سدّ النهضة والتصعيد الإثيوبيّ

Views: 56

محمّد سيّد رصاص

في يوم 26 شباط (فبراير) 2020 رفض الإثيوبيّون التوقيع على مسودّة اتّفاقيّة نتجت عن مُفاوضات حول “سدّ النهضة” الإثيوبيّ الذي هو أكبر سدّ إفريقيّ، استغرقت ثلاثة أشهر وشاركت بها مصر والسودان في واشنطن تحت رعاية وزارة الخزانة الأميركيّة والبنك الدوليّ. المسودّة تُحدِّد اتّفاقاً مسبّقاً بين إثيوبيا ومصر والسودان كشرط لبدء تعبئة السدّ بالمياه وعلى آليّات تشغيل السدّ بعد تعبئته كما تُحدِّد كوتا لحِصص المياه المصريّة والسودانيّة. قام الجانب المصري بالتوقيع على مسودّة الاتّفاق فيما وصفها الإثيوبيّون “بغَير المقبولة والمُنحازة إلى حدّ بعيد”.

كان يوم 26 شباط (فبراير) 2020 ذروةً لأزمةٍ مصريّة – إثيوبيّة بدأت مع بدء بناء إثيوبيا السدّ في نيسان (إبريل) 2011 على النيل الأزرق الذي يعطي نهر النيل 60% من مجموع مياهه. كما أنّ مجموع ما ترفد به إثيوبيا النيلَ من النيل الأزرق ومن نهر السوباط (الذي يصبّ في النيل الأبيض مدينة ملكال في جمهوريّة جنوب السودان) ومن نهر عطبرة (الذي يصبّ في النيل عند مدينة عطبرة شمال الخرطوم) يبلغ 84% من مجموع مياه النيل. منذ البداية اشترط المصريّون وقف أعمال البناء للسدّ كشرط مُسبق للمُفاوضات، وهو ما لم يستجب له الإثيوبيّون، وعندما جرت مُفاوضات أَمكن التوصُّل إلى اتّفاق غامض حول “إعلان مبادىء” في آذار (مارس) 2013 يقول في نصّه إنّ “الاستفادة من النيل لن تكون مؤدّية إلى ضررِ أحدِ الأطراف الموقِّعة على الإعلان”. المَخاوِف المصريّة لا تتعلّق أساساً بموضوع توليد الطاقة الكهربائيّة من السدّ العالي، حيث لم تعُد تُنتج “بحيرة ناصر” أكثر من 12% من الطاقة الكهربائيّة المصريّة، وإنّما تتعلّق أساساً بحصّة مصر من مياه النيل، حيث يُقدِّر المصريّون أنّ السدّ الإثيوبي سيدمِّر مليون فدّان من الأراضي الزراعيّة المصريّة يشتغل فيها خمسة ملايين فلّاح.

كما أنّ احتياجات مصر من المياه النظيفة للشرب والريّ ومجالاتٍ صناعيّة تحويليّة تعتمد على النيل بنسبة 90%. مصر تخشى من أن تتحكّم إثيوبيا بمياه النيل وتُصبح تحت رحمة الإثيوبيّين، بخاصّة أنّ النيل الأزرق هو نهر في قوّة تدفّقه يعتمد على الأمطار الموسميّة بين تمّوز (يوليو) وتشرين الأوّل (أكتوبر)، ويَخشى المصريّون أنّه في حالات الجفاف، كما حصل لإثيوبيا في أعوام 1983-1985 و2002-2003 و2015- 2016، قد يتحوّل السدّ عن المهمّة الرئيسة التي يقول الإثيوبيّون إنّهم يبنونه من أجلها، وهي توليد الطاقة الكهربائيّة، نحو مهمّة حجْز المياه من أجل الشرب والريّ، وهو ما يشكّ المصريّون بأنّ تمنُّع الإثيوبيّين عن توقيع اتّفاقٍ مُسبق حول كوتا مياه ثابتة هو وراء ذلك.

مصر تستند في ذلك إلى اتّفاقيّة العام 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا التي تقول بعدم بناء أيّ أعمال على النيل الأزرق ونهر السوباط تعيق تدفُّق المياه من دون اتّفاق مُسبق. كما يستندون إلى مُعاهدة 1929 بين الإدارة البريطانيّة – المصريّة المُشترَكة للسودان مع الحكومة المصريّة التي تعطي مصر الحقّ في بناء مشروعات على النيل من دون الموافقة الجماعيّة لدول حوض أعلى النيل (الكونغو – بوروندي – رواندا – أوغندا – تنزانيا – كينيا – إثيوبيا)، ويبدو أنّ الرئيس جمال عبد الناصر قد استند إلى هاتَين المُعاهدتَيْن (مُعاهدة 1902 ومُعاهدة 1929) عندما قرَّر بناء السدّ العالي ولو أنّه قام بخطوة لافِتة عندما عقدَ اتفاقيّة 1959 مع السودان التي أعطت مصر 55,5 مليار متر مكعّب من مياه النيل من أصل 84، ولكن من دون أن يَعقد اتّفاقاً مُماثلِاً مع الإثيوبيّين، مُطمئنّاً لوسادة المُعاهدتَين المذكورتَين.

الآن يعطي “سدّ النهضة” شعوراً مُعاكساً للمصريّين: لم تعُد إثيوبيا تلك الدولة الضعيفة التي كانتها في الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، ثمّ بعد سقوط الإمبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي عام 1974 واستلام العسكر اليساريّين السلطة عندما دخلت في حرب بسبب إقليم الصومال الإثيوبي (أوغادين) كادت تُهزم فيها مع الصومال عامَي1977 و1978، وفي اضطّرابات داخليّة كبرى اجتمع فيها التمرُّد الإريتري مع المَجاعة والمُعارَضة الواسعة لحُكم منغستو هيلاميريام، حتّى كاد سقوط الأخير في العام 1991 أن يكون سقوطاً تفككيّاً للدولة الإثيوبيّة التي بان جيشها في حرب 1998-2000 مع الإريتريّين بأنّه جيش ضعيف أمام جيش لدولة جديدة كانت حتّى العام 1993 مُقاطَعة إثيوبيّة. بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي IMF، فإنّ إثيوبيا هي الأسرع نموّاً في إفريقيا بفترة 2007-2018 بمعدّل وسطيّ للنموّ يبلغ 9,9%. مستوى الفقر بحسبThe World Economic Forum (المنتدى الاقتصادي العالَمي) انخفض في إثيوبيا بين عامَي 1995 و 2016 من 45% من مجموع السكّان إلى 24%. النموّ الإثيوبي الاقتصادي يتركَّز في قطاعَي الصناعة والخدمات مع توزُّعٍ لقطاع التعليم العالي في 70% للتكنولوجيا والعلوم و 30% للعلوم الاجتماعيّة والعلوم الإنسانيّة.

في السنوات الخمس الماضية ترافقَ هذا النموّ الاقتصادي مع استقرارٍ سياسي، مع رفْع حالة الطوارىء وإطلاق سراح السجناء السياسيّين وإصلاح قوانين مُكافحة الإرهاب وإصلاح قوانين وسائل الإعلام والمجتمع المدني، في دولة ذات نظامٍ فيدرالي لقوميّات متعدّدة (الأورومو 32%، والأمهرا 30%، والتيغري 6%، والصوماليّون 6%، وعفار 2%) وديانات متعدّدة (أقباط أرثوذكس 61%، مُسلمون 33%، وبروتستانت 10%) وفقاً لـ “روزنامة العالَم 2010” الصادرة في نيويورك (ص 778).

يبلغ عدد سكّان إثيوبيا اليوم، أي في العام 2020 حوالى 114 مليون نسمة، وهي ثاني دولة إفريقيّة بعدد السكّان بعد نيجيريا، وقد قامت في السنوات الخمس الماضية، بخاصّة مع تولّي (آبي أحمد) رئاسة الوزراء في 2 نيسان (إبريل) 2018، بمُصالحات مع دُول الجوار مثل إريتريا والصومال، واشترت حصّة كبرى في أسهم ميناء جيبوتي الذي تمرّ عبره 95% من تجارة إثيوبيا وطاقته التشغيليّة تعتمد بـ 75%على إثيوبيا، وأخذت حصّة مُلكيّة في العام 2018 نفسه أيضاً في ميناء بورسودان. كما تُشارك إثيوبيا مع “شركة موانىء دبي العالَميّة” في حصّة تشغيليّة لميناء بربرة في جمهوريّة أرض الصومال الشماليّة، في تعويض إثيوبي عن كونها جمهوريّة من دون منفذ بحري بعد فقدانها لأريتريا منذ العام 1993. هناك الآن أيضاً مشروع (خطّ لامو) ويضمّ خطّ أنابيب نفط وسِكك حديد وأتوستراد بين إثيوبيا وجنوب السودان، حتّى ساحل كينيا، سينقل النفط المُكتشف حديثاً في أوغادين عبر خطّ أنابيب ينقل أيضاً نفط جنوب السودان الذي هو حتّى الآن يُنقَل عبر مرفأ بور سودان.

المُعطيات الاقتصاديّة المذكورة أعلاه تقول إنّ هناك دولة تتّجه لأن تكون رقماً صعباً في مُعادلات المنطقة من خلال وزنها الاقتصادي ومَوقعها الجغرا – سياسي، وليس خارج هذا السياق الدَّور الرئيس الذي لعبه رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” في مُصالَحة رئيس جمهوريّة جنوب السودان سيلفاكير مع نائبه إريك ماشار عقب نزاعٍ دموي استغرق سنوات، ولا الدور الرئيسي الذي لعبه في الدفع نحو عقد اتّفاق المرحلة الانتقاليّة بين “المجلس العسكري” و”تحالُف قوى الحريّة والعدالة” في السودان يوم 17 آب (أغسطس) 2019، وكان ملفتاً أن يكون الحضور الإثيوبي في الاتّفاق السوداني في الخرطوم أعلى من الحضور المصري، وهذا لم يكُن في حضور عمليّة التوقيع فقط، حيث لم يحضر الرئيس المصري واقتصر الحضور على رئيس الوزراء المصري، فيما كان الحضور الإثيوبي عبر الرجل الأوّل في السلطة، وإنّما في حجْم الدور الإثيوبي في صنْع ذلك الاتّفاق السوداني. هنا يجب تسجيل أنّ السودان، وبخلاف مشروع السدّ العالي لمّا تمّ عقْد الاتّفاق المصري- السوداني عام 1959، يرى مَوقفاً مُغايراً للمصريّين في قضيّة سدّ النهضة، حيث سينهي الأخير مياه الفيضانات الموسميّة في السودان وسيزيد من أعمار سدَّيْ “الرصيرص” و”سنار” على النيل الأزرق.

كما أنّ السدّ سيزيد الحصّة السودانيّة في مياه النيل الأزرق ويجعلها ثابتة، وهذا أساسيّ لمشروع الجزيرة الذي هو المَصدر الرئيس للقطن والحبوب ومكان خصبٍ للماشية. عُمر البشير منذ العام 2011 أيَّد الإثيوبيّين، ويبدو أيضاً أنّ حُكّام الخرطوم في مرحلة ما بعد11 نيسان (إبريل) 2019 لن يكونوا بجانب المصريّين في موضوع السدّ الإثيوبي الذي يقدَّر بأنّه سيكون مَصدراً رئيساً لكهرباء العاصمة الخرطوم التي تبعد عن السدّ أربعمائة كلم فقط.

هنا، يُمكن للمَوقف السوداني من موضوعَي “السدّ العالي” و”سدّ النهضة” أن يعطي صورة عن الوزنَين الإثيوبي الصاعد والمصري الذي لم يعُد بوزنه الذي كان عليه في زمن الرئيس جمال عبد الناصر. هذا المَوقف السوداني لا تتحكّم به الاستفادات المصلحيّة السودانيّة من السدّ الإثيوبي فقط، بل هو أقرب إلى استجابةٍ لقراءة في معطى متغيّرات القوّة الجغرا – سياسيّة. ليس مصادفة أن يأخذ “آبي أحمد” جائزة نوبل للسلام أواخر العام 2019، ولا أن تُشارك إثيوبيا في قاعدة عسكريّة في جيبوتي مُجاوِرة للقاعدتَين الأميركيّة والفرنسيّة هناك.

إثيوبيا أكّدت على لسان وزير خارجيّتها غيدو أندار غاشيو أنّها ستبدأ في تعبئة السدّ بالمياه في تمّوز (يوليو) 2020 الجاري من دون اتّفاق مع القاهرة والخرطوم، وهي تستند في ذلك إلى غطاء دولي كبير، يمتدّ من واشنطن والاتّحاد الأوروبي والصين التي بنت سكّة حديد أديس أبابا – جيبوتي (2018) إلى إسرائيل التي يُفيد كثير من الأخبار (نشرة “أراب ويكلي”، 20-7-2019) بأنّها أعطت الإثيوبيّين صواريخ إسرائيليّة مُضادّة للطيران من طراز SPYDER-MR تمّ نصبها بالقرب من مبنى السدّ.

من جهتها اعترضت مصر على تصريحات وزير الخارجيّة الأثيوبي بشأن سدّ النهضة واعتبرتها “لهجة مؤسفة” على حدّ تعبير وزير الخارجيّة المصري سامح شكري، الذي أردف أنّ مصر لن تتخلّى عن سياستها في التفاوُض للوصول إلى حلول سلميّة للمعضلة، ووفقاً لذلك تقدّمت القاهرة بشكوى إلى مجلس الأمن مُعتبرة أنّ هذه المسألة لا تهدِّد مصر وحدها، وإنّما الأمن والسِّلم الدوليّين.

يبقى الموقف الأميركي الأخير من موضوع السدّ الإثيوبي، فهو يعوِّل في النتيجة على الدور الإثيوبي في المنطقة ويراه يفوق بكثير الدَّور المصري.

***

(*)  كاتب ومحلّل سياسي من سوريا

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

 

(Ultram)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *