“عن بُعد”، لِغَدٍ جديد!!

Views: 433

 د. عماد يونس فغالي

كانت المنظومةُ المجتمعيّة في الزمن القريب، تدعو الناسَ إلى التقارب الهادف مساندةً وخدمة، خصوصًا في الأحداث والمناسبات. وكم كانت حاجات الأشخاص تقضي بوقوف المحيطين بجانبهم عضدًا مستدامًا. ما جعلَ الدوحةَ المقرّبة في تدخّلٍ مباشر على المستوى الدقيق لتفاصيل الحياة اليوميّة.

وتولّدتْ عاداتٌ وتقاليد موجِبة، تحثّ الأشخاصَ والعائلات على الالتزام تحت طائلة العتاب والمبادلة بالمثل، خصوصًا في الأحزان والمواقف الحرجة.

وكانت محطّاتٌ إنسانيّة بارزة، كالزواج والوفاة مثلاً، كما اجتماعيّة ودينيّة كالأعياد الكبرى، توقف عجلةَ الرتابة، وتدعو الناس إلى الالتحاق بالركب العائليّ مشاركةً حضوريّة على الصعيد الإنسانيّ والعاطفيّ.

في تعبيرٍ أوضح، كانت المنظومة المجتمعيّة تفرض بوضوح تقاربَ الناس الملحّ ولقاءاتهم تكرارًا وتواترًا. ومن لا يلتزمُ يُبعَدُ شماتةً. ودخلتْ هذه التركيبةَ تعبيراتٌ وصلتْ حدّ المسلّمات المقدّسة: ” الناس لبعضا”، ” الدني مبادَلة”، “اللي بيشوفك بعين، شوفو بتنين” إلخ

وفي عالم التربية، ينتقل الطفلُ في انسلاخاته الأولى من أحضان أبويه إلى الحرم المدرسيّ، تتلقّفه الحضانةُ الصفيّة، مربّيات تضفينَ عليه الجوّ الأموميّ، حضورًا وافرَ الاهتمام. يتطوّر هذا إلى مرافقةٍ لا تني تلائم الفئةَ العمريّة والتعلّميّة التي يبلغها الولد حتى انطلاقته مستقلًّا في الحياة.

اليومَ جائحةٌ، فرضتْ واقعًا معاكسًا… في مكانٍ، كانت هي السببَ المباشر، لكنّ شفافيّةً تدعو إلى الاعتراف أنّ المسارات المحتمعيّة بشكلٍ عامّ هيّأت التحوّلات تباعًا… نعم، صار الواقعُ معاكسًا وبشكلٍ جذريّ. صارت المعادلة “بالمقلوب”. مستهجنٌ اللقاء بين الناس، كلّ لقاء، خصوصًا الذي كان ضروريًّا وظرفُه واجب. صار التباعد هو المقياس. صحيح، إنّ كلّ اتّصالٍ صار متاحًا عبر التواصل الرقميّ، ومن إيجابيّاته التواصلُ بين المغترَبات، فلا هجرةَ بعدُ تهمّ. لكنّ ناسًا عرفوا الاحتكاكات المباشرة، في الواجبات والمناسبات والتعلّم، لن يدركوا في أذهانهم الباطنيّة كنهَ التواصل الباعد، فيرفضوه، ويبقى الأمر إشكاليّةً صعبةَ المنال.

في تفكّرٍ آخر، خلال هذه المرحلة الانتقاليّة بين الحضور و”عن بُعد”، تولدُ خشيةٌ، جائحة هي الأخرى، من تداعي العلاقات الإنسانيّة والتفكّكات المجتمعيّة، وحتى العائليّة. وما نشهده اليوم على ساحاتنا، شاهدٌ عيان!

لكن، لنكن موضوعيّين. ولأجل هذا، فلنكن رؤيويّين. دعونا نأمل اصطلاحًا في المنظومة الجديدة الفارضة، منظومة “عن بُعد”. ستحمل مواكبةُ المنصّات الرقميّة إن شاء الله، مرافقةً قيميّة على المستوى الإنسانيّ الشامل، تتوافق مع التربية عبر وسائل التواصل. فنعتبرُ أنّ العالم بأسره صار قريةً كونيّة، قاربَ بين أهل الكوكب قاطبةً، وهو في حاجة ملحّة إلى تنظيم العلاقات المتبادَلة، حسبما تفرضه مقاربات التلاقي على اختلافاتها.

بديهٌ القول إنّ الأسس الإنسانيّة والمجتمعيّة ذاهبة إلى تحوّلٍ قد يكون جذريًّا، لكنّ أجيالاً تأتي، ستربى وفقه، وقد لا تعرف غيره إلاّ تذكّرًا. فتستقيم حسَبَ معاييره، العلاقات والتصرّفات. وتنشأ قيمٌ ومبادئ تناسبه. عندذاك، ما الضيم؟ وما أقولُه، دخل حيّز الاعتماد، محاولةَ تنفيذٍ أقلّه، في غير مجال، خصوصًا على منصّات التعلّم عن بُعد. ما يعني أنّ القائمين على مختلف الميادين، لا يغفلون عن النظم الأخلاقيّة والقيميّة التي تُبقي للإنسان هويّته الإنسانيّة وتقيمُه في رفعةٍ مستدامة!

وإذا تطرّقتا إلى المجالات المهنيّة والوظيفيّة، نلاحظ اعتماد العمل “عن بُعد”، أساسًا في المناهج الإنتاجيّة لوفرٍ معيشيٍّ منذ اليوم. ما يؤدّي إلى تناقص الحاجة إلى “الذهاب إلى العمل”. بمعنى آخر، أنّ العمل لم يعُد يفرض حضورًا في مبنىً خاصّ يحتاج حضور فريق العمل إليه وفيه. وهذا الواقع آتٍ لا محالة في السنوات القليلة القادمة منسحبًا على مراكز الأعمال ودور التعليم المدرسيّ والجامعيّ على السواء، وحيث تسير الأمور الحياتيّة على اختلافها، دونما حاجة إلى التواجد الجسديّ

اليومَ “عن بُعد”، مصطلحٌ. في الغد القريب، واقعٌ لا وجودَ غيرَه. هذا متى جاءت الأجيال التي تبدأ حياتها معه دون تعرّفٍ إلى ما كان قبله.

يا سادةُ، جديرٌ بكلّنا تأقلمٌ، وفي سرعةٍ فائقة، حتى نبقى في قلبِ العالم الفاعل. وجديرٌ أكثر، بل واجب، أن نجتنبَ تذمّرًا مستمرًّا. إنّ داعيَ التأفّف

يكمن في المقارنة بين ما اعتدنا عليه وما نحن مدعوّون، أحيانًا مرغَمين، إلى تبنّيه واعتماده. نحن ننتقلُ إلى عالمٍ آخر، له أسسُه ومنهجيّاتُه، تنقلبُ إليه مساراتُ الحياة كلّها

قربُ الناس من بعضهم البعض، عن بُعد، في واجباتهم المتبادلة ومناسباتهم الاجتماعيّة والعائليّة، وظروف حياتهم كلّها، مقاربةٌ أخرى، لا علاقةَ لها بما نعرف. هي جديدة، لائقٌ خوضُها، طالما يسري مجراها فينا

مقاربةٌ، كما مثيلاتُها، تشكّل في عالم المثقّفين لا محالة، مادّةَ دراسةٍ وأبحاث، قد تغيّر في أنماط مفاهيمها، وتضعها في الأطر الضامنة السلامة الوجوديّة والسياقات الصحيحة لمسارات الناس!!!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *