بطرس البستاني الذي كان سابقاً لعصره

Views: 276

سليمان بختي*

وَحدهُ المُعلِّم بطرس البستاني (1819 – 1883) بين أعلام النهضة وأركانها يليق به لقب المعلِّم استحقاقاً، لأنّه كَتَبَ وعَمِلَ ونفَّذَ وكان مثقّفاً عضويّاً قبل أن يُخبرنا أنطونيو غرامشي (1891 – 1937) عن المثقَّف العضويّ، وعن تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، وعَمِلَ كلّ ذلك بروح الحبّ، بروح الرسالة، بروح “حبّ الوطن من الإيمان”.

هو نِتاج بلادنا الصافي لم يذهب إلى مصر، ولا أميركا، ولا أوروبا، بل طلعَ مثل سنديانة في “الدبيّة” قريته، وعرَّش في لبنان والعالَم العربي، وعثرَ على الحريّة ليس في الضفاف، وليس في الارتحال إليها، بل بين قضبان سجنها في اللّغة الأمّ، في النَّبع، حيث البداية والنهاية.

أديبٌ وموسوعيٌّ ومُربٍّ ومؤرِّخٌ وصحافيٌّ ومُترجِمٌ. كَتَبَ في باب الأدب، وباب العلوم التطبيقيّة، والطبيعة، وباب اللّغة، وباب الموسوعات، وباب الصحافة، وباب التاريخ. وقد طبَّقَ كلَّ ما بشَّرَ به مُستخدِماً وسائطه العمليّة لتحقيق ما سمّاه اكتساب الآداب وهي: الجرائد ودُور الكُتب وتعليم النساء وأربع نشرات: “نفير سوريا” و”الجنان” و”الجنّة” و”الجنينة“، ومطبعة وكِتاب دائرة معارف، وأسَّس مدرسة وطنيّة مُختلَطة من كلّ الأطياف، تلامذة وأساتذة.

أسمعه يقول عن الجرائد في حوارٍ متخيَّل مع عصام محفوظ، في كتابه “حوار مع روّاد النهضة العربيّة“: إنّ الجرائد لكي تكون مفيدة وذات قوّة مؤثِّرة في أُمّة، يجب أن يكون لها كلّ ما تقتضيه أحوال الأُمّة في الحريّة. ورأينا في نموّ الجرائد وانحطاطها في كلّ البلدان، كان دائماً يُحسب كم لها من الحريّة وما عليها من القيود.

هذا الكلام الذي قاله المعلِّم بطرس البستاني قبل قرنٍ ونصف القرن، لا يزال يصلح اليوم وغداً وبعد غد. هذا الرجل كان سابقاً لعصره على ما يقول جبران خليل جبران (1883 – 1931). وهكذا أيضاً عَنْوَنَ د. يوسف قزما الخوري كتابه عنه الصادر في العام 1995 ويصرّ أنّ هذه الصفة ليست مُجانبة للحقيقة، بل هي آثار تدلّ على صاحبها. وهكذا وصفه أيضاً الدكتور كرنيليّوس فان دايك (1818 – 1895) أحد الآباء المؤسّسين للجامعة الأميركيّة في بيروت، إذ يقول “إنّه السابق إلى كلّ مأثرة علميّة وعالِمُنا وغارِسُ أفنان المعرفة في وطننا”.

امتلكَ صاحبُ “المحيط” وعياً ثاقباً بأهميّة العِلم والمعرفة في بناء الإنسان والوطن، وبأنّ الأُمّة لا يُمكن أن تتقدّم إلّا بالتعليم، وأنّ إصلاح التعليم هو النّور الذي يضيء في أذهان الناس. وفي كلّ ما سعى، كان مصدره ومرتجاه إفادة الناس والبلاد. تقدَّم واثقاً نحو نَشْرِ غروس النهضة: مدرسة هنا، قاموس هناك، دائرة معارف هنالك.. ثمّ صحف، نشرات، مؤلَّفات، ترجمات. علاوة على تعليم النساء، ونهوض إلى الأعلى والأسمى والأعمق.

كان المعلّم بطرس البستاني وعصر النهضة، بمُجمله، أحنّ على لبنان من حكّامه، ومن أهله، ومن أصحاب الحلّ والربط فيه وخبراء الفساد وأصحاب الوصايات والإرادات. وقد تقدّم مع رفاقه روّاد النّهضة، وأقاموا سُبل اللّقاء، ومساحات التلاقي… وتميّزوا جميعاً بأربع سِمات:

  • شغف هائل بالمعرفة
  • نزاهة فكريّة وأخلاقيّة ووطنيّة
  • التزام عميق بقضيّة المُجتمع وتقدّمه وإصلاحه
  • يقين راسخ بأنّ الأفضل والأمثل هو أمامنا، وليس وراءنا

وسيظلّ يجذبنا إلى المعلِّم بطرس البستاني وروّاد النّهضة كذلك، موقفُهم من التقاليد والتاريخ والماضي والمستقبل، وأيضاً حريّة الرأي والجرأة على الاجتهاد، والموقف المستقلّ. وإذا أردنا التقدُّم حقّاً، فنحن بحاجة إلى استعادة روح رجال النهضة ونسائها، وما تميّزوا به من صفات الإرادة وبزوغ الأمل وتحقيق الأفضل. أراد بطرس البستاني في حُلم النّهضة وفي مشروعه، أن يبني الإنسان، وحين يتحدّث عن مفهومه للوطن، فإنّه يتحدّث عن الإنسان، لأنّ السرّ بالسكّان لا بالمنزل، ولا بالطريق.

وربط الإنسان والوطن بالمعرفة، لأنّ المعرفة هي جوهر الحياة.. اسمعوه يناشد أبناء الوطن الوعي بأحوالهم، يقول: “فيا أبناء الوطن! هيّا استفيقوا، انتبهوا. استيقظوا، شمِّروا عن ساعد العزم، الآداب واقفة من كلّ جهة على أبوابكم، تقرع طالبة الدخول، فانبذوا بحبّكم تعصّباتكم وتحزّباتكم وأغراضكم النفسيّة، ومدّوا لها يداً واحدة لمصافحتها، وافتحوا الأبواب لهذا الصديق القديم الآتي إليكم بعد غربةٍ مستطيلة ورحّبوا به واقبلوه بكلّ فرح وحبور، فيملأ بلادكم راحة ورفاهيّة ويكسوها رونقاً وفخراً”.

المعرفة هنا في حضورها وفعاليّتها ودَورها أو هويّتها تنتمي إلى مشروع النهضة كطريقٍ إلى حياةٍ أفضل، ومستقبلٍ أفضل، ومكانٍ أفضل. هكذا وَضَعَ المعلّم بطرس البستاني دائماً نصب عينَيْه ترقية أسباب تقدُّم الوطن. حلم نهضة الوطن. وأينما وَجَدَ خَلَلاً أو تعثُّراً أو غياباً صوَّب جهدَه وأفكارَه لتغييره وإصلاحه أو لتعديله. يقول في دعوته لتعليم النساء: “الذين يصرّون على إبقاء المرأة في حالة الجهل والعبوديّة إنّما يُنزلون المرأة دون منزلتها المعيَّنة من باري الكون ويختلسون منها تلك الحقوق التي أقامها الله عزّ وجلّ… فالمرأة لم تُخلق لكي تكون في العالَم بمنزلة صنم أو أداة زينة تُحفظ في البيت، وإنّما يجب أن تكون عضواً يليق بجماعةٍ متمدِّنة”، يريدها إمرأة متمكِّنة متمدِّنة وأُمّاً مُربّية وراقية.

وكم شدَّد البستاني على التمدُّن وأسبابه وضرورته في نشرته “نفير سوريا” وغيرها. أراد للإنسان في بلادنا التمدُّن. المُجتمع المُتمدِّن. السلوك المتمدِّن. وتصوّره لمفهوم التمدُّن يتّصل بالتهذيب الداخلي والخارجي والتزيُّن بالمعارف والفضائل. ولتحقيق التمدُّن لا بدّ من وجود حاجز بين الرياسة أي السلطة الروحيّة والسياسيّة أي السلطة المدنيّة لأنّ المَزج بين السلطتَيْن من شأنه أن يوقِعَ خَلَلاً بيِّناً وضَرراً واضحاً بين الأحكام والأديان. حتّى أنّنا لا نبالغ إذا قلنا إنّه يستحيل معه وجود التمدُّن وحياته ونموّه.

وظلّ بطرس البستاني المُحبّ للوطن وصاحب شعار “حبّ الوطن من الإيمان” الأجرأ تعبيراً وإخلاصاً لمبادئه، وأقام في زمانه ومكانه حاملاً الشراع المفتوح وزمان حلم النّهضة والفردوس المفقود والضوء الذي جذوته من العقل والقلب. حتّى وصفه هنري جسيب بأنّه “أكثر الرجال عِلماً ونشاطاً ونجاحاً ونفوذاً في سوريا الحديثة”. وناداه كرنيليوس فاندايك باستمرار: “يا معلّمي”. ويروي فاندايك أنّه زار البستاني غير مرّة في المطبعة، فوجده جالساً قرب دواليب الطبع التي تُحدث ضجيجاً هائلاً، فسأله: “ألا يزعجك هذا الضجيج؟” أجاب البستاني: إنّني أسمع كلّما وقعت دواليب الطبع على الورق عبارة: “يحيا الوطن.. يحيا الوطن”.

لماذا غُيّب البستاني طويلاً عن الذاكرة والمناهج التربويّة والتعليميّة ونَدرت آثاره؟

يروي الصديق المفكّر د. ناصيف نصّار أنّه عندما وَجَدَ أعداد “نفير سورية” في مكتبة الجامعة الأميركيّة في بيروت، أزاح عنها ملّيمتراً من الغبار حتّى تَظهر، وهذه في رأيي صورة واقعيّة عن كيف تَدفن الشعوبُ المتخلّفة كنوزَها في الغبار، وتذهب إلى الغبار. أم ترانا لا نعرف مدى وسعة ما عملوا إلّا عندما يتحوّلون إلى أثر، واليوم مَن ينتبه للأَثر، ويُحافِظ عليه ويصونه؟!!

نسينا فضله، وغيبّنا ذكراه، ولم نستلهم وعيه. فهل مثّل البستاني نقيضاً لكلّ ما هو سائد في حياتنا اليوم؟

ولكنّ إعادة الاعتبار ضروريّة، وخصوصاً لناحية نشْرِ أعماله وإدخال آثاره في المناهج التربويّة والتعليميّة ومناقشة أفكاره في مؤتمراتٍ أكاديميّة وغيرها.

والسؤال الثاني: لماذا فشل مشروع البستاني الضخم ومغامرته الحقيقيّة، لماذا فشل إصلاح النهضة؟ ولماذا طارَ الحُلم وبقي الإثم؟ لعلّنا نسأل أيّ وطن، وأيّ مجتمع رائع ودور حضاري كبير لو نجح الإصلاح؟”

لو نجح إصلاح النهضة لَما تمّ الاحتلال، يقول المفكِّر المغربي د. عبد الله العروي. وأضيف لَما تشرذمنا، ولَما تعصّبنا وتطرّفنا وتفرّقنا شيَعاً. لو نجحَ إصلاح النهضة لكانت قيمة الإنسان والحياة في بلادنا أعلى وأغلى؛ لكن إذا كان ثمّة فشل أم إثم فنحن المسؤولون عنه، لأنّه لم يكُن هنالك طريق غير تلك التي وضعها البستاني وروّاد النهضة، ولم نَعبرها. إنّ فشل النهضة لم يؤدِّ إلى ضربِ حركة الإصلاح والمدنيّة فقط، بل عزَّز سلطة الأبويّة والتقليد والقبليّة، وأدّى إلى تراجُع حركة التحرّر وعودة العصبيّات الدينيّة والقبليّة والإثنيّة وانحسار المدّ القومي، وضعف الوطنيّة، وانحدار التربية والتعليم، وتقهّقر القيَم الأخلاقيّة.

إنّ حلم النهضة (حلم المعلّم بطرس البستاني) يجب ألّا يتحوّل بين أيدينا إلى إثمٍ وحسرةٍ وخجل. وإذا لم نَسْتَعِد العقل التنويريّ المخضّب بالحبّ والرسالة التي قام عليها فكر النهضة، فلن نقدر على تجديد وعينا التاريخيّ واستعادة الرؤية النهضويّة التحرّرية لبلادنا. سنظلّ نحتاج إلى رسالة البستاني للاهتداء بها حدثاً مستمرّاً في حياتنا، ورهاناً تاريخيّاً، وفعلَ إيمانٍ بالإنسان والوطن.

تحيّة إلى المعلّم بطرس البستاني في الذكرى الـ 140 لوفاته. هو الذي فَعَلَ كلّ ما فعل لأجل بلده وأمّته. كان على الدوام فَيضاً غزيراً وعقلاً دفّاقاً بالمعرفة وجوهرها المتجدّد؛ وكان سؤاله الدائم: كم يفيد هذا العمل وطني ومجتمعي وبلادي؟ لذلك عاش للجهاد مضاعفاً وارتقى من بُعدٍ مكانيّ إلى بُعدٍ رمزيّ يُختصَر بنهضة الوطن وأهله.

***

*كاتب من لبنان

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *