس المِلح على الجدران

ملياغر يا ذا المآثر:

فَمي عالياً يصرخ إليك

كنْ مُساوِياً لنا ولغيرِنا من كلّ الجهات

لا عرش يعلو فوق عرش كلماتكَ

فهي تقاضي الكلّ ولا يُساوِم عليها إنسان

تَصدر عن دمٍ وروح

ورقيم حَجَرٍ نقيّ يرنّ في الهواء

كلماتكَ نافذة تُشبه المُستحيل القاطع

الذي هو اختمار الزمن الدائم

في دَورةٍ مكّوكيّة من نهاية الأشياء وبدايتها

عظيمةٌ آلامنا، ملياغر، وعذابُنا لا ينتهي

أيّها الشاعر الذي من قبره يُخاطبني:

“أنا مرآتكم الشاسعة على بحار فينيقيا التي لا تحدّها بِحار

لأجل الحُبّ أتيتُ إلى هذا العالَم

ولن أغادره إلّا بعد إتمامي ما جئتُ لأجله”.

ملياغر: فيكَ وفي نفسي سأبقى

هكذا مثل صباحٍ دائم على الأرض

و”بيريت” التي لغتها من طعْم الدهر، لن تموت

ستُواجه العصْف بالعصْف، عاليةً على الريح

وعلى البحر

وستظلّ تقصّ علينا قصّتها

وسنظلّ نقول لها:

خذي من رغبتنا فيكِ ما تشائين.

***

(*)  مؤسّسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *