الحِمَارُ لا يُخطِئُ مَرَّتَين!        

Views: 6

مُورِيس وَدِيع النَجَّار

تَرَبَّعَ في جِلْسَتِهِ، على بَلاطِ السَّطِيحَة. أَخرَجَ سِيجارَةً مِن عُلبَتِهِ، تَحَسَّسَها وقَلَّبَها بَينَ أَصابِعِهِ مُتَفَكِّرًا، ثُمَّ أَشعَلَها وتَنَشَّقَ مِنها عَمِيقًا، مُتَأَمِّلًا دُخانَها الهارِبَ مِن رِئَتَيهِ، وقال: ما رَأيُكَ بِهذِهِ الأَوضاعِ الَّتِي نَعِيشُها هذه الأَيَّامَ، يا أُستاذ؟

«حَمِيد»، عامِلُ صِيانَةٍ، ماهِرٌ في صَنْعَتِهِ، يُعالِجُ تَسَرُّبَ المِياهِ إِلى داخِلِ المَنازِل. صافِي القَلبِ، طَيِّبُ السَّرِيرَةِ، مُؤْمِنٌ بِرَبِّهِ وبِجَمْهَرَةِ القِدِّيسِينَ، يَكادُ يُلامِسُ «حَبَّةَ الخَرْدَلِ» في إِيمانِه.

يَتَكَلَّمُ كَثِيرًا، مِن دُونِ أَن يَكُونَ هُناكَ مُوضُوعَةٌ مُحَدَّدَة. يَتَوَقَّفُ عَن العَمَلِ لِيُسبِغَ على كَلامِهِ التَّقدِيرَ والأَهَمِّيَّة. خَبِيرٌ في كُلِّ الشُّؤُونِ، يُنَظِّرُ، وَيَسُوقُ الأَمثالَ، ولا يُرضِيهِ أَن تَدعُوَهُ عامِلَ صِيانَةٍ، فقد أَطلَقَ على نَفسِهِ لَقَبَ «دُكتُور كْلِين»، ما يَعنِي «دُكتُورًا» في التَّنظِيف.

أَجَبتُهُ على سُؤَالِهِ السَّابِق: يا أَخ حَمِيد، أَوضاعُنا في هذا البَلَدِ كَحِكايَةِ إِبرِيقِ الزَّيت. تَتَكَرَّرُ، عَينُها، مُنذُ عَرَفنا الاستِقلالَ، لِأَنَّنا نَتَوارَثُ الخُنُوعَ، وسَيِّئَاتُنا هِيَ هِيَ، وحُكَّامُنا مُقَصِّرُونَ، ولا يَأبَهُونَ، لِأَنَّنا لا نَنزَعُ عَنهُم ثِقَتَنا الَّتي ارتاحُوا لِثُبُوتِها، فَارتاحُوا لِعَودَتِهِم، بَعدَ كُلِّ عَمَلِيَّةِ انتِخابٍ، إِلى كَراسِي الحُكْم. أَوَلَيسَ «كَما تَكُونُونَ يُوَلَّى عَلَيكُم»؟!

حَدَّقَ حَمِيدُ إِلى الأُفقِ طَوِيلًا، بِعَينَينِ غائِمَتَينِ، فَخِلتُهُ واحِدًا مِن فَلاسِفَةِ الإِغرِيقِ، ثُمَّ تَنَهَّدَ، وَزَمَّ شَفَتَيهِ، وقال: لَو كانَ حُكَّامُنا يَعرِفُونَ رَبَّهُم مَعرِفَةَ الحَقِّ، لخافُوهُ، ولَكانُوا أَحسَنُوا في تَدبِيرِ شُؤُونِ الرَّعِيَّة. تَأَكَّد، يا أُستاذ، أَنَّ لا شَيءَ يَصلُحُ إِلَّا بِاللهِ، وَمِن دُونِهِ «عَبَثًا يَتعَبُ البَنَّاؤُون».

فَقُلت: هذا صَحِيح. وزِيادَةً على ذلك، لَو جِيءَ بِالرَّجُلِ المُناسِبِ إِلى المَكانِ المُناسِبِ لَتَجَنَّبنا الكَثِيرَ مِنَ السَّقَطات. والرَّجُلُ المُناسِبُ، بَدَاءَةً، هو رَجُلُ العِلْمِ والاختِصاصِ الَّذي، لَو وَقَعَ في خَطَأٍ يُصَحِّحُهُ، ثُمَّ لا يَعُودُ لِتَكرارِه. أَمَّا أَن تَضَعَ «حِمارًا»، واعذُرنِي على الكَلِمَةِ، في سُدَّةِ إِدارَةٍ، تَتَطَلَّبُ العَمَلَ المُتقَنَ، والحِسابَ الدَّقِيقَ، فَإِنَّهُ سَيُخطِئ ويُعِيدُ الخَطَأَ، ما دامَ في مَوقِعِ القَرار.

حَدَجَنِي حَمِيد، ثُمَّ انتَصَبَ وأَشعَلَ سِيجارَةً، وعلى شَفَتَيهِ خَيالُ ابتِسامَةٍ، وقال: يا أُستاذ، لا تَغلَطْ، فَالحِمارُ لا يُخطِئُ الخَطَأَ نَفسَهُ مَرَّتَين. نَعمَ، لا يُخطِئُ مَرَّتَين.

فَرَاقَ لِي الحِوارُ، وشِئْتُ الذَّهابَ أَبعَدَ مَعَهُ، فَقُلت: وَكَيفَ يَكُونُ هذا، يا صاحِبِي، وَالحِمارُ مَضرِبُ مَثَلٍ في الغَباء؟!

تَأَمَّلَنِي مَلِيًّا، أَشعَلَ سِيجارَةً، وبَعدَ تَفَكُّرٍ قال: نَادِ على أَهلِنا في مَنزِلِكَ الكَرِيمِ، يَمُدُّونَنا بِفِنجانِ قَهوَةٍ، واسمَعنِي جَيِّدًا. وَقَدَّمَ لِي كُرسِيًّا قَرِيبًا، وجَلَسَ هو أَرضًا، سانِدًا ظَهرَهُ إِلى الحائِط، وراحَ يَروِي بِشَغَف:

أَرسَلَتنِي أُمِّي، وكُنتُ في الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِن عُمرِي، لِقَضاءِ فَترَةٍ مِن الصَّيفِ عِندَ خالَتِي في قَريَتِها الجَبَلِيَّةِ «مْراجِل». وكانت عائِلَتُها تُمضِي الصَّيفَ في بَيتٍ يَقَعُ في أَعالِي القَريَةِ، حَيثُ يَملُكُونَ ماشِيَةً وأَبقارًا، يَستَفِيدُونَ مِن أَعشابِ الجَبَلِ لِرِعايَتِها، والاستِفادَةِ مِن حَلِيبِها ولَحْمِها.

وذاتَ يَومٍ هَيَّأَت خالَتِي وِعاءً كَبِيرًا فَمَلَأَتهُ حَلِيبًا، ثُمَّ وَضَعَتهُ في جانِبٍ مِن جُلٍّ يَتَدَلَّى على ظَهْرِ الحِمارِ، وطَلَبَت مِنِّي أَن أَسنُدَهُ، وَوازَنَتِ الحِمْلَ بِكِيسٍ مَلِيءٍ بِالخُضَرِ الصَّيفِيَّةِ، وقالَت لِي: سَتَركَبُ الحِمارَ، وتَنزِلُ بِهِ إِلى الضَّيعَةِ، فَتُعطِي الحِمْلَ لِطَنُّوسَ في دُكَّانِهِ القَرِيبِ مِن الكَنِيسَة.

كانَ طَلَبُها فَرْحَةً عامِرَةٌ لِي. فَهِوايَتِي المُفَضَّلَةُ هي التَّنَزُّهُ على ظَهْرِ حِمار. وتَنَبَّهتُ لِلأَمرِ، فَقُلتُ لِخالَتِي: ولكِنَّنِي لا أَعرِفُ مَكانَ الدُّكَّانِ، ولا صاحِبُه. فَابتَسَمَت وقالَت: لا تَأْبَهْ لِهذا، فَالحِمارُ يَعرِفُ مَهَمَّتَهُ، وما عَلَيكَ إِلَّا سَوْقُهُ إِلى الضَّيعَة.

وهكذا كانَ، فَقادَنِي الحِمارُ، الَّذي تَوَهَّمتُ أَنَّنِي أُقُودُهُ، إِلى الجِهَةِ المَقصُودَة. أَنزَلتُ وِعاءَ الحَلِيبِ والخُضَرَ ودَخَلتُ أَسأَلُ الرَّجُلَ داخِلَها إِن كانَ هو طَنُّوس أَو لا. فَقال: اقتَرِبْ يا ابنِي، وَأَنزِلْ عَنكَ ما تَحمِلُ، فَهَل مِن أَحَدٍ لا يَعرِفُ طَنُّوس؟ أَنتَ ابنُ «سَعِيدَة» أُختِ «مَنتُورَة» أَلَيسَ كَذلك؟ فَأَجَبتُهُ بِانحِناءَةٍ مِن رَأسِي. فَحَمَلَ الوِعاءَ، وأَدخَلَهُ إِلى زاوِيَةِ الدُّكَّانِ حَيثُ أَفرَغَهُ في وِعاءٍ كَبِيرٍ، وقال: سَلِّمْ على المَنتُورَة، وَقُلْ لَها أَنْ تَحلُبَ أَكثَرَ مِن هذا. واستَرسَلَ في ضَحِكٍ مُتَواصِلٍ أَدمَعَ عَينَيه. (https://lsu79.org) حِينَها دَخَلَ أُناسٌ يَطلُبُونَ شِراءَ أَشياءَ، فَانشَغَلَ بِهِم، واعتَبَرتُ أَنا أَنَّ مَهَمَّتِي تَمَّت، فَخَرَجتُ وأَمسَكتُ بِرَسَنِ الحِمارِ مُزمِعًا الرَّحِيلَ، فَامتَنَعَ عن المَشْيِ، فَرُحتُ أَشُدُّ بِهِ، وعَبَثًا فَعَلتُ، فَالحِمارُ تَسَمَّرَ في مَكانِهِ كَالوَتَد. وإِذ بِطَنُّوس يَخرُجُ مِن الدُّكَّان صَارِخًا: أَلا تُرِيدُ أَن تَأخُذَ وِعاءَكَ مَعَكَ، أَم تُرِيدُ أَن يَكُونَ حِسابُكَ عَسِيرًا مع المَنتُورَة؟

أَخَذتُ الوِعاءَ، وعُدتُ إِلى حِمارِي الَّذي كانَ المَرَّةَ مُطِيعًا، فَمَشَى مَعِي مِن غَيرِ مُمَانَعَة. وخَرَجتُ بِهِ مِن القَريَة، فَلَمَّا بَلَغتُ طَرَفَها، وَصَلتُ إِلى الوادِي العَامِرِ بِالمِياهِ الجارِيَةِ وكُنَّا نَدعُوهُ نَهرًا.

إِتَّجَهتُ ناحِيَةَ «مَعْبُور بُو نَخله» حَيثُ قَدَّرتُ أَنَّهُ المَكانُ الأَفضَلُ لِعُبُورِ النَّهرِ، وحَيثُ مَنبَعُ ذِكرَياتِي مع أَولادِ خالَتِي وأَولادِ جِيرانِهِم، وكُنَّا نُمضِي هُناكَ مُعظَمَ وَقتِنا نَلعَبُ بِالمِياهِ، ونَسطُو على المَزرُوعاتِ القَرِيبَة.

تَمَنَّعَ الحِمارُ عن العُبُورِ، ثانِيَةً، وبِعِنادٍ أَشَدَّ مِن المَرَّةِ الأُولَى، وباءَت كُلُّ مُحاوَلاتِي بِالفَشَلِ، وأَنهَكَتنِي المُجاذَبَةُ مَعَهُ، فَأَرخَيتُ له الرَّسَنَ، فَتَحَرَّكَ مُتَقَدِّمًا بِمُوازاةِ الضِّفَّةِ، فَتَبِعتُهُ، حَتَّى بَلَغَ مَكانًا مُعَيَّنًا عَبَرَ مِنهُ في الوادِي وأَنا أَتبَعُهُ كَيفَما سارَ، وكَأَنَّهُ الحَمَّارُ* وأَنا…

أَشرَفتُ على البَيتِ، فَنادَتنِي خالَتِي، فَخُورَةً مُعتَزَّةً: أَهلًا بِالبَطَل. ولَمَّا رَوَيتُ لَها قِصَّتِي مع الحِمارِ، استَغرَقَت في ضَحِكٍ طَوِيلٍ، وقالت: نَعْمْ… لَقَد حَرَنَ أَوَّلَ مَرَّةٍ لِأَنَّكَ نَسِيتَ أَن تَستَرجِعَ الوِعاءَ الفارِغَ، وفي الثَّانِيَةِ، فَإِنَّهُ حَرَنَ عِندَ «مَعْبُور بُو نَخله»، لِأَنَّهُ، ذَاتَ رِحْلَةٍ، تَعَثَّرَ في الوادِي وَوَقَعَ مع حِمْلِهِ في الماءِ في تِلكَ المَحَلَّةِ، ومِن يَومِها فهو يَأْبَى أَن يَمُرَّ هُناك.

فَيا بُنَيَّ، تَذَكَّر دائِمًا أَنَّ «الحِمَارَ لا يُخطِئُ الخَطَأَ عَينَهُ مَرَّتَين»!

ــــــــــ

* الحَمَّار: سائِقُ الحَمِير

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *