مطالعة في نقدٍ متماسك

Views: 480

يوسف طراد

 تناثر النثر زهوًا فوق السطور الحائرة بالجمال الأدبي مع الأزمنة العابرة بشعراء مندورين على عتبة بيروت، سكنت قصائدهم في ضلوع المدينة ونبض عروق مداميكها داءً أو شفاءً، فكان كتاب “بيروت بأقلام الشعراء” للدكتور جان نعّوم طنّوس الصادر عن دار سائر المشرق.

 أوّل الكلام “لا سلطة على سلطة العقل” في تمهيدٍ للكتاب أيقظ القوى الغافلة عند أبناء وطن الأرز لترتد إلى التمدّن في العمق وتلتحق بركب سائرٍ يحمل معه كرامة العاصمة والإنسان. الفصل الأوّل “بيروت الواقع والحلم” تحليل أدبي، فلسفي، خيالي، وواقعي لقصائد عديدة وردت في ديوان “أغاني مهيار الدمشقي” والكتاب المسرحي “المسرح والمرايا” للشاعر السوري علي أحمد سعيد المشهور باسم أدونيس. إذا نظرنا إلى مؤلّفات هذا الشاعر نجدها تناهز الدزينتين أغلبها صادر عن دور نشر لبنانية، دار الآداب بيروت، دار الساقي بيروت ودار النهار بيروت بينما هنالك مؤلّفان فقط صادران عن دار توبغال للنشر الدار البيضاء وثلاثة عن دار المدى دمشق. فلا عجب إذا كانت معظم قصائده عن درة الشرق بيروت مفعمة بالخواء حينًا وزاهية بألوان حبها المغلّفة أحيانًا. علَّل الناقد حبّ الشاعر لبيروت وصنينها في حزنه من خلال كتاباته وإظهاره ملامحها الجميلة التعيسة الممزوجة بالتمدّن المصطنع، قرأ الكاتب عريّ كلمات الشاعر وألبسها حللًا جميلة، حينًا تظهر الشغف بالفخر وأحيانًا شفافة تظهر الأسى في إطار العشق من خلال كلمات القصيدة قاصدًا بها الشاعر السوري نقيض معانيها.

 الفصل الثاني “بيروت السأم والحانات الليلية” عالج الكاتب الرعشة الجامدة والمتحركة في شعر خليل حاوي بموضوعية مبهمة الوضوح، فوجب على القارئ أن يعيد النص عدة مرات، ليلتقط طرف خيط الوصل إلى الفهم، فمجالدة القراءة للوصول إلى اليقين أو دائمية الاقتناع لا يضاهي الجهد الجبار الذي بذله الدكتور جان طنوس في تحليل الرموز الحسّية، النفسية، المشهدية، والأسطورية خاصة في قصيدة “نعش السكارى” الواردة في ديوان “نهر الرماد” وإيضاح الصراع بين العهر والحب، واستخلاص معنى الحرمان الجنسي والسأم غير العادي، حتى داخل علب الليل البيروتية. رصف الكاتب كلماته كرصف الشاعر خليل حاوي حجارة الطرقات في صغره فكانت طريق معرفة الذات الشعرية لدى الشاعر بأسلوب الناقد التي تصل بيروت بموارد الحياة بعد معصومية التنوير.

 

 الفصل الثالث “التشرّد في شوارع بيروت” وصف الكاتب التناقض بين الأعلى والأسفل في شعر الشاعر السوري محمد الماغوط، وولج مجاهل أضداد التناقض في التعبير عن البؤس، السعادة، الأنانية والعطاء، اشتعل في صدر الناقد شغف التفسير عن تشاؤمية الشاعر الذي كان ينتظر على حافة القلق، علَّل الحزن على لبنان في القصائد بانتماء حزبي يعتبر وطن الأرز واحة في صحراء الجهل العربية، كان الشاعر ينتمي للحزب القومي السوري الاجتماعي، فقد نادى بسورية معزولة عن العالم العربي نواتها البلد الذي أحبه “لبنان”، “لا أشعار بعد اليوم… إذا صرعوك يا لبنان”. يجذبنا ظاهر وعمق الكلام في النقد الذي يمعن في استعذاب العذاب “للماغوط براعة فائقة في اصطياد الصور البائسة”. ربما حصل الماغوط على جائزة سعيد عقل الشعرية بسبب حبه البهي للبنان، معبرًا عنه بتشاؤمية شعرية واصفة الأسى الذي حلَّ به.”ضمني بقوة يا لبنان… أحبك أكثر من التبغ والحدائق.”

 الفصل الرابع “بيروت المرأة البورجوازية” تَبَرُج بيروت للغرباء، وعدم احتضانها الفقراء، ظهر في تفسير منطقي للناقد، الذي أسهب في تمحيص وتعليل قصيدة الشاعر السوداني محمد الفيتوري. وَصفُ الشاعر للجنون الغريب الذي ظهر على وجه المسيح في سياق القصيدة، أظهر إرتياب الناقد من فهم المنقود للخبز اليسوعي وملح الأديان السماوية كلها، لكنه يعود إلى منطق آخر بتفسير وتأييد مرتاب عن إهتراء اللأسفار المقدسة من خلال الجو الوثني الفاسد، بدل الجو الديني في المدينة. لم ينكر الدكتور طنوس للشاعر حبه لبيروت “كان اسمك في شفتيّ… منقوشًا منذ استيقظت ألأكوان” فكان اعتراضه على جهل الشاعر بتاريخ الكون كونه تاريخ مبهم.

 الفصل الخامس “بيروت الخائنة”، إستشرس الدكتور طنّوس في نقده لهجاء الشاعر الفلسطيني الذي سخر من لبنان ورموزه، نقد سياسي بإمتياز، يُظهر الحقائق من وراء تفنيد العلل لقصيدة شامتة، بعيدة عن الشعر الأدبي الراقي، الذي ينقد بلطف للتصحيح وليس للهدم، استهل الناقد هذا الفصل بمطالعة سياسية موسعة تصف التناقض بين مجموعتين لبنانيتين والعامل الفلسطيني الذي زاد الطين بلَّة. مراجع وشهادات عديدة اعتمد عليها المؤلف تخطت الثلاثين مرجعًا، لا ضعفًا في النقد النابع من الذات الصافية، لكن لتبيان حقيقة على لسان باحثين ومفكرين، ينتمون إلى نفس المعسكر السياسي الذي يتربع في أسفله الشاعر سميح القاسم، تيمنًا بالقول “لكلّ شيء آفة من جنسه حتى الحديد سطا عليه المبردِ”. لزيادة في النقد، عند القراءة يتعجب القارىء من سخرية الشاعر لحجل صنين الذي غنته السيدة فيروز وقد تناسى عن قصد أو غير قصد إنها غنّت أشهر أغنية لفلسطين “زهرة المدائن”. هذه السخرية تبرهن عن التّعمي والإنحطاط الشعري لدى المُنتَقَد.

 الفصل السادس “بيروت الأنثى لؤلؤة الشرق”، ارتحل الدكتور طنّوس بين القوافي ومنفى الشاعر السوري نزار قباني، ليجد ثنائية الواقع والخيال في قصائده عن ست الدنيا بيروت، هذه العاصمة الجميلة المفطورة على محطات الحروب والعبث، تتهادى أنشودة في الوقت الضائع عن الخراب، هاربة من سطوة الواقع العابر أمام أعين وعقول رصدت مآسي أهمها موت زوجة الشاعر بانفجار. لم يهمل الكاتب التناقض في شعر قباني عند اجتماع المدح الشاعري للمدينة ومغتصبيها على حد سواء.

 الفصل السابع “بيروت وحرب الأخوة”، مداواة الكاتب انحياز الشاعر رشيد سليم الخوري “الشاعر القروي” إلى فئة واحدة خلال الحرب الأهلية في لبنان، استُكملت بوجود القلب الذي كان مفقودًا للشاعر في القصيدة الأولى، التي وضعها المؤلف على طاولة التشريح الأدبي ذو المستوى التقني الباهر. توقف الشاعر عن الجري وراء أفكار موهومة خارج أفلاكها فاستحق “أن يكون شاعرًا وطنيًا وإنسانيًا”، حسب ما كتب الباحث دون تعليل أو تحليل أسباب انحياز الشاعر إلى فئة واحدة وعودته إلى نادي الشعار الوطنيين المتموضعين في قلب الوطن والعقل.

 ضجّ الكتاب من سخط الكاتب على شعراء تُقلِب الأفكار الواهية على نار الحقد، وهم غارقون في انتحارهم الأدبي اليومي. كما التقط لحظات النشوة بعطر الحبر الوطني والبريق الرباني، فكان نقدٌ موضوعي أتت معانيه متماسكة تماسك أبطال دبكة لبنانية عريقة.

(الأربعاء 10 تموز 2019)

***

(*) موقع Mon liban

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *