بيروت بوصفها صانعة للحداثة ورافِعة لها

Views: 801

د. حسن مدن

أيّاً كانت غاياته السياسيّة، فإن اختيار الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، في زيارته الثانية لبيروت خلال أقلّ من شهر، التوجُّه من المطار مُباشرةً إلى حيث تسكن الفنّانة الكبيرة السيّدة فيروز، للّقاء بها وتقليدها أعلى وِسامٍ فرنسيّ، حَمَلَ مغزىً ثقافيّاً وحضاريّاً مُهمّاً، لا ينحصر في المكانة الرفيعة لفيروز فحسب، فنيّاً ووجدانيّاً، في نفوس اللّبنانيّين بخاصّة، والعرب بعامّة، وإنّما أيضاً في كون فيروز نفسها علامة، بل أبرز العلامات، على مَكانة لبنان، وعاصمته بيروت الثقافيّة والفنيّة، وشاهداً على مرحلة، لا بل ومَراحِل، ممّا يُمكن أن ندعوه المجد الثقافيّ للمدينة – المَنارة.

أتى ماكرون بيروت التي كانت ما تزال مذهولة ومفجوعة بالانفجار المروِّع الذي جرى في مرفئها، الذي كان رئة من رئات المدينة، التي تحوّلت بدَورها إلى رئة مولِّدة للحداثة وللعطاء الثقافي والفنّي، لا في حيّز لبنان الجغرافي المحدود وحده، وإنّما على امتداد الرقعة العربيّة الواسعة الممتدَّة مَشرقاً ومَغرباً، وهو المعنى الذي يُمكن اعتبار زيارة رئيس فرنسا لبيت السيّدة فيروز إدراكاً وتقديراً له.

في كِتابه: “بيروت والحداثة” (2010)، يرى الباحث اللّبناني المُقيم في كندا كمال ديب، أنّ لبنان ما كان سيُصبح لبنانيّاً، منذ ستينيّات القرن الماضي خصوصاً، لولا فيروز والرحابنة ومجموعة من الفنّانين الذين تأثّروا بهم، فالعمل الرحباني هو صورة عن لبنان الذي عرفه أهلُه وعرفه الآخرون من غير اللّبنانيّين عرباً كانوا أم أجانب، حيث اعتاد اللّبنانيّون أن ينظروا إلى ما قدّمته فيروز والرحابنة بعامّة على أنّه تاريخهم وفولكلورهم وفنّهم.

فيروز، إذن، ليست عنواناً للإبداع اللّبناني وحده، وإنّما هي أيضاً عنوانٌ للهويّة الوطنيّة اللّبنانيّة. فحين يجري التفتيش، ليس عمّا يجسّد رمزيّاً مكانة لبنان ودَوره الحضاري المشعّ فحسب، وإنّما أيضاً عمّا يُجمع عليه اللّبنانيّون، بما هُم عليه من تنوّع وما بينهم من تناقضات، فإنّ الأنظار لا يُمكن أن تنصرف إلى وجه آخر غير فيروز، وهذا ما فهمه رئيس فرنسا ومُستشاروه، كأنّهم بذلك يوصلون رسالة بليغة أنّ لبنان الذي كان، قابلٌ لأن يعود مؤدّياً الدور الذي أدّاه، وأدَّته عاصمته بيروت خصوصاً، كعاصمة ثقافيّة تنويريّة في العالَم العربي، وهو الدَّور الذي ظلّ مُستهدَفاً من خصوم الأفكار والقيَم التنويريّة، بزَجّ البلد في لجج الحروب والنزاعات الأهليّة، وتحويلها إلى ساحة تصفية حسابات بين القوى الإقليميّة المُتصارِعة، ولا يُمكن النظر إلى الانفجار المهول الذي استهدف مرفأ بيروت خارج سياق هذا الاستهداف.

تزامنَ العصر الذهبي لبيروت، ثقافياً وفنيّاً، بوصفها صانعة للحداثة ورافعة لها في الآن ذاته مع تبلْور الهويّة الوطنيّة اللّبنانيّة، التي استطاعت أن تحتوي المكوّنات المُختلفة للمُجتمع في كيانٍ وطني واحد، صنعَ القواسم المُشترَكة بين أبنائه وطوائفه، وترافَق ذلك مع تعزُّز البُعد العروبي في المُجتمع اللّبناني، الذي أعطى لبنان مكانته ودَوره العربيّين، وأهَّل بيروت لأن تكون، لا مجرّد عاصمة للدولة اللّبنانيّة، وإنّما أيضاً عاصمة عربيّة، بفضل ما توفّرت عليه من مناخ حريّة نادر، عربيّاً، وكانت الثقافة هي مصدر قوّتها التي يُمكن وصفها بـ “قوّة ناعمة”، لكنّها شديدة التأثير والفعاليّة، بحيث ظلّت تؤرّق مضاجع كارهي الثقافة والتقدُّم والحريّة.

مَصاهر السياسة والفكر والفنّ

مَن كتبوا في تاريخ الحداثة العربيّة رأوا أنّ حملة نابليون على مصر هي الصدمة التي أطلقت شرارة الوعي العربي، وآخرون عزوا الأمر إلى مشروع محمّد علي باشا في تأسيس دولة قويّة مستقلّة عن السلطنة العثمانيّة ومُنافِسة للدول العظمى الاستعماريّة، حيث بدأت في التبلْور، يومها، إشكاليّة النهضة أوّل مرّة، عبر رفاعة رافع الطهطاوي، العائد من بعثة علميّة إلى فرنسا استمرَّت سبع سنوات، ليُنادي بنشْر التعليم وفتْح المَدارس، وبخاصّة في القرى والأرياف، ويُطالِب بتعليم البنات وتحرُّر المرأة، وَوَجَدت أطروحاته امتداداً لها في كِتابات قاسم أمين ومحمّد عبده وجمال الدّين الأفغاني واللّبنانيَّين فرح أنطون وشبلي شميّل وآرائهم، ثمّ عبد الرّحمن الكواكبي الآتي من حلب السوريّة، وصولاً إلى طه حسين.

لكنّ الحديث عن تاريخ الحداثة العربيّة لن يستقيم من دون الوقوف على الدور التنويري المُهمّ الذي أدّته بيروت في صنْع ميراث هذه الحداثة وتقاليدها، ليس بصفتها مطبعة العرب، كما يُرَدَّد أحياناً، على الرّغم من حيويّة الدَّور الذي اضطّلعت به دُور النّشر اللّبنانيّة، ومنذ وقت مبكّر، في طباعة الأعمال الأدبيّة والفكريّة المهمّة للمُبدعين والمفكّرين العرب وترجمتها، وحيث كان لمناخ الانفتاح وحريّة النشر دَوره الكبير في تعميم المؤلّفات والكُتب الحاملة لأفكار الحداثة، وإصدار الدوريّات التي كانت رافعة للمَدارس الحديثة في الشعر والنقد والسرد وفي الفكر، وإنّما أيضاً لأنّ بيروت، ولبنان بعامّة، قدَّم للعرب وجوهاً بارزة في التجديد الثقافي والفكري والفنّي. فهو ولّاد للمُبدعين، الذين تجاوزوا في صيتهم وأهميّة ما أبدعوه حدود بلدهم الصغير، لبنان، ليَبلغوا الفضاء العربي كاملاً.

بيروت لم تقدِّم فقط مواهب أهل لبنان أنفسهم من شعراء وأدباء وكُتّاب وفنّانين في مختلف مجالات الفنّ كالمسرح والتشكيل والسينما، وإنّما احتضنت أسماءً عربيّة مهمّة، وجدت فيها المناخ الضروري للحريّة وخصوبة الحوار والتفاعُل، سواء من الذين اختاروها مَكاناً للإقامة لأنّهم وجدوا فيها مناخ الحريّة والانفتاح غير المُتوفِّر، بالقدر نفسه، أم غير المُتوفِّر على الإطلاق، في بلدانهم الأمّ، أو اولئك الذين وَجدوا في الدوريّات والصحف الصادرة فيها مَنابِر لنشْر إبداعاتهم.

وحسبنا هنا أن نُشير إلى واحدة من أبرز هذه الدوريّات، هي مجلّة “الآداب” لصاحبها الروائي البارز سهيل إدريس، والتي صدرت في العام 1953، وأصبحت حاضِنة لحركة الشعر العربي الحديث، وللسرْد القصصي وللدراسات النقديّة، وعلى صفحات أعدادها التي استمرّت في الصدور عقوداً، نشرَ نِتاج الأقلام العربيّة المُبدِعة من مُختلف الديار العربيّة، وتحولّت إلى بيئة للتفاعُل بين التجارب والمَدارِس المُختلفة، لعبت دَور المُخصِّب لمُجمل النّتاج الأدبي والفكري في العالَم العربي، وهذا ينطبق، بمقادير مُختلفة، على دوريّات أدبيّة وثقافيّة أخرى صدرت في بيروت، وبخاصّة منها مجلّة “شعر” التي أسَّسها الشاعر يوسف الخال في شتاء العام 1957، ولعبت أدواراً مهمّة وطليعيّة في تفعيل ثورة الشعر العربي الحديث، إبداعاً ونقداً.

وعلى الرّغم من أنّ الجامعة الأهمّ والأعْرق فيها، هي أميركيّة، إلّا أنّه في هذه الجامعة بالذّات دَرَسَ وتخرَّج العديد من قادة الرأي العامّ والفكر والسياسة، لبنانيّين وعرباً، ممَّن لعبوا لاحقاً، وما زالوا يلعبون حتّى اليوم، أدواراً مهمّة في مُجتمعاتهم، وبناء كيانات دولهم الفتيّة يومها.

بل إنّ بعض المقاهي البيروتيّة، بخاصّة في شارع الحمرا في رأس بيروت، الذي كان شارعاً للحداثة بامتياز، تحولّت، في زمنها ذاك، إلى مَصاهر للفكر والسياسة والفنّ، تتجاذب وتتقاطع فيها التجارب والأفكار بمُختلف اتّجاهاتها وميولها، وإليها، لا يأتي اللّبنانيّون وحدهم، وإنّما العرب أيضاً الباحثون عن فسحة الحريّة.

أخذَ دَور بيروت كعاصمة للثقافة العربيّة في التراجُع التدريجي بعد اندلاع الحرب الأهليّة في منتصف السبعينيّات من القرن الماضي، التي كانت فاتحة سوداء لمجموعة من المِحن والنّكبات المتوالية على المدينة، حتّى أنّها أصبحت أوّل عاصمة عربيّة يصلها جيش الاحتلال الإسرائيلي في صيف العام 1982، على الرّغم من أنّه لم يقوَ على المكوث فيها طويلاً، كما كان يرغب قادته.

حملَ انتحار الشاعر اللّبناني الكبير خليل حاوي غداة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، بما في ذلك لعاصمته، بيروت، على فجائعيّة هذا الانتحار، وما أحاط به من مُلابسات، شحنةً رمزيّة في غاية الدلالة على هذا التراجُع؛ فالشاعر الذي “مدّ ضلوعه جسراً للعابرين نحو الشرق الجديد”، وجدَ حُلمه يتهاوى أمامه، حين رأى مدينته – الحُلم تُستباح من الغُزاة، فرأى في ذلك مقدّمات مُخيفة لما يَنتظر المدينة من مآلات صعبة، ستنال، بالضرورة، من دَورها الثقافي، بحمولته الحداثيّة، والقائم على مُرتكزَي البُعد الوطني اللّبناني الذي تصدَّع باستشراء الغلواء المذهبيّة والطائفيّة التي مزَّقت النسيج الوطني، والبُعد العروبي الديمقراطي العلماني الذي تصدّع هو الآخر تحت تأثير نموّ التيّارات المُحافِظة التي استهدفت الحداثة كفكرة وكنَمط للمعيش، والتي لم يسلم منها لبنان نفسه.

على الرّغم من هول ما شهدته بيروت من كوارث، وما نجم عنها من أوجه خراب على الصعد كافّة، ظلّت المدينة مُحتفظة بشيء من قوّة الدفع الأولى التي صنعتها نهضتها الثقافيّة الأولى، وما أرسته من مَداميك لم يكُن من السهل اقتلاعها كاملة، ولم تستطع أيّ عاصمة عربيّة أن تعوِّض مكانة بيروت، على الرّغم من تراجعها، وفي أكثر من محطّة أعطت أدلّة على أنّها قادرة على بعث ما كان لها من دور، إن تيسّرت شروط الاستقرار السياسي والأمني.

عاصمة الثقافة العربيّة

قُدّر لي أن أعيش في بيروت لسنوات عدّة، بعد خروجها من ذروة الحرب الأهليّة، بين عامَي 1975 – 1976، وكان الدمار يعمّ مناطق مُختلفة فيها، وخصوصاً تلك التي تقع على ما كان يُعرف بـ “خطوط التماس”، وأدهشتني يومها مقدرة المدينة وأهلها، ليس على استئناف حياتهم الاعتياديّة فقط، وإنّما أيضاً ديناميكيّة النشاط الثقافي والفنّي فيها، في مجالات المسرح والأغنية والتشكيل وفي حركة النشْر النشطة، وكانت دُور السينما فيها تَعرض أحدث الأفلام المُنتَجة في الغرب، فلا تكاد تصدّق أنّ كلّ هذا يجري في بلدٍ مزَّقته حربٌ ضروس.

الانفجار المروّع الذي وَقَعَ في مرفأ بيروت، بكلّ الخسائر الكارثيّة الناجمة عنه، وتداعياته السياسيّة والأمنيّة التي تؤرّق اللّبنانيّين، طاوَل في ما طاوَل، البنية والدَّور الثقافيَّين للعاصمة، ولن تكون آثاره مُقتصرة على لبنان، فبيروت هي عاصمة الثقافة العربيّة، وما يصيبها من ضَرر يصيب كلّ البلدان العربيّة، وكأنّ مَن يسَّروا ظروف هذا الانفجار، وما أشعله من حرائق على الصعد كافّة، أرادوا أن يُجهِزوا على ما استطاعت بيروت التمسُّك به من دَور، وإطفاء جذوة الحياة والعطاء فيها كليّاً، سواء أكان ذلك الانفجار ناتجاً عن الفساد المُستشري في أجهزة الدولة وعن اللّامبالاة والإهمال اللّذَين يطبعان سلوك المعنيّين بالأمر تجاه ما يمسّ حاضر لبنان ومستقبل أهله، ودور عاصمته المركزي، أم ناتجاً عن مُخطَّطٍ شرّير شاركت في وضْعه وتنفيذه أيادٍ محليّة أو خارجيّة.

من دون التقليل أبداً من هول ما جرى ومن حال الخيبة والإحباط الناجمة عنه، والتي قد تأخذ مدىً ليس بقصير، وحكماً من تجارب مريرة سابقة عرفها لبنان، وعرفتها بيروت تحديداً، فإنّ الثقة تظلّ كبيرة في قدرة المدينة على الصمود في أداء دورها، فما من عاصمة عربيّة أخرى قادرة على أن تعوِّض هذا الدور، أو تقوم مَقامها، ولن يكون سهلاً انتزاع أوجه الفرادة التي لبيروت، ولا قهْر قدرة اللّبنانيّين على أن يَبعثوا من تحت الرماد حياةً جديدة، فعلى الرّغم من صعوبة ما عانت منه المدينة خلال العقود الماضية، تمسَّكت بعزْمها وإصرارها على أن تستمرّ في أداء ما استطاعت من دَورٍ ثقافي وتنويري في المنطقة، محمولاً على فسحة الحريّة التي بقيت للبنان.

***

(*) كاتب من البحرين

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *