سجلوا عندكم

صباح… أو فَتُّ الياقوت

Views: 127

د.  جورج شبلي

 

( بمناسبة ذكرى ولادتِها )

 

لو تُرِكَ الناسُ على فطرتِهم، لكانَ الغناءُ طريقةَ تعبيرِهم الوحيدة. لكنناعندما نعقدُ فصلاً في غناءِ الزُهّاد، يَخفى علينا الكثيرُ ونَصبِرُ لعلّ المقامَ يُنبئُ بعلامتِه، إلاّ أننا لا نلبثُ أن نقولَ لهم: إرحمونا وأفرِجوا عن شِحِّكم لنرى المُبتكَر. أمّا مَن صيّرَ الغناءَ شريعةً ضربَ خبرُها الأقطار، فيحقُّ أن يَرجعَ إليه الفضلُ في ذيوعِ الجمال، وأن يُحفَظَ ذِكرُه في دائرةِ معارفِ الإبداعات.

 صباح التي تزوجَها الّلحنُ طاعةً للهوى، أذهلَت خطّةَ الدّربِ الموصلِ الى المجد، فلم تحفرِ الشمسُ فيه خيالَها لِطولِ انتظار، لأنها بَلَغته بقفزةٍ واحدة. فهذه التي كانَ منبِتُ الشّهدِ من فمِها، ومَلقطُ الوَردِ من طلّتِها،  صوتُها الذي تُلابِسُه أعصابٌ وحواس، هو سيوفٌ تُغمَدُ وتُشهَر، وغديرٌ ترقرقَتْ فيه دموعُ القصائد، وماجَت به الرشاقةُ فكان كالنّورِ أو أَرَقّ. إنّ أداءَها النّغَميَّ الرشيقَ كما تنفّسُ السِّحر، يَلمعُ الفرحُ من متنِه فكأنّه في يومِ عرس، حتى تُسكرَه خمرتُه فيستغرقَ في غيبوبةِ النشوةِ أو لذّةِ التّيهِ، وكأنّ داودَ لم يَنطقْ إلاّ بنغماتِه.

 

صوتُ صباح الأُستاذيُّ النَّفَسِ والذي أدّى القوالبَ الموسيقيةَ في أَشكالِها الكلاسيكيةِ والرومنسيةِ والتجديدية، كان مصقولاً بقُزَحِ الخِبرةِ كأجنحةِ الطواويسِ وكغمزاتِ الحِدَقِ المِلاح، تتحاسدُ الأنغامُ في التسابقِ اليه، وتتمنّى كلُّ جارحةٍ أن تكون أُذُناً تلتقطُ منه مطالعَ الجمال. فصباح واحدةٌ من أعلامِ الغناءِ الذين كانتِ الموسيقى من جُلَسَائِهم، وهي إذْ تشدو، يَعبقُ الجوُّ منها بِرَيّا الخمرةِ المُعتّقةِ مُستَجيباً للإثاراتِ الإحساسيّة، ويرتعدُ كأنّه فضّةٌ قد مسَّها ذهَب. فصوتُها بمحتواهُ الجماليِّ والإبداعيّ، يَندرُ أن تجودَ بمثلِه قريحةُ الزّمان، ويَصعبُ أن يتلاشى التوتّرُ المُتبقّي بعد سماعِه إلاّ بِبَترِ العَصَب.

صباح الضّارِبةُ شُهرةً عندما تُطلّ، وقد سرى أمامَها أَرَجُ المِسكِ وفَتَّرَ النّعيمُ ألحاظَها ورخّمَ ألفاظَها، كنتَ تحسبُ زِرياباً حاجِبَها، والفِطنةَ والصَّباحةَ وصيفتَيها.  أمّا المكانُ الذي تُشعِلُ فيه القلوب، فهو المكانُ الذي لا يَتَنَفَّسُ فيه إلاّ الذَوّاقة، والذي تَشعرُ فيه الأرضُ أنها أسعدُ ما تكون، بالتّرَفِ الذي يُسْكِرُ الأرواح، وبالملاحةِ التي تتغلغلُ في مَسالكِ الأنفاس، وبالوَشْيِ الذي لم يَسبقْها إليه صائغ. هذا الحضورُ الأخّاذُ الأرفعُ من أن يكونَ مُلحَقاً بِحاشية، والذي يَمسحُ أعشارَ القلوب، كان يَفرضُ أرستقراطيةَ التّواضعِ وهي متعةٌ مُضافةٌ الى مُتَعِ الحياة، أو صَرْحٌ من قواريرِ مَرْمَر، لذا بقي الأَعلقَ بالنفوسِ لا يسمو الى الّلحاقِ به كثيرٌ  مِمَّن ذَوَّعَتِ الشُهرةُ أسماءَهم.  

 

صباح قالبُ نُبْلٍ مَستورٌ بثوب، وازِعُها أعمالُ الخيرِ والحبِّ والتسامحِ لا ثمارُها، لأنّ جزاءَ الخيرِ في الخيرِ نفسِه. فقد بذلَتْ ذاتَ يدِها عندما احتاجَها الآخرون، وعَفَّتْ عن ذاتِ يدِهم عندما احتاجَتْهم. (Ambien) إنْ ظمئوا أَروَتْهم وإنْ عجزوا أَعانتْهم، بالرغم ممّا نابَها من نوائبِ الدّهرِ الذي جرى على حكمِه المألوفِ في تبديلِ الأحوال. هي لم تُصِبْ مجداً بتدميرِ الآخرين، فهذه اللطيفةُ المعاشرةِ قد أحبَّتْ إخلاصاً مَنْ أحبَّها رِياءً، ومَن ماتَ لها ماتَتْ عليه، فلم تبخلْ حتى عندما تَعَوَّجَ قَدُّها وتَكَمَّشَ خَدُّها، هي المؤمنةُ بدستورٍ خالدٍ وهو أنّ البَغضاءَ لا تتلاشى بالبغضاءِ وإنّما بالحب. وصباح إنسانٌ له من حياتِه ما يَخضعُ له من أمانيِّ النفسِ وحاجاتِ الفؤاد، والإنسانُ غيرُ منزَّهٍ عن أَدرانِ النَّقص، من هنا فالتورّطُ في استقراءِ هفواتِها كَلَفاً بنُصرةِ مَنْ أَنصفَتْهم وكانوا جاحدين، ليس سوى إِلْباس الحقِ بالباطل، لأنّ هؤلاء عقدوا معها قَرضاً من دون نيّةِ وَفائِه، فما كانوا إلاّ سارقين.

الغناءُ بعدما ضاقَت ظِلال صباح بتَطاولِ السنين، أجفانُه مَقروحةٌ وصدرُه ضاقَ مِمَّن أَوقعوا المُحَسِّنَ عن قصد، لتطغى الصّناعةُ على القرائح. فبعد ولائمِها الفردوسيّةِ وهي دلائلُ إِعجاز، صارَ غناءُ غيرِها إفطارَ صائمٍ على الخبزٍ البَحت، وبعد نثرِ زهرِها على شَدا المزاهرِ خُدِّشَتِ الأوتارُ بنثرِ الشَّوك. فمن دونِ أطايبِ صباح وما يُتَرَشّفُ من فمِها، لم يَسَعِ الذوقَ سوى الحزنِ على حالِه، لأنّه كلّما سمعَ غناءً لَطَمَ وجهَه وأَزْبَد، كمثلِ مَنْ لَمَحَ الشيطان. فأينَ المؤدّون من صباح التي صوَّرَتِ النغماتِ وأتقنَتِ الصُّنوفَ المحبَّبةَ في فنونِ الغناء، فافْتَتَنَتْ بها القلوبُ التي أَطربَها ذلك الاستعراضُ العفويُّ للإمكانيّاتِ الصوتيةِ في التنقّلِ بين أجزاءِ الّلحن، ولَاستخدامِ العُرَبِ والتّحويلاتِ المَقاميّةِ والإيقاعيةِ بما يُبرِزُ في الأَداءِ جماليّاتِه. إنّ هذه المقدرةَ شبهَ الأسطوريّةِ كانت مُمْتَنِعَةً على أغلبِ أهلِ زمانِها وعلى مَنْ أتى بعدَهم في عصرِ الفسادِ الذي أصبحَ سُنَّةً شائعةً في شرقِ الفنّ.

 

  لقد انقبضَ رحمُ الإبداعِ بعدما طَوَتْ صباح سدّتَها وفترَ نفوذُها الجماليّ، لأنّ كثيراً ممّا فيها لا نظيرَ له ولا شاكلة. وإذا انتهَتْ صلاحيّةُ صباح التي كان للتأنّقِ واللياقةِ معها حظٌّ عظيم، بعدَ عُقودٍ من التألّقِ وحظوةِ المجدِ وإرثٍ وارف، وهذا حقٌّ للزّمن، فإنّ الكثيرين من النّازحين الى أرضِ الفنِّ قد انتهَتْ صلاحيّتُهم قبلَ أن يبدأوا.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *