اسرار العمليّة الإبداعيّة لدى “نزار قباني أمير الشعر العربي الحديث”

Views: 1130

د. علي زيتون

 يصلُك الشاعرُ صالح الدّسوقيّ بجيلٍ عظيم من أجيال بقاع الخير والجمال، جيلٍ بنى الذات، من على حافة الجوع والعُري، حبّة حبّة.

أكرم به جيلاً، علامة تشير إلى أنّ البقاع، وفي أحلكِ الظروفِ، قادرٌ على إنتاج الخصوبة.

  صالح الدسوقي علمٌ تحارُ في أيِّ باب من أبوابه تطرق، ليفضي بك إلى العالم الخصيب نفسه.

نزار قباني

 

 تدخل من باب الإنسان فتجد نفسك في حديقة الوطن والشعر والنقد. ادخلْ من حيث شئت، ينتظرْك صالح الدسوقي بكل تكامله وعافيته. في 13/ 5/ 2003 يوم نعت بغداد كلَّ القبائل المتاجرة بالدم والنفط قال الشاعر:

    سَلِ الرّملَ عن حزنِ السماء فهل يدري؟                 وهـل جفَّ مـاء الرافديـن فلم يجـرِ؟

  فكان استفهامه صرخة حملت همّ الشاعر وأفصحت عن مناخات مرحلة كاملة من تاريخ الأمّة.

 هذا الهمّ الذي تحمله أيها الشاعر سرُّ شخصيّتك المتضوِّعة بلألائها في زمن صارت فيه ثوابت الأمة تهمةً.

  مالك ولنزار قباني تستعيده في أعوام العسرة؟ الأنه صوتٌ خارج على الرتابة يدعو الأمة إلى الإستفاقة؟ هل تريدُه شمعة تضيء بها ما أعتم؟

 إن عالم نزار قباني عالمٌ مرصودٌ يقتل مَنْ لا يستطيع فك رموزه. وفككتها أنت ببساطة من يفتح باب منزله ليدلف منه إلى مناخاته الدافئة.

  كان مدخل الكتاب علامة واضحة الدلالة على شخصيّة نقديّة عليمة. التقط الظاهرة النزارية حين قال: “كاد نزار يلغي كلَّ ما قاله شعراءُ العشرينات والثلاثينات والأربعينات من قبله. خلق في شعره نسقاً جديداً طبعه باسمه لم يسبقه إليه شاعر من قبل”. وإذا شكّل شعر نزارٍ الغزليُّ ظاهرةً لفتت المثقفين. فإن المؤلف قد تعرّف علامات تلك الظاهرة: قطيعةٌ مع من سبق وهذا ما عناه بقوله: (كاد يلغي كلَّ ما قاله مَن قبله). وابتداءٌ جديد. وهذا ما أكده حين قال: (خلق في شعره نسقاً جديداً). وهل الظاهرة الفنيّة سوى قطيعةٍ وابتداء؟ وكما وضع المؤلف اصبعه على ظاهرة لافتة، تنبّه إلى مسألةٍ بالغة الأهميّة في دنيا الشعر. فهو بتجربة الشاعر قد أدرك أن الشعر لغة خاصّة خارجة من رحم اللغة الأمّ. لم يكتفِ بوصف نزارٍ أنّه قد تمرّد على المألوف من الصور والكلام، ذهب أعمق من ذلك حين قال: “يخلق من اللغة لغةً طيّعةً جديدة”. فأفصح عن وعي بالعمليّة الإبداعيّة من خلال خروج الأدبيّة، ليس على جرثومة السلطة العالقة باللغة الأمِّ وحدها، ولكن على جرثومة السلطة العالقة بلغة الشعراء الذين سبقوا نزاراً، أيضاً. ووعيٌ بهذا المستوى قلّما وصل إليه الكثيرون من العاملين في الدراسات النقديّة.

ونتقدّم في قراءة المدخل فنكتشف سرّاً جديداً من أسرار العمليّة الإبداعيّة النزاريّة. فإذا كانت اللغة الشعريّة نتاج الرؤية إلى العالم ونتاج الثقافة، فثقافةُ قباني ثقافةٌ غير عاديّةٍ. كيف، لا وقد “تمازجت في فكره لغات العالم”؟. وهذه إشارة كافية للكشف عن سرٍّ شعريّة شكّلت قطيعةً مع ما سبقها، وابتداءً أسّس لما تبعها. ولا يتمكّن شاعر أن يحظو مثل هذه الحظوة ما لم يكن مثقّفاً ثقافة نزار. وإذا كان نزار شاعراً كبيراً؛ فلأنه مثقّف كبير. وما أحيلى التفاتة المؤلف إلى كلام نزاريّ شديد الإفصاح عن تلك الظاهرة. قال نزار: “إنّ شعري كلَّه من أوِّل فاصلة حتى آخر نقطةٍ فيه… هو شعر وطني”.

 إنه تصريح مستغرب للوهلة الأولى. كيف يكون هذا الديوان الطويل العريض المتمركز حول الغزل، بشكل أساسي، شعراً وطنياً محضاً؟

 

 كتابُ صالح الدسوقي الموسومُ بعنون “نزار قباني أمير الشعر العربي الحديث” تفسير شديد الوضوح لهذا اللغز. كانت غزليّات نزار صوتاً مؤذناً باستفاقة الأمة من غيبوبتها. أصلح خللاً بنيوياً أساسياً من ثقافتها حين ميّز، على حد تعبير المؤلف، “الحبَّ وقدّس الجمال وروعة الأنوثة من الشبق الشّهويِّ المتوحش، ومن أكلة لحوم البشر”. وهذا ليس قليلاً، ولا يقع خارج الوطنيّ.

 إنّ مدخلاً غنيّاً بهذا القدر منبئٌ بخيرٍ وفير. رحل نزار وأخذ معه كلَّ الأصوات التي كانت قد أعلنت النكير على شعره الغزلي. يموت الشاعر فيلقي على المهتمين بالأدب كلَّ الأحمال التي كان ينوء بها ظهره. يحوّلنا جميعاً إلى مسؤولين عن تركته. والقليلون من يتحمل مثل هذه المسؤولية.

 ولعلّ أوّل ما يُطلب منّا أن نجمع المادّة الأوّليّة التي تشكل منطلق الاهتمام.

 وكتاب الأستاذ صالح، ومع صغرِ حجمه قام بدورٍ حادٍ وهام بهذا الخصوص. أثار القسم الأوّل أحرج الأسئلة في وجه نزار. وانتهى إلى ثبتٍ ثلاثي بجميع آثاره. وقدّم الثاني شهاداتِ كبار الشعراء والمثقفين به. أما الثالث فقد أثبت القصائد التي أثارت الحملة عليه، وشكّلت أداة الردّ على تلك الحملة من قبل المؤلف.

 ولئن شكّل كلُّ ذلك متعة للقارئ، فإنه مادة ثمينة للباحث وفّرها المؤلف لتكون شهادة على الوفاء للثقافة من معدنٍ أصيلٍ للثقافة.

***

(*) كلمة مدير معهد العلوم الإجتماعية في الجامعة اللبنانية – زحلة – البقاع  (2008) ورئيس قسم اللغة العربية سابقاً في كلية الآداب – الجامعة اللبنانية الأديب الدكتور علي زيتون في الندوةً الأدبيّة التي أقامها المجلس الثقافي الإجتماعي للبقاع الغربي وراشيا (في منتصف شهر حزيران 2008) حول كتاب “نزار قباني أمير الشعر العربي الحديث”، لمؤلفه الشاعر صالح الدسوقي، في قاعة المركز الإسلامي – جب جنين، وشارك فيها أبضًا الدكتور الشاعر محمد توفيق أبو علي، وقدّم لها الأديب حسين جباره.

 

 

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *