الدَّور التنويريّ لبيروت في عصر النهضة العربيّة

Views: 16

د. كرم الحلو

لو كان للتاريخ أن يرى إلى بيروت في مِحنتها الرّاهنة، يمشي بين خرائبها، يصغي إلى أنين جَرْحاها وعويل أيتامها، لأطرقَ حُزناً وأسىً. فبيروت الجريحة اضطَّلعت بدَورٍ أساسيّ ومركزيّ في نهضة العرب الحديثة، وطالما كانت طليعةَ الأفكار القوميّة والوطنيّة والعلمانيّة والاشتراكيّة، ومُنطلقَ الحركات التجديديّة في اللّغة والأدب والفكر، ورائدة النهضة العِلميّة والانفتاح على الآخر واحترام حقوق المرأة والإنسان.

تجلّى هذا الدَّور التنويري في عصر النهضة العربيّة. ففي ظلّ مستوىً فكريّ مُنخفض جدّاً، كما وصفه جورج أنطونيوس في كِتابه “يقظة العرب”، حيث الكُتب نادرة جدّاً، وحيث لا وجود للصحف والمجلّات، وفيما بلغَ فساد اللّغة الفصحى حدّاً عالياً، وامَّحى ما كان للثقافة العربيّة العظيمة من أثرٍ روحيّ، اتّجه التنويريّون في بيروت إلى التراث العربيّ الإسلاميّ وإلى اللّغة العربيّة بوصفها حاملة هذا التراث، من أجل حثّ العرب على النهوض والتقدُّم ودفْع الأمّة العربيّة إلى اليقظة واستعادة أمجادها الغابرة. وكان هؤلاء بمَنزلة الطليعة المُباشرة للتغيير، لأنّهم شكَّلوا النّخبة الأقدر على الاستجابة للأفكار والقيَم الجديدة، وتكييفها وفقاً لحاجاتهم وواقعهم، على ما رأى هشام شرابي في “المثقّفون العرب والغرب في عصر النهضة”. هكذا أصبحت اللّغة العربيّة والأدب والتاريخ جوهر التراث الثقافي العربي، وهذا ما حدَّد للقوميّة العربيّة طريقها وأعطاها زخماً قبل الحرب العالَميّة الأولى، وفقاً لمجيد خدّوري في “الاتّجاهات السياسيّة في العالَم العربي”.

من هنا كانت دعوة الشيخ ناصيف اليازجي إلى إحياء الأدب العربي القديم بوصفه السبيل الوحيد للنجاة، وقد أصبح أحد أبنائه إبراهيم، أوّل مَن نادى بالتحرُّر القومي للعرب. أمّا المُعلّم بطرس البستاني، وهو “أوّل كاتِب تكلَّم باعتزاز عن دمه العربي” كما رأى ألبرت حوراني في “الفكر العربي في عصر النهضة”، فقد عمدَ إلى تأليف مُعجمٍ للّغة العربيّة “محيط المحيط” ومُختصرٍ له “قطر المحيط” انطلاقاً من أنّ اللّغة العربيّة هي التي تَجمع العرب وتشدّهم إلى ماضيهم التليد. وفي ظلّ هذا الانبعاث التاريخي للأفكار العروبيّة والإسلاميّة الذي أحياه التنويريّون النهضويّون من بيروت في مُواجَهة النَّزعة العرقيّة لدى الأتراك واتّجاههم إلى تتريك اللّسان العربي، يبرز جرجي زيدان الرائد النهضوي الذي هاجرَ من بيروت إلى القاهرة كواحدٍ من أكثر الذين عملوا على إحياء وعي العرب لماضيهم، وقد عمد إلى تأليف كِتابه “تاريخ التمدُّن الإسلامي” ليُثبت قابليّة العرب والمُسلمين للحداثة التنويريّة ويؤكِّد في الوقت نفسه أنّ التمدُّن الإسلامي جزء أساسيّ ومكوِّن أصيل في تاريخ الحداثة الإنسانيّة.

وفي بيروت تأسّست الجمعيّات الأدبيّة التنويريّة وكانت أولاها “جمعيّة الآداب والعلوم” (1847)، وكان من أعضائها اليازجي والبستاني وقد بلغ أعضاؤها خمسين عضواً، وكانت الأولى من نوعها في بلاد الشام، وكان لها دَور مُهمّ في نموّ الحركة القوميّة العربيّة، وتبعتها “الجمعيّة الشرقيّة” (1850)، ثمّ “الجمعيّة العِلميّة السوريّة” (1857) التي بلغ أعضاؤها 150 عضواً من مُختلف العقائد. وقد استطاعت هذه الجمعيّة في دَورها الثاني 1868 أن تَجمع بين العقائد المُتناحِرة وتوحّدها في رابطة إيجابيّة فعّالة، تعمل لتحقيق أهداف مُشترَكة. وفي هذه الجمعيّة ألقيت خُطب ذات منحىً جديد في فكرنا النهضوي. وفي اجتماعٍ سرّي لنفرٍ من أعضائها تلا ابراهيم اليازجي قصيدته البائيّة الشهيرة: “تنبّهوا واستفيقوا أيّها العرب”. وعلى غرار هذه الجمعيّات تأسَّست في بيروت جمعيّات أخرى كثيرة.

بيروت والمبادىء التأسيسيّة للتمدُّن الحديث

لم يَقِف تنويريّو بيروت عند هذا الحدّ بل مدّوا نشاطهم التنويري إلى الصحافة والتعليم حيث أَنشأ المُعلِّم بطرس البستاني جريدته “نفير سورية” (1860)، أوّل جريدة عربيّة غير رسميّة بين قرّاء العربيّة، وفق جرجي زيدان في “تراجم مَشاهير الشرق” و”أوّل وثيقة عِلميّة للفكر القومي في تاريخ الشرق الأدنى الحديث” في رأي ناصيف نصّار.

وفي هذه الجريدة طَرَحَ البستاني المبادىء التأسيسيّة المفتاحيّة للتمدُّن الحديث، ومنها “الوطنيّة، التمدُّن، الإلفة المدنيّة، فصْل السياسي عن الديني” بما يجعل منها محطّة مركزيّة في فكرنا السياسي والاجتماعي الحديث، تستحقّ التوقُّف والاستعادة في زمن الأصوليّات الزاحفة من جديد، وعَودة العصبيّات ما قبل الوطنيّة وما قبل المدنيّة.

من هذا المنطلق الوطني العلماني بالذّات أَسَّس المُعلّم بطرس البستاني عام 1863 المدرسة الوطنيّة في بيروت، في وقتٍ كان فيه الشرق العربي يغطّ في ظلام رهيب، كما وَصفه المُستشرِق الروسي ز.و. ليفين، حيث القراءة والكتابة ظاهرة شبه معدومة، وحيث من الصعب الحصول على أيّ مُصنّفات في ما خلا المُصنّفات الدينيّة.

وَضَعَ البستاني للمدرسة الوطنيّة مَقاصد كان أوّلها قبول التلامذة من كلّ الطوائف من دون التفات إلى مُعتقداتهم الخصوصيّة، وثانيها تنشيط تعليم اللّغة العربيّة، وثالثها تنمية محبّة الوطن في قلوب تلامذتها، ورابعها المُحافَظة على المشرب الوطني عند هؤلاء، بحيث يكون طلّاب العِلم فيها، مع اختلاف المذاهب، أخوة وطنيّين تجمعهم العصبة الوطنيّة. وأصدر البستاني، في السياق النهضوي ذاته، مجلّة أدبيّة عِلميّة عام 1870 هي مجلّة “الجنان” وأنجز الجزء الأكبر من “دائرة المعارف” التي هي أوّل موسوعة عربيّة أوروبيّة الطراز.

وبارتقاء حركة التنوير التي عرفتها بيروت في عصر النهضة العربيّة، أسَّس التنويريّون النهضويّون المَطابع والكلّيات، ومنها “الكليّة السوريّة الإنجيليّة” (1866)، وجامعة القدّيس يوسف (1875). ومن “الكليّة السوريّة الإنجيليّة” في بيروت انطلقت أولى الدعوات للاعتراف بالآخر في العالَم العربي إذ أكَّد مؤسّسها في خطبة افتتاحها أنّ “هذه الكليّة هي لكلّ الأحوال ولكلّ أنواع البشر دون أيّ اعتبار للَّون أو القوميّة أو الجنس أو الدّين، فيُمكن لأيّ رجل أبيض أو أسود أو أصفر، مسيحيّاً كان أو يهوديّاً أو مُسلماً أو وثنيّاً أن يدخل الكليّة ويتمتّع بكلّ ما تُسديه من نَفْع”.

بيروت والاعتراف بدَور المرأة

ومن بيروت بالذّات انطلق الاعتراف بدَور المرأة وحقوقها الإنسانيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، فقد تأسَّست في بيروت مَدارس لتعليم البنات، وإنْ بأعدادٍ محدودة جدّاً بين عامَي 1862 و1863، بينما تأخَّر إنشاء أوّل مدرسة رسميّة لتعليم البنات في مصر إلى العام 1873. وفي هذا الإطار حضَّ المُعلِّم بطرس البستاني في “خطاب في تعليم النساء” عام 1849 على تعليم المرأة وإشراكها في بناء النهضة، إذ إنّ “المرأة لم تخلق لكي تكون في العالَم بمَنزلة صَنَم يُعبد أو أداة زينة تُحفَظ في البيت لأجل الفرجة… إذ من المعلوم الذي لا يشوبه ريب أنّه لا يُمكن وجود العِلم في عامّة الرجال من دون وجوده في النساء… فالمرأة يجب أن تكون عضواً يليق بجماعة مُتمدّنة”.

وقد تَرجَم البستاني رؤيته المُتقدّمة إلى المرأة ودَورها بأن فَتَحَ أمامها صفحات مجلّته “الجنان”، فكتبَت مريانا مرّاش الحلبي في السنة الأولى لصدورها، في آب (أغسطس) 1870 أولى مقالات المرأة في الصحافة العربيّة.

هذه الإنجازات الكبرى تؤكِّد مَكانة بيروت التأسيسيّة في حركة النهضة العربيّة. فمِن بيروت انطلق جرجي زيدان ليؤسِّس في مصر المجلّة الطليعيّة “الهلال”. ومن بيروت انطلق شبلي الشميل إلى القاهرة ليُعلن تبنّيه الاشتراكيّة والداروينيّة، ومن بيروت انطلقَ فرح أنطون إلى مصر ليؤسِّس مجلّته “الجامعة” ويُدافع عن الطرْح العلماني وفصْل الدّين عن السياسة، ومن بيروت انطلقت الرائدة روز أنطون إلى الإسكندريّة والقاهرة لتُدافِع عن دَور المرأة الاجتماعي وحقوقها. ومن بيروت انطلقَ جبران خليل جبران إلى نيويورك ليَطرح فكره الكَوني والإنساني. (brandxhuaraches) فهل تستحقّ بيروت هذه ما كابدته وتُكابده راهناً من عذابٍ وقهرٍ وخرابٍ ومآسٍ؟

***

(*) كاتب من لبنان

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *