سجلوا عندكم

هدى أحمد حجاجي مبدعة في “حالة تمرد”

Views: 728

الناقد حميد العنبر الخويلدي

كلُّ نص قصصي هو من واقع الحياة الفعلية، مترابط معها لزما وتوثيقًا، وهذا ما يجعلنا نتوخى الإمتاع واللذة الفنية دائماً، فهناك في الفن مدارس، منها الواقعي الصرف المباشر، وهناك غيرها من التنويعات المنهجية، أكثرها من بنات الربط الذهني ومسحة التخيّل، وهذا كذلك جميل، انما لو لملم القاصُّ شتاتَ قصته وكونياتها من حضن الطبيعة فهذا مراد بحد ذاته مبهر، وكل ما زرعت العفوية وتلقائيات فعل الزمكان فهذا حلو وتام بكماله وصورته، كون القصص بأجمعها، ولدت في ثنايا الواقع الوجودي وارتبطت به وارتبط بها.

ونتساءل هنا “ما الذي دفع القاصة هدى حجاجي احمد لكتابة قصة “حالة تمرد” بالذات وبالفعل؟”.

الفنان كائن خلّاق فوق القدرة المادية، وعن طريقه يتم استقراء القدري للممكنات في الواقع، القدري نعني به الماوراء، وهو قوة المطلق، فلعله -ونقصد المبدع -اليد البارعة التي تحدث التغيير وتحدث النقلة النوعية، وعلى هذا الأساس، لابد من ناموس مادي تتخاطر من خلاله الفيوضُ الحالّةُ احداثاً والمدفوعة قياساً وتقديراً على ما له من علاقة بالبنية اولاً بأول، وهذا الناموس يجري تحت سقف الضرورة الوجودية. الفنان كذلك مع عامل الضرورة في الواقع تجده قناةً رابطةً تَسْتَلِمُ وتُسَلِّمُ، تَستَلم ما يُضاف من محدث مكاشفاتي به بصمة الغيب، وتُسَلِّم ما يجب من اخبار معنوي اختزله الواقع وجوباً في أن يتغيّر، بحسبان الآتي الحتمي، وموقف التصيرات الذي ينصه القاص وبه تعتمل الكيفية الكلية للنتاج، يستدعي النقص أولًا، او الحاجة، وهذا يوحي به لسان إمكان الموجود، وعلى ضوئه يتأتى الغيبي وفق نسبية مقدرة سلفاً.

” حالة تمرد”، اسمان وصفيان بالقياس اللفظي: 1- “حالة” تعني ظاهرة شيء موجود له مايخصه ويميزه عن غيره، يكتنفه النظر ويرصده، فهناك شد بين الناظر والمنظور من الموجود. 2- “تمرّد” حاصل حركة اعتبار الكتلة المرئية التي وصفناها بمفردة حالة، ترابط وَلّفَتْه اللغة كونها حمّالةً للمعنى المبصور او المرصود من قبل المبدع، في عملية لَمِّ الشُّتات وابتداعه بطريقة أخرى لاتختلف عن رسم قلم الوجود بنسبة فاعلة هيكلية، ولو اختلفت فقدت ملح الواقع وذائقته، وكذلك لاتسلم من التشوْه، هذي مجريات القصة الواقعية، فلعل اولَ منتج لأي قصة بالحياة هو الواقع ورموز البنية النصية، المبدع اختزالي ليس إلا، وعلى طريقة كشف الرابط والأثر، اقرب الى علم الحفريات ولكن بأسلوب يخترعه حسب طبيعة الفن: رصد، تشخيص، مخالطة عينية، ازاحة الكاهل، تحفيز روح استنهاضها، نقول انها اكتملت من مكانها التي هي فيه قبلُ مع الموجودات تلابسا والتحامًا بمثل ما كانت ووزعها الوجود الكوني آنذاك، فحين عرفنا أنها اكتملت واستُنْهُضت، هنا تُجْرى النَّقْلة ولكن اين وكيف؟

هدى المبدعة رصدت قصتَها من خلال استشعار الذات حصراً، وقراءة المأمول، ومن ثم شخّصت هناك جسداً جمالياً مغموراً طمرته الظواهر، بعدها خالطته واعني /القاصة هدى/ مخالطة الإرادة والاختيار والرغبة في حب الكشف عنه، وإخراجه اي بإزاحة الطامر له والغامر الذي طمسه، الوجود هنا محشود بالمكنونات لم يفقد اعتبارات تاريخ اي ذرة حتى ولو كانت مذاق تفاحة آدم او عُرْيه الجميل، او عناد وصلف كورونا المعاصر.

وبعدما احاطت القاصة بالصورة كاملة انشَدَّت لها اخذت تراها كثر اللَّغط، من اي الزوايا انعشُها بالنفخة ياترى، المبدع خلّاق ينعش بُناهُ بنفخة تسري بالهيكل المحشود، الهيكل الذي جُمِع، نعم جمع ذابلاً اصفر خارجًا من بطن الخانة متململاً توا رأى دائرة الشوف ومابها من قرينات، لامسته أصابع ناعمة، افاق دبت به صفاته حسب مراماته وما تمليه عليه ذاته، فهو وأعني النص عالم من الاعتبار المحدث يحمل معنى قد يكون ذا اعتبار متعال كمثل رواية شكسبيرية او رواية نجيبية كـ “أولاد حارتنا”، اذن علينا وفي هذا المعيار، ان نجمل المنظور النقدي الذي اشتغلت عليه القاصة هدى احمد حجاجي، وأي قاص حيثما عمل من السرديات القصار او الطوال: 1- رصد المآل، ٢- تشخيص الحال، ٣- التخالط العيني، ٤- ازاحة الكاهل، ٥- الحافز او نفخة إنعاش المخلوق المحدث، 6-النقلة النوعية، اي من نصاب خامات الموجود الى نصاب فاكرة ابداع الذهن، المهم نقول مصطلحياً عنها بالنقلة النوعية،

هذا ناموس قصة “حالة تمرد” وهي في خزانة الوقت في وحداته، وان يتبين للمتلقي المكاشفة الجوهرية، حيث انَّ أول المتلقين هو المبدع الذي دخل موقف التصيرات وكان في الشهودية الفاعل، فبالمكاشفة تتم الرؤيا ويتم العيان ويفرح المبتدع، هنا نصطلح ونقول لقد حدثت النقلة الثالثة وهي تمام الصورة، اي أصبحت “حالة تمرد” حقيقةً من حقائق الموجود.

هدى احمد حجاجي مبدعة حالة تمرد، رصدت وشخصت و، و، إلخ الناموس الذي كشفنا، وهذي اول الحصر، بعدها عملت النقلة الثانية الى فاكرة الخيال الذهني، ومن بعدها الى العرض وهي المناولة الثالثة او مناولة الكمال النصي.

وهنا قصة “حالة تمرد” لـ هدى احمد حجاجي:

 

 

“حالة تمرّد”

كانت عيناها الدليل الوحيد على أنها قد استيقظت من نومها.. فقد فتحتهما في هدوء مع احتفاظ سائر أعضاء جسدها بوضعها الذي كانت عليه وكان العضو الذي قام بالحركة بعد العنيين مباشرة هو عقلها.. فلقد بدأت تتحرك ببطء ليذكرها بذلك الحلم السخيف الذي كانت تعانى منه أثناء النوم..  وكأنما لذ لها أن تستعيده مرة أخرى في يقظتها انتقاما من ذلك الرعب الذي صاحبها في نومها. تركزت عيناها على سقف الحجرة وهما لا تكادان تريان إلا ذلك الحلم الذي ينشط العقل الآن بشيء من المعاناة في إعادته. ها هي تسير في مقر عملها.. 

فجأة تشعر بدوارن وضعف شديدين تسقط على الأرض..  يسرع إليها الزملاء يحملونها إلى مقعد وثير تتكاثر من حوله الأسئلة وتتناثر الكلمات وهي جالسة في شرودها كأن الأمر لا يعنيها تشير في بطء إلى ساقها اليمنى يكتشفون معها أنها لا تتحرك –يحاول الجميع إصلاحها لكنها ساق لعينة..  ترفض الإستجابة لهم..  ينقلونها إلى المستشفى، يقوم الأطباء بعملهم ذهبت كل جهودهم سدى..  كانت صامتة حتى الآن..  يصر الأطباء على ضرورة أن تتكلم..  خرج صوتها واهنا خفيضا..  فرح الجميع إلا هي..  أغلق الأطباء الحجرة . سألوها إن كانت تقبل صداقتهم..  وافقت سألوها: هل هناك أمر ما في داخلك تكتمينه ويعذبك كثيرا؟

أجابت “نعم”. ناشدوها أن تبوح لهم به بعد تأكيدهم بضمان سريته. رفضت. سألوها: هل هذا الامر شديد الأهمية بالنسبة إلى أحد غيرك ؟ أجابت: بل شديد التفاهة . سألوها: لماذا لا تقولين إذن؟ أجابت : لا لا أستطيع. توعدوها بان ساقها ستكون الثمن. ردها الوحيد بأنه حتى لو كانت حياتها هي الثمن.

أمر الأطباء بإعطائها حقنة غابت بعدها عن الوعي. انتهت من استعادة حلمها الكئيب… لكن..  ما هذا؟ مازال الحلم يحاصرها حتى بعد يقظتها.. نفس السرير..  نفس الحجرة، بل نفس الوجوه التي كانت بالحلم هي التى تراها. إذن هي في مستشفى حقيقي وكل ما مر بها لم يكن سوى الحقيقة المجردة وليس حلما.. 

فجأة تذكرت ساقها اليمنى، تلك التي رفعت راية العصيان في وجهها..  حاولت تجربتها وجدتها ما زالت تعصاها… تجاهلت كل الوجوه التي تحمل ابتسامات اجبارية من حولها.. ..  مرت لحظات قصيرة لكنها كانت كافية لأن تستعيد في ذهنها جزءا كبيرا من حياتها، كيف كانت. إنها تعيشها بلا نظام وتستخدم أعضاء جسدها بلا رحمة وتستنزف عقلها وأعصابها بلا حدود وما ذلك إلا لأنها توجد بالحياة في تلك الفترة من الزمان.. كم سألت نفسها في ما مضى إلى متى سيظل جسدها وعقلها يتحملانها بلا تمرد أو عصيان رغم قسوتها وجبروتها؟

وكانت تتعجب من تحملها واستكانتها، لكن ها هي كل المقاييس تختلف… وتم رفع راية التمرد والعصيان في وجهها وكانت ساقها اليمنى أول من تقدم لحملها..  والأن يحاول الأطباء استرضاءها..  لكنها ابدا لن ترضخ قبل أن ترضخ هي، وأيقنت أنها على استعداد للرضوخ. لكن هل تستطيع الاستمرار؟ أعادها صوت الطبيب إلى واقعها وهو يقول: لقد قررنا بقاءك معنا في المستشفى عدة أيام.. ..  صاحت من دون تفكير: لا لا، ورغم كل ما قيل بعد ذلك قالت أيضا: “لا”.

قامت بالتوقيع على إقرار  تحملها المسؤولية.. ..

 ذهبت إلى منزلها…

رفضت كل اقتراحات العلاج… كل ما طلبته فقط يومي راحة وفي اليوم الثالث كانت بين زملائها في العمل سليمةً معافاة.

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *