الصَّمتُ قدّيس القدّيسين

Views: 92

 الدكتور جورج شبلي

يمكنُ للسَّيف أن يبرق من خلال الدّموع، ويمكنُ للرقّة أن تملكَ أسماع الهُوَّج، ويمكن للجَمال أن يبرز من صرخة ثائر، ويمكن لك أن ترتاح الى هَفوة، أو أن تُؤخَذَ بِزُور. هذه هي مجالس الصَّمت، كأنّها ترصيع في بال الملاحم، تتحامل على المستحيل من دون أن تَلوي، تقول ما يحلو لها، تحبّ اللاّقَدَر بالرّغم منه، وتقسو على شاطئ النّضوج متى رَسَت على صخوره.

الصَّمت صفاءٌ مُسكِر، لذلك هو أروع ممثّل للذّات، عندما لا تُدَجّل الذاتُ على ذاتها. مُتَّسعُه لا يحوطه بيان، ولا يحدّ منظوماته ديوان، يسمو بروحه لتتجاوب معه الأرواح بروحها، ويفصل في قَوله ما يجب تحديده لفصل القول. ولأنّ خدمتَه متَّصفة بالنُّصح، لا يمكن أن يكون الصّمت مَسلولاً، يمجّ كَبدَه ليقضي بعد يوم، فهو الصّافي المتحمّلُ ثِقل الأيام ليعيش أبداً نسيجَ وحدِه. إنه يغرف من فوق، متتابعَ الدّهشة، موصولاً بأشعّة الجِدّة المتواتِرة، فما أقربَه الى الخلود القَلِق.

الصَّمت ينبضُ بأحرفٍ مصبوغة الألوان، كعفافِ مُعتادِ الإبداع، ترى به ما لا يمكن أن تراه في الكلام. إنّه العارِف المعروف المتفرّدُ في قَول ما لم يقله سواه، والذي يعطي ما لديه كما لديه، شغوفاً بالمتعة، يبلغها عندما يخصّ كلَّ شيء بنشيد، وكأنه يعيش عرسه. لذلك، لا يمكن أن يُتعبَك الصّمتُ وأنتَ على قَيدِه، فهو غفلةٌ واعية نسمتُها طريّة، نشوانة بسحر الأحلام، بريئة كعاشقٍ ما غَفا إلاّ على نشيد من الهوى، وكأنّه أمٌ تُستَجدى، والذي يستجدي الأمّ يَحسن نسلُه، فبئسَ الضّجيج.

إنّ إغراءات الصَّمت تلعب دوراً أساسياً في مَفهَمة الذات، فهو مذهبٌ مَنهَجَتُه معقّدة، لا لأنه مُقَعَّد بل لأنه نَزعة، وهذه لها مدلول سلوكيّ أو قوة رافعة توجّه جهازها صوب هدفٍ محدَّد. ولمّا كانت الإغراءات تتلاحق أداةً بين مصدرٍ وموضوع، صارت إذاً راحةً لا تنام ليلةً واحدة خارج دائرة الصَّمت، وذلك ليطلّ عليها الصّباح كلّ مرةٍ وهي هناك عندَه.

الصَّمت حالةٌ نرسيسية عتيقة سريعةُ الحساب وقاسيةُ الجبروت، لكنّه مع ذلك صديق الجميع. إنه نعمةٌ أجراسُها المُناديةُ طاقةٌ تجعل فائدة الخارج تنكفئ على”الأنا”، في خطفةٍ ساحرة للبعيد حيث بقايا زَفَرات الصّدى يُطربها تَرجيع إحساسٍ ذائب. ويسود في الصمت ارتياح، فعالَمه مقاطعٌ من التجلّي، لا غفران فيه لأنه بلا خطيئة، لذلك استودعه الإرتياح روحه.

في الصمت اهتداءٌ الى نيرانٍ ولا أصفى، شبعت من دون احتراق، فلها من أجيجها ما يصرفها عن هذه الأُلهية. وهو في حقيقته ذوقٌ روحيّ يصرفنا عمّا تراه بصائرنا، لنستغرق في عوالم غريبة هي أبعد من أن تنالها يدٌ تُصلح فيها أو تزيد. من هنا، فهو على زورقٍ من نور، يطفو على أقداح الأبد، وليس نداءَ ظلمة الزّيت في القنديل، أو عهدَ دم الوَحي المُشَظّى ببغايا الكلام، إنه قَبَس الهداية الذي يقودُك الى أن تعرفَ ربَّك وكأنّك تراه.  

الصَّمتُ هو أَفضلُ ما تَطاولَ إليه السؤال، وليس دُعاءً لا يُسمَع، لأنه عَجَنَ مِسك البصيرة بعَنبرِ الفطنة، وفاحَ عَبَقُه فتطعَّمت به الحياة. ويخطئ مَن يحسب أنّ الصَّمتَ يطمس المحاسن إذ ليس للفظه حلّة ولمعناه حلية، وكأنه غريبٌ يَحتاج الى دقّة مَلاحظ لِجلاءِ أمره. والحالُ، أنّ الصَّمت هو ما ينتقل فيه الذِّهن من غير احتياجٍ الى شدَّة نظر لظهور وجهه: فهو أَمردٌ يتأمّله الضمير، خدّه ورد، وثغره أقحوان، وجيده غصن، وريقُه رحيق، وعيناه مِدهَن العاج…كأنه في دُور أَكابر الملوك وأَجلّة الرؤساء، فهل أوضحُ دلالةً لاضطرام الصَّدر وسِكر الذَّوق ؟

الصمت المنتصب للتأديب والتَّفهيم هو جيب المعرفة لذلك آياتُه بيّنات. وهو، لِما يتولّاه من خِصال، ما قضى أن تظلَّ آياته رهينةَ السّتارة، أو من طوابعها، خامدةً لا تنقاد لسواها فتَبلى في غير نَفع. ومن حسن الشِّيم، أنّ الصَّمت قانعٌ بإنفاق نتائج خواطره، فهو يسمح، وبشهوة، بالإغارة على ما يملك، من دون الحاجة الى الإختلاس، قرينتُه أنّ اللُّؤلؤ لا يُصَفَّق له إذا ظلّ سجين الأصداف. 

ربَّما كان في هدآت الصَّمت قَوالبٌ ابتكارُها في العقل ممجوج، وقَبولُها من المنطق مُستَثقَل، لأنها تحوك في مذاكراتها النَّقائض، مثل رَوض العذاب الأليم، وريعان صُروف الدَّهر، وطِيب غَدرات الزّمان، ونور الليل الدّامس، وضحكة القلب العَليل، وطمأنينة السَّراب الخادِع. لكنّ هذه الخواطر ليست بِدَعاً شاذّة إذ تتوثَّب من فيض الإدهاش الذي لم يمسَسْه قلم، حيّةً مفعَمةَ الشّعور والإحساس، وكأنّك معها تقف أمام مرآةٍ مُقَعَّرة تجمع بين النَّقيض والنَّقيض أو ” تضربُ” السَّالِبَ بسالِبه لِيُخلَقَ الإيجاب العجيب، فما أروعَ ما تقدّمه الرياضيات، وبصَمت !!!

الصمت أَخَفُّ على القلوب من حواشي الكلام، فهو يساميها ويباريها في مَكنون أسراره وفقراته المأثورة بحيث ترى في رسالته ما تراه في أشهى الأعمال الفنية. واستناداً، يمكن أن ترى في بعض الكلام أَثَراً ينقصه الفنّ، فيبدو هامداً لا حسّ فيه ولا روح، أو تنتاب نسختَه أخطاء يمكن استدراكها لو ” طُبِعَت ” مرةً ثانية. لكنّ ذلك لا تشقى به سرائر الصَّمت السخيّة، هذه التي تُستَحسَن ويُعجَب بها لأنها تعوَّدت أن تُبدع ما تُبدع بلا كلفة ولا عناء ولا مغالط، ومن أجلها يُشتاق الدّخول الى سُدّات الصَّمت.

الصَّمت علمٌ في معناه الأَوسع، والذي ينفي ذلك ويردّه، فتوقيفُه خطأٌ مُبين. ولأنّ الصّمت لا يعتمد على رعاية، فمهمة الباحث في هذا العلم الكثير الأجزاء عسيرة وشاقّة، وقد لا يكفي أن يدخل في واحدةٍ من دوائره حتى يستكفي مُلِمّاً بكلّيته، كمِثل دارِسِ كُتُب المَجوس، لا يكفيه ليَفقَه ما فيها، أن يتعلَّم اللغةَ الفارسية فقط. لذلك، لم يجد هذا العلم مَن يُعنى بتدوين أصوله وتحقيق فروعه، والذين حاولوا غلبت على مادة إنشائهم الصَّنعة، فلم يُمَهَّد السَّبيل الى التعمّق بدقائق هذا العلم العجيب، فذلك يتطلّب كثيراً من الجهود.

وبعد، للصَّمت عَيبٌ واحد: عيبُه أنه لا يصمت.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *