العمل الروائي يحتاج ثقافة موسوعية

Views: 803

النمسا-بهجت العبيدي

إن العمل الروائي هو أحد أكثر الأجناس الأدبية تعقيدا، فهو خلق جديد، ليس فقط للحدث، بل أيضا للشخوص التي يجب ألا تكون منبتة عن الواقع الذي هو مجرد مواد خام – إن جاز التعبير- على الأديب الموهوب أن يعيد تشكيلها مناسبا يتسق مع الأحداث التي يتضمنها عمله الفني.

إن أدوات القاص متعددة لا يمكن أن يتم اختزالها في اللغة ولا تناسق الأحداث ولا البناء الدرامي ولا حتى في العناصر الداخلية التي تسير بالقصة في ترابط موضوعي وأحداث منطقية، بل يتعدى كل ذلك إلى عناصر فنية دقيقة تعتمد أول ما تعتمد على الثقافة الرحبة والمعرفة الموسوعية للأديب، الذي من نافلة القول يجب أن يتمتع بموهبة فطرية، الذي اتخذ من فن القص مجالا له.

إن الساحة التي “يشتغل” عليها الأديب القاص هي الكون كله، ومن هنا فالمعرفة الموسوعية كما قلنا لهي أحد أهم المقومات، حيث أن هذه المعرفة الموسوعية بدورها تفتح له الآفاق لتناول الموضوعات المختلفة ابتداء من الجغرافيا انتقالا للتاريخ مرورا بالكائنات الحية والجمادات والنباتات وصولا إلى الفضاء الرحب في الأكوان المتعددة فكل ذلك يمكن أن يصلح مواد، خام بالطبع، لأقصوصة أو قصة قصيرة أو رواية طويلة.

ولعله من الأهمية بمكان كبير أن يكون الأديب على قدر كبير من البحر في علم النفس الذي من خلاله يستطيع ان يبرر لشخوصه تلك الأفعال التي تصدر عنهم وهذه المشاعر التي تعتمل داخلهم وتتصارع لتدفع هذه الشخص لهذا الفعل أو ذاك، في تتابع لا يستنكره القارئ،  وفي أفعال تبدو وكأنها قدرية حتمية، كما يحدث في الحياة الطبيعية، ومن ثم لا تبدو لنا مصطنعة بإرهاق الأديب نفسه ليهضمها المتلقي، ولن يجد لذلك سبيلا، مهما اتخذ مبررات لا يستشعر القارئ فيها التلقائية وعفوية الحدوث.

أما دراسة الأديب لعلم النفس الاجتماعي فلها أهمية بالغة ذلك الذي يدرس من خلاله السلوك الاجتماعي للفرد والجماعة، كالاستجابة للمثيرات الاجتماعية، حيث العلاقة المتبادلة بين سلوك الفرد والجماعة ذلك الذي يجعل العمل الأدبي مرتبطا ارتباطا وثيقا بالمجتمع الذي يختاره الأديب ميدانا لقصته حيث أن هذا العلم يهتم بالخصائص النفسية للجماعات، وأنماط التفاعل الاجتماعي، والتأثيرات التبادلية بين الأفراد.

وبكل تأكيد لا يمكن لأديب يشرع في بناء قصة أدبية قبل أن يدرس البيئة التي سوف تشهد أحداث تلك القصة، وتلك الجوانب المشكِّلة لهذه البيئة ويأتي في مقدمتها النواحي: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والثقافية وتفاعل شخوصه في هذه الجوانب المختلفة جميعا، بالسلب او الإيجاب، بالتجاوب او الانسحاب، ذلك الذي يمكن أن يستشف المتلقي منه حياة هذه البيئة في نواحيها المختلفة.

ومما لا شك فيه أن التعرف على الحقب التاريخية المختلفة لهو من بديهيات المعرفة الضرورية للأديب، وليس المقصود هنا بمعرفة الحرب التاريخية معرفة الحكام والحالة السياسية فحسب بل التعرف على البيئة التاريخية بتفاصيلها الدقيقة التي تبدأ بالحياة الاجتماعية وتتوقف عند المأكل والمشرب والملبس وكل مفردات الحياة اليومية، ومعرفة العلاقة بين الحاكم والمحكومين وبين القوى المتصارعة في المجتمع من ناحية والدول المتصارعة من ناحية ثانية.

إن العمل القصصي عمل متعدد الدلالات ومختلف المستويات ذلك الذي لا يستطيع أن يمنحنا إحدى إبداعاته سوى أديب بارع، وقاص متمرس، لا يعمد إلى الأخذ بيد القارئ لما يود أن يقوله له أو يسكنه مخيلته، بل إن أهم خصائص الأديب البارع استثارة كوامن نفس المتلقي في درجاتها المختلفة وفي أنماطها المتعددة، ومن هنا نتحصل على القراءة المتعددة المستويات، والمتدرجة الطبقات للعمل الواحد، تلك القراءات التي يشارك في صنعها المتلقي، بسهم يقترب من سهم الأديب المبدع.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *