إيليا أبو ماضي… شاعر الطبيعة والعذوبة

Views: 2258

 وفيق غريزي

قل المجيدون وكثر المتشاعرون في زمننا الحاضر. سنة الطبيعة ان يتوالد البعوض بالملايين، وان لا تلد الصقور إلا عددًا قليلا. والشاعر المهجري ايليا ابو ماضي ينتسب الى فصيلة الصقور والى الشعراء المبدعين الكبار.

فلسفته

 جعل ابو ماضي من شعره منطلقًا لافكاره الفلسفية، التي صاغها ببلاغة وسهولة ومرونة بيان، فلسفته في الكون، وما وراء الطبيعة، وفي الوجود والعدم، وفي الروح والحقيقة، ارتكزت على مبدأ اعتنقه عدد من الفلاسفة الذين رأوا في البحث عن هذه الامور مسألة عقيمة لا تؤدي بصاحبها الى حل تلك الاسئلة التي راودت المفكرين منذ زمن بعيد جدا، فالفكر في نظرهم لا يستطيع ان يتخطى حدوده المادية ليصل الى اكتشاف حقائق مجهولة تتعدى قواه الفكرية.

وكان قد سبق ابي ماضي من الشعراء الاادريين الشاعر الفارسي عمر الخيام الذي يقول: “اتى بي لهذا الكوكب مضطربا فلم تزد لي الا حيرة وتعجب/وعدت على كره ولم ادري انني لماذا اتيت الكون او فيم اذهب”. اما ابو ماضي فيقول: “جئت لا اعلم من اين لكني اتيت/ ولقد ابصرت قدامي طريقا فمشيت/ وسابقى سائرا ان شئت هذا ام ابيت/ كيف جئت، كيف ابصرت طريقي لست ادري”.

 ايمان ابي ماضي بان الانسان بعد موته سوف يعود فيولد من جديد، وهو ايمان استقاه من بعض اقوال الفلاسفة القدماء الذين كانوا يقولون إن الانسان الفاضل سيتحول بعد موته عن طريق التناسخ الى زهرة فواحة العبير، والانسان الشرير سيتحول الى حيوان، لقد جاء الانسان الى هذه الدنيا مكرها، وسيغادرها مكرها، فهو لا يعلم لذهابه موعدا، حياته لغز حير عقول العلماء والشعراء والمفكرين، وذهابه لغز لا يعرف كنهه الا خالقه.

نبذه الطائفية

 لقد التفت ابو ماضي حوله فاذا الناس على خلاف دائم حول الاديان الكثيرة، وحتى ضمن الدين الواحد، ووجد المذاهب المتعددة والطوائف المختلفة، كل مذهب يمجد تعاليمه ويدحض تعاليم الآخر، والناس في خضم هذه الفوضى الفكرية. التناحر الطائفي، زرع في اعماق ابي ماضي بذور الشك بالاديان والمتدينين، الأمر الذي جعله ينبذ الطوائف المختلفة، وقاده فكره الى إله واحد، واجب الوجود، آمن برب واحد حكيم، خلق هذا العالم ورتبه، ونظمه، إنه إله العدل الشامل، يقول ابو ماضي: ” احبب فيغدو الكوخ كونا نيرا/ وابغض فيمسي الكون سجنا مظلما/ ما الكأس لولا الخمر الا زجاجة/ والمرء لولا الحب الا اعظما/ كم روعوا بجهنم ارواحنا/ فتألمت من قبل ان تتألما/ ليست جهنم غير فكرة تاجر/ الله لم يخلق لنا غير السما”.

هذا الطريق المحفوف بالمخاطر والاشواك، وبالشك والظنون، ابتعد عنه ابو ماضي واخذ يسلك دروبا شائكة في الحياة، نظر حوله فاذا العالم كله ينحدر ببطءنحو الزوال، وما الخلود سوى ضرب من الخيال، تراب في تراب، حياة كلها هباء.

عشقه للطبيعة

لا اظن ان شاعرًا أحب الطبيعة اكثر مما احبها ابو ماضي، لقد انعكس جمالها في جمال نفسه، وصفاء سمائها في الحانه، وانعكست عذوبة ماءها في عذوبة الفاظه، ودقة نواميسها في دقة ملاحظاته. وكان الطبيعة شعرت بصدق حبه لها،فباحت له باسرار سحرها، واباحت له صوغها شعرا. وقد فجعت عيناه ذات يوم برؤية زهرة مسجونة في إناء في احد الصالونات الفخمة، فتألم لدى رؤيتها أشد الألم، لأنه لم يكن باستطاعته ان يخلصها من سجنها وعذابها فأنشد: ” لعمرك ما حزني لمال فقدته/ ولا خان عهدي في الحياة حبيب/ لكنني ابكي واندب زهرة/ جناها ولوع بالزهور لعوب/ رَآها يَحُلُّ الفَجرُ عَقدَ جُفونِها/ ويلقي عليها تبره فيذوب”.

خصائصه الشعرية

اذا أردنا ان نتتبع خصائص شعر أبي ماضي منذ ارتبط بالرابطة القلمية، فاننا سنجد الكثير من مميزاتها عنده، فهناك الشعر التأملي الروحي الذي يغلب على مقطوعاته في ديوانه “الجداول” من مثل: الناسك، نار القرى، الزمان وغيرها. واصبحت المادة لا تعنيه بكثير او قليل، فهو شاعر يعيش بالروح ويهتم بالنفس، يقول: “ليس الحظوظ من الجسوم وشكلها السر كل السر في الارواح “.

تقسم مسيرة ابي ماضي الشعرية الى مرحلتين: مرحلة ما قبل الهجرة، وفيها لم يكن لشعره خصائص مميزة، والمرحلة الثانية ما بعد الهجرة وفيها اظهر شاعريته الناضجة فكريا، والمتحررة اسلوبا، واهم ما نلاحظه في شعره هذا الاسلوب الحواري اذ نراه يخاطب اناسا يعرفهم ويأخذ منهم ويأخذون منه، كل ذلك في شعر متماسك موسيقي عذب ذي هدف.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *