بيروت.. وظائفٌ عدّة ودَورٌ واحدٌ

Views: 728

 د. فردريك معتوق

لا يُميّز عِلم الاجتماع عن عَبَثٍ بين مفهومَيْ الوظيفة والدَّور. فالأوّل يَتناول مهمّاتٍ عملانيّة متنوّعة، في حين أنّ الثاني يشير إلى توجّهٍ مُرتبطٍ بهدفٍ إنسانيّ عامّ وأبعد.

هكذا كانت بيروت. كانت أكبر من مجرّد مدينة وعاصمة، لأنّها احتوت بروحها بلداً صغيراً اسمه لبنان وأمّة ثقافيّة اسمها العالَم العربيّ. فعندما كان يُقال بيروتيّ، حتّى منتصف السبعينيّات من القرن الماضي، كان المقصود مُشابِهاً لما تعنيه كلمة باريسيّ أو لندنيّ.

عُرفت بيروت بوظائفها المتعدّدة والناجحة، بيد أنّ دَورها التواصليّ، الثقافيّ والمعرفيّ، بين الشرق والغرب، قد رسمَ دَورها الكوزموبوليتيّ المتميّز.

الوظيفة المَرفئيّة لبيروت

الوظيفة المَرفئيّة هي الوظيفة الأولى التي عرفتها بيروت، والتي تعود جذورها إلى الزّمن الفينيقي، حيث كان سكّان مَمالكه الصغيرة يجوبون نواحي المتوسّط كلّها للتجارة بالسلع والبضائع. ألَم يقل هوميروس عن هؤلاء الرجال في “الأوديسّيه”:

“ثمّ جاء الفينيقيّون في سفنهم السوداء، وهم بحّارة عتاة

وتجّار شرهون، يحملون على مَتن سُفنهم ألف سلعة رخيصة”.

ثمّ اتّهمهم بخطْف عوليس، وعندها بدأ السفر- المُغامَرة العظيمة لهذا الإغريقي الشهير.

وفي السياق نفسه، أشار بعد حين المؤرِّخ هيرودوتس إلى أنّ الفينيقيّين كانوا يُتقنون لغة الإغريق واللّغات المحلّيّة لجميع الشعوب الذين كانوا يتعاملون معهم، في حين أنّ لا الإغريق، ولا الرومان لاحقاً في زمن قرطاجة، كانوا يلمّون باللّغة الساميّة التي كان ينطق بها الفينيقيّون في ما بينهم؛ الأمر الذي كان يُحسب لمَهاراتهم المعرفيّة المُرافِقة لمَهاراتهم المِلاحيّة والتجاريّة.

ولا زالت بيروت تحمل في جيناتها المعرفيّة هذا التقليد.

تواصَل هذا التقليد مع إنشاء مرفأ بيروت الحديث في مُنتصف القرن التاسع عشر، في شراكة لافتة مع مرفأ مرسيليا الفرنسي. ومن هذا التواصُل تولّد بُعيد انتهاء الحرب العالَميّة الأولى توسُّع لأسواق بيروت.

الوظيفة الاستهلاكيّة الجديدة

عندما أُنشئت دولة لبنان الكبير في العام 1920 تحت الانتداب الفرنسي، لاحَظ الفرنسيّون أنّ مهمّة الاختراق الاقتصادي خاصّتهم، كانت تحتاج إلى استراتيجيّة مُتناسبة مع الوقائع الميدانيّة المحلّيّة؛ إذ كانت أسواق بيروت قائمة وزاهرة، لكنْ تقليديّة. لذلك أدركوا أنّ مهمّتهم التنافسيّة لا ينبغي أن تقوم على تدمير أسواق المدينة التقليديّة، بل على مُجاورتها.

فبنى الفرنسيّون سوقاً مُوازية، أحْدَث وأتْقَن عمراناً من الأسواق القديمة، عُرفت بالمَعرض (شارع المَعرض الحالي) كي تُعرَض في محلّاتها السلع الفرنسيّة المُصنَّعة، ومن أبرزها سلع “النوفوتيه” الباريسيّة، النسائيّة على نحو خاصّ (ألبسة خارجيّة وداخليّة على السواء، المُرافِقة لمفهوم الموضة، علاوة على أدوات التجميل). وقد ازدهرت بسرعة هذه السوق المُوازِية التي كان قد صمَّمها في الأصل مُهندسان فرنسيّان (Les frères Danger) لاسم عائلتهما دلالة كبيرة لكونه يعني بالعربيّة “خَطَر”…!

هنا دشّن الأوروبيّون منظورهم الجديد للتواصُل الاستهلاكي الثقافي الجديد في أوّل عاصمة عربيّة مشرقيّة (وهو ما زال مُعتمداً في صيغة “البولفار” الأميركيّة في الكويت مثلاً اليوم) حيث شكّلت سوق المعرض الفرنجي في بيروت مطلع القرن العشرين تجربة اختراق ثقافي ناعم، أنْفَع وأفْيَد من كلّ الاحتلالات العسكريّة، حيث يلتقي الطرفان على مصلحة مُشترَكة. فكانت بيروت مُختبراً لتسويق أنموذج إرشادي جديد للمرأة العربيّة حصّة ولو رمزيّة فيه.

الوظيفة الثقافيّة

كانت هذه الوظيفة قد أبصرت النور قبل نصف قرن، مع إنشاء الجامعة الأميركيّة في بيروت عام 1866وبعدها جامعة القدّيس يوسف للآباء اليسوعيّين عام 1875؛ حيث بدأ استقطاب طالبي الشهادات العِلميّة العليا من لبنان ومن جميع الدول العربيّة المُجاوِرة. صار معها القدوم إلى بيروت مُرادفاً للانفتاح على ثقافة حديثة وجديدة مُختلفة تمام الاختلاف عن الثقافة العثمانيّة الضحلة والعقيمة السائدة في ما كان يُعرف بالولايات العربيّة من السلطنة. صارت أفكار التنوير الأوروبي واردة في الأحاديث والمُنقاشات الدائرة بين المثقّفين، ونشأ مفهوم المثقّف العربي الجديد في خضمّ هذا التلاقُح الأكاديمي المُستجدّ وتداعياته.

صارت المَطابِع مشغولة بنقْل هذه المادّة الفكريّة الجديدة والمطلوبة بقوّة من قِبَل جمهور محلّي وعربي عامّ شغوف بالتغيير والتجديد. لكنّ دائرة الاهتمام الثقافي بقيت هنا محصورة ضمن “نخبة” ميسورة رغبت التشبّه بالغرب المُسيطر وبتقديماته الحضاريّة الحديثة الجذّابة. لذلك جاءت هذه الوظيفة محصورة الانتشار وحلّت في المرتبة الثانية من حيث وقْعها الاجتماعي العامّ بعد وقْع سوق المعرض الذي تمكّن من التأثير عميقاً في الأذواق الثقافيّة الشعبيّة البيروتيّة، ثمّ اللبنانيّة بعامّة مع انتشار محلّات “النوفوتيه” ورواجها الكبير بعد عقدَين من الزمن داخل الأسواق القديمة في طرابلس وصيدا وزحلة والنبطيّة.

الوظيفة الصحيّة

تمكّنت بيروت أيضاً من التميُّز على مستوى الوظيفة الصحيّة التي رافقت إنشاء جامعتَي الأميركيّة واليسوعيّة الضامَّتَيْن كلّياتٍ للطبّ والصيدلة، فازدهرت المُستشفيات الحديثة اللّبنانيّة منذ مطلع القرن العشرين جاذبةً جمهوراً من طالِبي العلاج من لبنان ومن عدد من البلدان العربيّة المُجاوِرة.

إلى جانب مستشفى الجامعة الأميركيّة ومستشفى أوتيل ديو، سرعان ما اشتهر مستشفى القدّيس جاورجيوس، ثمّ كوكبة واسعة من المُستشفيات الخاصّة الأصغر حجماً، بحيث تكاملت الوظائف الاقتصاديّة مع مثيلاتها التجاريّة والأكاديميّة والصحيّة، فصارت الإقامة في بيروت عنواناً للرفاهيّة والتفرنُج والتنعُّم بوسائل الراحة المنشودة للّبنانيّين من أنحاء البلاد كافّة، كما للعرب المَيسورين من كلّ البلدان العربيّة.

ومن حيث لا تدري، أدّت بالتدرّج جميع هذه الوظائف إلى تعميق الصلات بين بيروت والعُمق العربي الذي صار يرى في هذه المدينة غير التقليديّة أنموذجاً إرشاديّاً يستحقّ الاستيراد لقربه الجغرافي والاجتماعي، على الرّغم من “اغترابه” الثقافي وابتعاده المتعمّد عن نماذج التراث والأصالة، كما كانت تُفهَم في ذلك الوقت.

فرادة الدَّور

نتيجة لهذه الوظائف جميعها، فضلاً عن تدفُّق إثنيّات متعدّدة، كالأرمن الهاربين من البطش العثماني والروس الهاربين من الثورة البولشيفيّة والأكراد الهاربين من الفقر في مناطقهم الصحراويّة النائية، تبلورت حالة اجتماعيّة متنوّعة وشغوفة بالحريّة والأمان السياسي الذي استقطب بدَوره عدداً كبيراً من اللّاجئين السياسيّين الهاربين من عسف أنظمتهم. أدّى كلّ ذلك إلى التشابُك وإنتاج نمط عيش مُختلف عن المُحيط العربي العامّ السائد في الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي. فغدت بيروت عاصمة ثقافيّة عربيّة أولى، تحمل طوعاً راية النهضة العربيّة التي لم تَبُخ، ومُزمِعة على لعبِ دَورٍ تحريريّ في منطقة تُهيمِن عليها ديناصورات سياسيّة بلديّة واعتداءات إسرائيليّة مُستدامَة. لذلك تحوّل الشباب البيروتي مطلع السبعينيّات إلى مُدافِع مثقّف وشرِس عن القضيّة الفلسطينيّة، بفئاته الاجتماعيّة كافّة (ميسورون وغير ميسورين من أبناء المُدن كما من أبناء الريف)، وراح الدَّور الثقافي العمراني الملتزم المرفوع في بيروت يشكِّل مَصدر خشية حقيقيّة لإسرائيل، كما للمحيط السياسي المُتحجّر.

كان عندها دَور بيروت ناضجاً و قادراً على تحقيق نقْلة نوعيّة لبنانيّاً وعربيّاً على السواء. فكمن لها أعداؤها المُعلَنون وغير المُعلَنين وأوقعوها في الحرب الأهليّة طوال عقدَين من الزمن شاركَ الجميع في القضاء على دَور بيروت العمراني (بالمعنى الخلدوني للكلمة) المتميّز والعربي الطليعي الفريد.

ومنذ ذلك الحين تتالت فصول الخسارات، وهي خسارات للّبنانيّين أوّلاً، لكنّها أيضاً خسارات للعرب أجمعين في المقام الثاني.

بعد خسائر المرحلة الأولى من الحرب الأهليّة الساخنة (1975-1990) جاءت خسائر الحرب الأهليّة الباردة (1990-2020)، وكلّها خسائر في العمران البشري البيروتي، شارك فيها اللّبنانيّون وغير اللّبنانيّين، تحت رايات مُختلفة ضَربت الوظائف السابقة الواحدة تلو الأخرى، فتراجعَ المستوى التعليمي وضمُر الاقتصاد وتعفّنت السياسة وخَفَتَ الإبداع وازدادت هجرة الشباب إلى الخارج وتردّت الأخلاقيّات، فضاعَ الدَّور. هذا الدَّور الذي عملت أجيال عدّة، منذ عصر النهضة العربيّة حتّى عشيّة الحرب الأهليّة على بنائه حَجَراً حَجَراً. لم يكُن من السهل بناء هذا الدَّور الفريد من العمران البشري العربي المتقدّم في بيروت. فقد استغرق قرناً كاملاً من التضحيات والجهود حيث قام الأهل المتعلّقون في سلوكهم بإرث العادات والتقاليد الاجتماعيّة العربيّة بشكل مُدرَك لدى المُسلمين، كما بشكلٍ غير مُدرَك لدى المسيحيّين، بتربية أولادهم على النمط المعيشي الغربي وعلى خلفيّة تبنّي الأنموذج الإرشادي الأوروبي وتعلّم اللّغات الأجنبيّة.

وسار المناخ الثقافي العامّ في بيروت ولبنان مقتنعاً بهذه الإقامة في البَين بَين الشرقي-الغربي في الشؤون كافّة. وقد رجّح الكفّة في هذه العمليّة نموّ مُجتمع مدني يقوم على طبقات وسطى واسعة، صَنعت نفسها بنفسها، منذ عهد الانتداب الفرنسي حتّى غدت تحتلّ 67% من مجموع القوى العاملة اللّبنانيّة عام 1974.

لكنّ الحروب الأهليّة، الساخنة والباردة، المُغذّاة دوماً من الخارج، عطّلت حضور الطبقات الوسطى، المائلة دوماً إلى الوسطيّة في السياسة، ثمّ ضربتها فحدَّتها، بحيث أضحت اليوم واهنة ولا تحتلّ إلّا 15% من مجموع القوى العاملة. وهنا تحديداً يكمن قلب المشكلة. فالوجه الاجتماعي لبيروت تبدّل وبات الفقر والفقر المقنَّع مُسيطرَيْن على نسيجه الاجتماعي.

هنا يبرز التساؤل الإشكالي الأكبر؛ فمن ذا الذي يدير منهجيّاً، ومن بعد، هذا الانحدار المُتواصِل نحو التخلُّف الحضاري في بيروت؟ فهل إنّ هذا التسلسُل المُتواصل في الاختلال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، على مدى خمسة وأربعين سنة، قد حصل بالمُصادَفة؟ وهل العمران البشري العربي الطليعي والعنفوان الثقافي الكوزموبوليتي لبيروت هو المُستهدَف؟ سأجيب من زاوية أخرى، مذكِّراً بأنه ليس من باب المُصادَفة فقط، أنْ نَبتت أسطورة طائر الفينيق على أرض لبنان وعاصمتها بيروت.

 ***

(*) عميد جامعي سابق ومفكّر اجتماعي من لبنان

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *