انفجار بيروت.. بين الكارثة والفُرصة

Views: 970

 د.إدريس لكريني

 في الرّابع من شهر آب (أغسطس) الماضي، شهد مرفأ بيروت انفجاراً ضخماً هزّ أركان المدينة، وخلَّف خسائر بشريّة وماديّة كبيرة، وتداعيات اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة هائلة.

فقد تسبّب الحادث / الكارثة في مَقتل حوالى 200 شخص، إضافة إلى جَرح عددٍ كبير من الضحايا الذين وصل عددهم إلى أكثر من 6500 شخص، من ضمنهم ما يقارب 1000 طفل، فيما تعرّضت الكثير من المحالّ والمَساكن إلى التدمير الكلّي أو إلى الضرر الجزئيّ من شدّة الانفجار.

في هذا السياق، أشارت اليونيسف إلى أنّ أكثر من 100000 طفل أصبحوا في هذه الظروف بلا مأوى، مع تضرُّر المباني والمَساكن.. بينما تعيش العديد من الأُسر في ظروف قاسية مع انقطاع المياه والكهرباء.

أمّا البنك الدّولي، فذكر أنّ الانفجار خلّف خسائر جسيمة تقدَّر ما بين 3.8 و4.6 مليار دولار، مؤكِّداً على أنّ لبنان يظلّ بحاجة إلى مُساعدات دوليّة، واستثمارات مُختلفة للخروج من المأزق الحالي.

كما عبَّرت الأُمم المتّحدة عن قلقها إزاء التداعيات البيئيّة الخطيرة التي نتجت عن الانفجار الذي خلّف تسرُّب موادّ كيماويّة خطيرة إلى الهواء، واحتمال تسرّبها إلى المياه أيضاً، وتراكُم أكثر من 800 ألف طنّ من حطام المباني.. من ضمنها موادّ كيماويّة وصناعيّة وطبيّة، لا تخلو بدَورها من تأثيرات سلبيّة على المحيط البيئي، وحذّرت الهيئة أيضاً من أنّ أكثر من نصف الساكنة في البلاد معرّضون لـ “خطر انعدام الأمن الغذائي، في الأشهر المُقبلة”، ما لم يتمّ اتّخاذ التدابير والإجراءات اللّازمة في هذا الشأن.

تباينت الآراء والمَواقف الواردة بصدد أسباب الحادث، وما إذا كان مُفتعلاً أو عرضيّاً، قبل إعلان السلطات أنّ الأمر يتعلّق بانفجار كميّات هائلة من موادّ كيماويّة خطرة (حوالى 2750 طنّ من مادّة نترات الأمونيوم) كانت محجوزة ضمن مَخازن المرفأ منذ حوالى ستّ سنوات مضت.

إنّ ما شهده لبنان في هذا السياق، هو كارثة حقيقيّة بكلّ المعايير، فقد جاء الحادث الأليم الذي مسَّ أحد أهمّ المَرافق الحيويّة في البلاد، ليعمِّق الجرح أكثر، حيث أثَّر بشكلٍ سلبيّ على المُعاملات التجاريّة الخارجيّة، وعلى القطاع السياحي، كما خلَّف أجواءً من الهلع والترقُّب داخل المُجتمع.

وتحت هول الكارثة، خرج عددٌ كبير من المُواطنين الغاضبين للاحتجاج ضدّ النّخب السياسيّة، مُطالبين بمُحاسبة المسؤولين عن التقصير الذي أدّى إلى الحادث. وفي أعقاب ذلك، أعلن رئيس الوزراء اللّبناني استقالته، وهو الخيار الذي قام به عددٌ من النوّاب أيضاً، وعبَّر عنه عددٌ من الوزراء أيضاً. وفي الوقت الذي دعا فيه البعض إلى تشكيل حكومة وحدة وطنيّة للخروج من المأزق الرّاهن، اعتبر البعض الآخر أنّ هذا الخيار سيُعيد تكريس النظام الطائفي.

جاء الحادث الجلل في ظروف صعبة للغاية. فعلى المستوى الدولي، يعيش العالَم على إيقاع التداعيات الخطيرة والمُتسارِعة لجائحة كورونا التي أثَّرت بشكلٍ كبير على المُعاملات الاقتصاديّة، وعلى ديناميّة العلاقات الدوليّة بشكلٍ عامّ، مع توقُّف عددٍ من الخطوط الجويّة العالميّة عن العمل، وانشغال الدول بتبعات الوباء على الصّعد الصحيّة والاجتماعيّة.

وعلى المستوى الإقليمي، تشهد المنطقة العربيّة عدداً من الأزمات المعقّدة، وهو ما تعكسه الأوضاع المتردّية في كلٍّ من سوريا وليبيا واليمن، علاوة على التبايُن الحاصل في المَواقف العربيّة إزاء عدد من القضايا، إضافة إلى تردّي النظام الإقليمي بكلّ مكوّناته، وهو ما استغلّته قوى دوليّة وإقليميّة كبرى لتعزيز هَيمنتها على المنطقة.

أمّا على مستوى الداخل اللّبناني، فقد وقع التفجير في مرحلة حبلى بالتّحديات والإشكالات، في ارتباط ذلك بالأزمة الاقتصاديّة التي كان يمرّ بها لبنان، والتي أثّرت بصورة ملحوظة على الالتزامات الماليّة الخارجيّة للبلاد، ومن حيث تراجُع سعر صرف العملة الوطنيّة وتأزُّم القطاع المصرفي، وتفشّي البطالة، وارتفاع نسبة الفقر في أوساط المُجتمع، وهو ما أسهم في تعميق الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي كانت قائمة، حيث تصاعد الاستياء الشعبي من أداء الحكومة ومن سلوك النخب السياسيّة القائمة بشكل عامّ.

كما حدث الانفجار في وقت كان المَشهد السياسي يعيش صراعات سياسيّة حادّة، انعكست بشكل جليّ على تدبير عددٍ من السياسات والملفّات؛ وفي أعقاب الحراك الشعبي الذي شهدته البلاد منذ تشرين الأوّل (أكتوبر) 2019 والذي رُفعت خلاله شعارات ومَطالب تدعو إلى إرساء آليّات وسياسات تدعم تحقيق التنمية، والعدالة الاجتماعيّة، وبناء مؤسّسات دستوريّة وسياسيّة مُنفتحة تتجاوز نظام المُحاصَصة الطائفيّة.

من جانبها، أسهمت جائحة كورونا في تعميق هذه الأوضاع، بعدما اضطرّ كثير من المقاولات اللّبنانيّة إلى إيقاف أنشطته وتسريح مُستخدِميه، فيما تزايدَ الضغْط على المؤسّسات الصحيّة التي لم تستطع مُعالَجة ضحايا الجائحة بشكلٍ فعّال.

وازدادت الأمور تعقيداً، مع افتقار لبنان لإمكانيّات وتقنيّات متطورة لتدبير كوارث من هذا الحجْم (حادث المرفأ)، على الرّغم من تأهبّ العديد من الهيئات الحكوميّة والفعاليّات المدنيّة للمُساعدة والتخفيف من حدّة الكارثة، أقلّه عبر الإسهام في توزيع المُساعدات ومُواكَبة التعليمات الوقائيّة والصحيّة، والمُتابَعة النفسيّة للمُتضرّرين.

جدير بالذكر أنّ التعامل مع مثل هذه الحالات الطارئة يتطلّب تجاوُز التدبير الآني للكارثة وللأزمات المتفرّع عنها، إلى مُقاربات استراتيجيّة ومُستدامة.

عدمُ استيعابِ الدَّرْس

وأمام هول الحدث، عبّرت الكثير من الدول عن تضامنها مع الشعب اللّبناني، وبدأت المساعدات الإنسانيّة تصل تباعاً إلى هذا البلد العربي، من كلّ أرجاء العالَم، فيما زار البلاد عددٌ من المسؤولين من مُختلف دول العالَم.

ومن ضمن هذا السياق، تحرّكت الدّبلوماسيّة الفرنسيّة بديناميّة غير معهودة على طريق الحدّ من التداعيات السياسيّة والاقتصاديّة للحادث. ومن منطلق أنّ العلاقات الدوليّة لا تحتمل العمل الخيري أو المجّاني، يرى الكثير من المُراقبين أنّ الأمر ينمّ عن رغبة تحقيق مصالح استراتيجيّة، متّصلة بالاستئثار بمَكانة متميّزة داخل هذا البلد، بخاصّة مع توتّر الأوضاع في منطقة المتوسّط في الآونة الأخيرة، والسعي للعب أدوار وازِنة في منطقة شرق المتوسّط الحيويّة، في إطار الصراع الحالي القائم بين عدد من القوى الدوليّة والإقليميّة.

على الرّغم من قساوتها وإكراهاتها المُختلفة، تمثّل الأزمات والكوارث محطّات لمُراجعة الأخطاء، ومحكّاً حقيقيّاً لقياس منسوب المُواطَنة والتضامُن والقيَم النبيلة داخل المُجتمعات، فقد استطاعت شعوب كثيرة على امتداد التاريخ الإنساني أن تحوّل الكثير من الكوارث والحروب والمحطّات الصعبة التي واجهتها إلى فُرص حقيقيّة، تمكَّنت خلالها من تحصين المستقبل، بإرساء سياسات واستراتيجيّات ومُبادرات بنّاءة، على المستويات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والتقنيّة.

وأمام هول الحادث الأليم الذي اكتوت به العاصمة اللّبنانيّة، يُطرح سؤال حول ما إذا كان الفاعل السياسي في البلاد قد استوعب الدّرس، باتجاه طيّ الخلافات والحسابات الضيّقة واستحضار المُشترَك والتركيز على الأولويّات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة المطروحة.

تُبرِز المؤشّرات الميدانيّة المُتوافرة إلى حدود الساعة، أنّ الفاعل السياسي اللّبناني بمكوّناته المُختلفة، لم يستوعب بعد دروس الكارثة، كما باقي الأزمات والكوارث التي مرّت بها البلاد في العقود الثلاثة الأخيرة، فالحكومة لم تتشكّل بعد على الرّغم من المساعي الحميدة والوساطات التي أطلقتها بعض الدول في هذا الخصوص. كما أنّ التحقيقات الجارية بشأن المسؤوليّة عن الحادث لم تُثِر حماسة عدد من المُواطنين وارتياحهم، وقد اعتَبرت منظّمة العفو الدوليّة عند وقوع الانفجار أنّ “إجراء تحقيق دولي، بعيداً عن أيّ تدخّل سياسي داخلي مُحتمَل، أمرٌ ضروريّ لضمان الكشْف عن الحقيقة، وتحقيق العدالة، وتقديم التعويضات للضحايا”. وبعد مرور حوالى شهر على الحادث، قلَّلت المنظّمة، ضمن بيان صادر عنها، من أهميّة الإجراءات التي اتّخذتها السلطات اللّبنانيّة للنظر في هذه الأحداث المأسويّة، التي اعتبرتها (الإجراءات المتَّخذة) غير مستقلّة ولا حياديّة، ودعت إلى إحداث “آليّة دوليّة لتقصّي الحقائق لضمان حقوق الضحايا في الكشف عن الحقيقة، وتحقيق العدالة، وإتاحة سُبل الإنصاف”.

يمثِّل الحادث فرصة تاريخيّة بالنسبة إلى كلّ الفرقاء اللّبنانيّين، لإعادة الاعتبار للدولة ومؤسّساتها، بإرساء قضاءٍ مستقلّ يحظى بثقة المُواطن، وقادر على تحقيق العدالة ومنْع كلّ مَظاهر الإفلات من العقاب، وتخليق الحياة العامّة.

كما يشكّل محطّة مفصليّة لإرساء دعائم دولة مدنيّة قويّة تتّسع للجميع، بنُخب جديدة واعدة تعيد الثقة للمَشهد السياسي، وقادرة (الدولة) على مُواجَهة مُختلف التحدّيات والمَخاطِر، وصدّ كل التدخّلات الأجنبيّة، التي طالما استغلّت الأزمات التي مرّ بها لبنان، وجعلت منه فضاء لكسْب مَصالح ضيّقة، ولربْح مَعارك استراتيجيّة على حساب مصالحه واستقراره وتنميته.

إنّ عدم استثمار هذه اللّحظة العصيبة التي يمرّ بها لبنان، وبصورة بنّاءة، سيشكِّل هدراً لفرصة سانحة لتجاوُز أخطاء الماضي وإكراهاته ومُعالجتها بطُرق سلسة، ما سيُعمّق الصراعات الطائفيّة أكثر، ويزجّ بالبلاد مرّة أخرى في دوائر التنافُس الدولي والإقليمي بين عدد من القوى كفرنسا وإيران وتركيا والولايات المتّحدة الأميركيّة، ويفتح مُستقبل البلاد أمام متاهاتٍ تتّسع لكلّ الاحتمالات المُعقّدة.

 ***

(*)  جامعة القاضي عياض – المغرب

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *