تفاصيل مطويّة ومثيرة عن معركة استقلال لبنان

Views: 982

إعداد جميل الدويهي

لم يكشف المؤرّخون اللبنانيّون عن معلومات دقيقة وكافية بشأن معركة استقلال لبنان عن سلطات الانتداب الفرنسيّ، حيث أنّ تأريخ هذه المعركة يفتقر إلى التفصيل ويتناول العموميّات أكثر من الجزئيّات. ولذلك فإنّ أغلب اللبنانيّين لا يعرفون الحقيقة الكاملة، التي من شأنها أن تكمل الكتابة التاريخيّة الصحيحة لتلك الحقبة من الزمن. كما أنّ اللبنانيّين في مجملهم يعتقدون أنّ شهداء لبنان سقطوا في الحرب العالميّة الأولى على يديّ الحاكم العثمانيّ جمال باشا السفّاح، أمّا الشهداء الذين سقطوا على أيدي المنتدب الفرنسيّ، فقد باتوا مطويّين في صفحات النسيان.

بدأت معركة الاستقلال تحديداً في ليل 10-11 من تشرين الثاني، عندما استيقظ الشيخ بشارة الخوري، على جلبة في فناء منزله، ولمّا فتح الباب ليرى ماذا يحدث فوجئ بعدد من الجنود الفرنسيّين والأفارقة يقتحمون منزله، ويطلبون منه تسليم نفسه في الحال، فحاول إقفال الباب من الداخل، ليقينه أنّ هؤلاء الجنود قدِموا لاغتياله بسبب الخلاف بينه وبين المندوب الفرنسيّ، وبعد بضع دقائق دخل من الباب الجانبيّ ضابط فرنسي مع ميشال بشارة الخوري، وقال: لا نريد بكم شرّاً، ولكنّني أحمل أمراً من المندوب السامي باعتقالكم. وكان جواب الشيخ بشارة الخوري: أنا رئيس دولة مستقلّة ولا يحقّ للمندوب السامي أن يخاطبني.

ويبدو من كلام الرئيس بشارة الخوري أنَّ فكرة الاستقلال عن السلطات الفرنسيّة قد اكتملت في نفوس اللبنانيّين، وأنّ الكيل قد طفح من تصرّفات المسؤولين الفرنسيّين الذين انقلبوا من صفة منتدبين إلى صفة محتلّين. لكنّ هذه الثقة التي ظهرت في كلام الرئيس اللبنانيّ لم تكن كافية لإقناع الضابط الفرنسيّ بصلابة الموقف اللبنانيّ، فطلب من رئيس الدولة ارتداء ملابسه والتوجّه إلى سيّارة عسكريّة لنقله إلى السجن.

ويقول الرئيس اللبنانيّ في مذكّراته: “ودّعتُ قرينتي وأسرتي وألقيت نظرة على غرفة ابنتي هوغيت ورأيتها مظلمة، فآثرت ألاّ أوقظها، وكنت أجهل أن سريرها محاط بالجنود السود وهم شاهرو السلاح، وأنّهم أيقظوها من نومها الهانئ ومزّقوا “ناموسيّتها بحرابهم…”

ونذكر هنا أنّ الجنود الفرنسيّين اعتدوا بالضرب على نجل الرئيس خليل، فأصابوه بجرح بليغ في رأسه.

وعلى الطريق إلى سجن قلعة راشيّا كانت سيّارة أخرى يقودها جنديّ فرنسيّ تقلّ رئيس الحكومة رياض الصلح إلى القلعة نفسها. وكان طربوش رياض الصلح يبدو من السيّارة المكشوفة. وكانت هناك أيضاً سيّارتان وراء السيّارة التي تقلّ الرئيس اللبنانيّ، فيهما رجلان آخران من رجالات الاستقلال: سليم تقلا، وكميل نمر شمعون.

ومن المستغرب أن تظهر السلطات الفرنسيَّة في تلك الفترة بالذات هذه المبالغة في استخدام القوّة العسكريّة ضدَّ رجال الاستقلال الذين لم يكونوا محميِّين ولا يحملون أسلحة. وما دخول الجنود إلى منزل الرئيس اللبنانيّ من غير مقاومة إلاّ دليل على صحّة ما نقول. والتفسير الوحيد للتصرّف الفرنسيّ هو الإيحاء بالقبضة الحديديّة اليائسة في وجه فكرة الاستقلال التي لم يعد ممكناً وأدها إلاّ بالتهويل الفارغ. وهذا الغباء في الممارسة كانت له ردّة فعل عكسيّة على الشارع اللبنانيّ، فقد تحوّل الرئيس بشارة الخوري من رئيس للبلاد إلى رمز للاستقلال وزعيم وطنيّ كبير.

وفي اليوم التالي وصل إلى السجن أيضاً عبد الحميد كرامي وعادل عسيران، فأصبح عدد النزلاء من قادة الاستقلال ستّة. وقد نجا من الأسر حبيب أبو شهلا والمير مجيد أرسلان وصبري حمادة لعدم تواجدهم في بيوتهم. وقام هؤلاء الثلاثة بتشكيل “حكومة لبنان الحرّ”، برئاسة حبيب أبي شهلا، واتّخذوا من بشامون مقرّاً لهذه الحكومة. وجمّع الأمير مجيد من حوله العديد من الرجال المسلحين لمواجهة القوات الفرنسيّة. وعقد النوّاب اللبنانيون جلسة سرّيّة في منزل الزعيم صائب سلام، تمّ فيها رسم وتوقيع العلم اللبناني الجديد. وكان العلم اللبنانيّ الذي وضعته فرنسا هو العلم الفرنسيّ نفسه بألوانه الأحمر والأبيض والأزرق وفي وسطهشجرة الأرز. أمّا العلم الحاليّ فقد رُسم بقلم الرصاص على جناح السرعة، ولُوِّن بأقلام مدرسيّة على ورقة من دفتر النائب محمّد الفضل. وتمّ إنجاز العلم على أيدي صائب سلام، ﺳﻌدي اﻟﻣﻧﻼ، ﺻﺑري ﺣﻣﺎدﻩ، ﻫﻧري ﻓرﻋون، ﻣﺎرون ﻛﻧﻌﺎن، رﺷﯾد ﺑﯾﺿون، وﻣﺣﻣد الفضل. وقامت بخياطة العلم الجديد الشيخة جنفييف الجميّل والسيّدة تميمه مردم بك على قماشة من ستارة منزليّة، وتوجّهتا به إلى دير مار منصور في عجلتون، ومن هناك إلى بيت حبيب باخوس المدوّر.

وعن قصّة رفع العلم اللبنانيّ أمام مجلس النوّاب يروي قائد الدرك الأسبق العقيد نخله مغبغب ما يلي: “كان هناك اجتماع في مجلس النوّاب وأحاطت قوى الأمن العامّ والجيش الفرنسيّ بالبرلمان في ساحة النجمة. وكان النوّاب والوزراء مضطرّين إلى الدخول من باب يعلوه العلم الفرنسيّ. حاول نعيم مغبغب التدخُّل لدى شخصيّات نيابيّة أو حكوميّة لإزالة العلم الفرنسيّ فلم يلق آذاناً صاغية، فاضطرّ للتسلـّق فوق البوّابة الحديد، وأزال العلم الفرنسيّ وغرس مكانه العلم اللبنانيّ ثم انسحب إلى الساحة. في هذه الأثناء، رأى جنديّاً من القوات المشتركة غير اللبنانيّة، يحاول أن يعيد العلم الفرنسيّ إلى مكانه… وقبل أن يزيل الجنديّ الأجنبيّ العلم اللبنانيّ ليضع مكانه علم الدولة المنتدبة أطلق نعيم الرصاص عليه وأرداه، وعلى الأثر انهال الرصاص عليه وأصيب بثلاث رصاصات، كما انهال الرصاص على كلّ الموجودين في ساحة النجمة ما أدّى الى وقوع ضحايا عدّة من بينهم ستّة شهداء من الدرك بقيادة المقدّم نصري شمعون. وعندما خلت الساحة، صعد في السيارة وتوجّه نحو الجامعة الأميركيّة لمعالجة جراحه، فجاءه إيعاز بأن يبتعد عن بيروت لأنّ النوايا سيئة. واضطر لمغادرة بيروت إلى عين زحلتا، الى أن اعتقلته قوّات الانتداب ووضع في سجن القلعة، ومن ثمّ أحيل إلى المحكمة العسكريّة. وعلى الرغم من إتقانه اللغة الفرنسيّة، رفض إلاّ أن يرتدي الطربوش ويتكلـّم اللغة العربيّة، فاضطرّت المحكمة العسكريّة التي كانت بعهدة ضبّاط فرنسيّين الى إحضار مترجم.”

وقد حاول الفرنسيّون مراراً إنزال العلم اللبنانيّ وإعادة العلم الفرنسيّ إلى ساحة النجمة، وفي كلّ مرّة كانت محاولاتهم تبوء بالفشل. وكانت المحاولة الأخيرة عندما زحف مناصرو النائب عن زغرتا يوسف كرم إلى بيروت. وكان يوسف كرم قد فاز في الانتخابات الفرعية لمقعد زغرتا النيابيّ، إلاّ أنّ أنصار السياسة الفرنسيّة الذين كانوا يحنّون إلى عودة سيطرة فرنسا على لبنان، خطّطوا لأن يستغلّوا المناسبة، فيكون يوم حضور يوسف كرم إلى المجلس فرصة للاستيلاء على المجلس، وتنفيذاً للخطّة، وكانت تنضمّ على طول الطريق إلى موكب كرم مواكب أخرى، وصولاً إلى حشد ضخم ينتظرها في محلّة الجمّيزة في بيروت. وكانت الخطّة تقضي أيضاً بأن يقوم الجنود الفرنسيّون الذين كانوا ما زالوا متمركزين في بناية إدارة الهاتف بمساعدة الممقتحمين. ولم تكن الحكومة اللبنانيّة تملك القوى الكافية لوقف هذا الزحف، فاكتفت بلفيف من الدرك والشرطة قرب مجلس النواب، وكانت قوّته الرئيسة مؤلـّفة من درك سيّار بعلبك، وجلّهم من البعلبكيّين الأشدّاء.

وما إن انتشر خبر اعتقال زعماء الاستقلال في لبنان حتّى عمَّ الغضب، وانفجرت الحناجر تصيح بخروج الفرنسيّين من لبنان. وفي ساحة الشهداء تصدَّى المواطنون لسيّارات الجيب الفرنسيّة، وأمطروها بالحجارة، وأحرقوا بعضها، ولم يتمكّن الجنود الفرنسيّون من التسوّق بسبب الغضب الشعبيّ العارم. ويقول الرئيس بشارة الخوري في مذكّراته: “الحمد لله، إنّ لبنان حيّ لا يموت… ما إن انتشر خبر الإعتقال في بيروت وأنحاء لبنان حتى خفّ الأهالي إلى ساحات المدينة العموميّة وشوارعها الرئيسيّة وقُلبت السيّارات العسكريّة وأُضرمت فيها النار، وقـَصدَ قصر الرئاسة ألوف المتظاهرين إحتجاجاً على اعتقالنا…”

وتمكّن الفرنسيّون في تلك اللحظات العصيبة من تسليم الحكم إلى إميل إدّه، في محاولة يائسة لشقّ الصفّ اللبنانيّ، ودفن الثورة الاستقلاليّة في مهدها. وقد ورد في مذكّرات الشيخ بشارة الخوري أنّ إدّه جاء إلى القصر الجمهوريّ محروساً ببنادق الجنود السنغاليّين.

الشارع اللبنانيّ كان يغلي، ويروي المطران جورج خضر في مذكّراته “أنّ ما قام به الفرنسيّون شكّل صدمة كبيرة للبنانيّين”. كما يروي نقيب الصحافة الأسبق زهير عسيران: “بينما كانت بيروت مضربة تعمّها التظاهرات وعلى رأسها سامي الصلح على صهوة حصانه، منعت السلطات الفرنسية الصحف من الصدور كما منعت توزيع المنشورات. خفنا أن تضمحلّ الثورة، وكنّا بحاجة إلى مطبوعة تغطّي أخبارها. أصدرنا أنا ونعيم مغبغب وبعض الأصدقاء جريدة “علامة الإستفهام”. بدأت السلطة الفرنسيّة تلاحق المطابع وأعلنت أنها ستعدم أي صاحب مطبعة يطبع “علامة الاستفهام”. صرنا نطبعها في مطبعة “العرفان” في صيدا بعيداً عن رقابة الفرنسيّين. لعبت هذه الجريدة دوراً كبيراً، وبعد انتهاء الثورة صارت تصدر باسم “الإقدام”. جريدة “البشير” التابعة للجامعة لليسوعيّة وبالتالي للجيش الفرنسي وحدها كان مسموحاً لها أن تصدر، فقرّرنا اسكاتها بقذف قنبلة عليها… فضربنا الجريدة بقذيفة وتوقـّفت عن الصدور.”

ويتابع زهير عسيران فيقول: “في جنح الظلام كنّا نوزّع المنشورات ونرمي القنابل. كنت أنقل السلاح من بشامون إلى بيروت. وفي أحد الأيام وبينما كنت عائداً من بشامون إلى بيروت، أوقفني حاجز في منطقة فرن الشبّاك. سيّارتي كانت مليئة بالأسلحة: ديناميت وبارود ومفرقعات. قلت للعسكريّ: معي سلاح أحمله للدّفاع عن شرفك وشرفي، عن وطنك ووطني، قال لي: قل هذا لرؤسائنا وليس لنا، لكنّه أقفل الباب وقال: الله معك”. يظهر من كلام عسيران أنّ الجنديّ اللبنانيّ الذي كان يعمل مع الفرنسيّين قد غضّ النظر عن نقل السلاح إلى الثوّار، وكان هذا الجنديّ المجهول بمثابة مناضل وطنيّ من الدرجة الأولى. ولعلّ فعله قد أفاد اللبنانيّين وحركتهم الاستقلاليّة فائدة كبيرة.

والجدير ذكره أنّ عدداً كبيراً من الأحزاب اللبنانيّة قدشارك في أعمال الثورة، واتّحد حزبا الكتائب والنجّادة اتّحاداً رائعاً. واشتبكت مجموعة من الكتائبيّين وعلى رأسهم الشيخ بيار الجميّل مع الجنود الفرنسيّين في بيروت. وتلك هي المرّة الثانية التي يصطدم فيها الكتائبيّون مع الفرنسيّين. وكانت المرّة الأولى في عام 1937، عندما أصدر الفرنسيّون مرسوماً يقضي بحلّ حزب الكتائب اللبنانيّة، فاشتبك الكتائبيّون مع الجنود الفرنسيّين قرب صيدليّة الجميّل، وتعرّض الجميّل لمحاولة اغتيال، فأصيب بجروح طفيفة، واعتقل لمدّة قصيرة ثمّ أفرج عنه.

وسقط من الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ في بيروت عدد من الجرحى، نذكر منهم: إدمون كنعان ووفيق عضاضة.

وفي طرابلس بشمال لبنان، ارتكب الجنود الفرنسيّون مجزرة بحقّ الأبرياء، تحديداً في يوم الثالث عشر من تشرين الثاني. وعن تلك المجزرة يقول المطران جورج خضر في مذكّراته: “تركتُ بيروت وأنا طالب في الجامعة اليسوعيّة – كليّة الحقوق، تركتها إلى مدينة طرابلس للراحة. وكنت جالساً في أحد المقاهي في ساحة التلّ عندما رأيت تظاهرة سلميّة ولم يكن أحد مسلّحاً آنذاك، والفرنسيّون يجولون في الشوارع بآليّاتهم. كانت التظاهرة مرتّبة حسب الأعمار والصفوف. الصغار أوّلاً يليهم الكبار. ومشيتُ في التظاهرة التي ضمّت أيضاً طلاّباً جامعيّين عادوا من بيروت إلى طرابلس خلال العطلة، لم نمش طويلاً حتى وجدنا أمامنا دبّابة فرنسيّة يقودها جنديّ سنغالي يأمره ضابط فرنسيّ. كان الجنديّ السنغاليّ يحاول أن يحيد عن التظاهرة، لكنّ الضابط أمره بالتقدّم وإطلاق النار. بدأت الدبّابة تطلق النار على التظاهرة، إختبأنا خلف البيوت المتراصّة هناك. لكنّ الدبابة لم تكتف بإطلاق الرصاص بل دهست المتظاهرين. وكان الأطفال أوائل ضحاياها لأنّهم كانوا في المقدّمة. سقط منهم 11 تلميذاً تناثرت أشلاؤهم على الطريق. ثم أتت سيارة من الجيش البريطانيّ، رمينا فيها الجثث بسرعة من دون أن نستطيع التعرّف على أصحابها.”

مجزرة طرابلس وقعت إثر اعتقال السلطات الفرنسيّة الزعيم عبد الحميد كرامي من مزرعته في مرياطة – الضنيّة، بطريقة وحشيّة، واقتياده إلى سجن راشيّا. فاحتشد المواطنون في الجامع المنصوريّ الكبير، وخرج طلاّب دار التربية والتعليم الإسلاميّة، وتجمّعوا في مسجد الأمير سيف الدين- طينال في باب الرمل، وانطلقوا من هناك بتظاهرة حاشدة جابت شوارع طرابلس مروراً بالشارع الذي تقع فيه مدرسة الفرير، فنصح بعض المعلّمين، وعلى رأسهم فؤاد الولي ومحيي الدين مكّوك بتغيير وجهة سير التظاهرة خوفاً من الاحتكاك بالجنود الفرنسيّين الذين كانوا يرابطون في خان العسكر- محلّة الدباغة، فغيّرت التظاهرة وجهتها نحو ساحة التلّ، ثمّ إلى شارع المصارف حيث بدأت الدبّابات والمجنزرات الفرنسيّة بإطلاق النار على التلاميذ الذين لم تتجاوز أعمارهم الخمسة عشر عاماً، فسقط أربعة عشر تلميذاً، وجرح خمسة وعشرون آخرون. ورمى أحد الأولاد، وهو ابن الحاج ظافر الخطيب بنفسه تحت ملاّلة فمرّت فوقه ولم يمت، كما لاحقت دبّابة طفلاً من آل هاجر فحشرته إلى جدار وبترت يده.

وشهداء طرابلس هم:سليم صابونة، أحمد صابر كلثوم، رشيد رمزي حجازي، فوزي قاســم شحّود، محمد ثروت، عبدالغني أفيوني، عباس إبراهيم حبّوشي، محمّد علي حسين خضر، عبد القادر مصطفى الشهّال، كمال عبد الرزّاق ضنّاوي، وديع خاطر بركات، أحمد جوجو، محمد حسين المحمّد، وسليم الشامي. وقد أقيم لهم مؤخّراً نصب تذكاريّ عند مدخل مقبرة الشهداء في باب الرمل.

وكانت طرابلس قد انتفضت في عام1936 ضدّ الانتداب الفرنسيّ، وأعلنت الإضراب المفتوح لمدة 36 يوماً. ولم يتوقّف الإضراب إلاّ بعد وساطة قامبها وجهاء من سوريا وبلدان عربيّة مجاورة.

وفي صيدا، خرجت التظاهرات الشعبيّة في الخامس عشر من تشرين الثاني، وأضربت المحالّ والمؤسّسات، وكانت الجموع تهتف رجالاً ونساء: “نريد عادل عسيران، نريد بشارة الخوري، نريد رياض الصلح”. وخرجت مئات الفتيات والطالبات والنساء في تظاهرات عارمة واجهها الفرنسيّون بإطلاق الرصاص، خصوصاً أمام السراي، حيث كان القنّاصة يتمركزون على أسطح المباني، وكانت ثلاث مصفّحات تطلق النار من غير هوادة أو تمييز، فسقط أكثر من ثلاثين متظاهراً بين قتيل وجريح. والشهداء الصيداويّون هم: ثروة صباغ 10 سنوات (طالبة)، شفيقة أرقدان 8 سنوات (طالبة)، سعيد البزري 16 سنة (طالب). وأما الجرحى فهم: الشيخ محمد سنجر (60 سنة)، وفيق الندّاف وأخته وفيقة النداف (6 و8 سنوات)، آمنة دالي بلطة (7 سنوات)، نهدية سنجر (10 سنوات)، حكمة مجذوب صباغ (8 سنوات)، أوفى زنتوت (12 سنة)، عفيف جردلي (12 سنة)، عبد اللطيف بيضون (15 سنة)، الشيخ زين دندشلي (42 سنة)، عمر كرجيّة (12 سنة)، حسن رويساتي (15 سنة)، سعد الدين الندّاف (8 سنوات)، أحمد صالح (50 سنة)، غازي يمن (10 سنوات)، كريمة خليل خولي (12 سنة)، درويش نقوزي (15 سنة)، أحمد شرقاوي (13 سنة)، فاطمة فواز (35 سنة)، خديجة حسين خليل (12 سنة)، بشير شريف (32 سنة)، زينب محمّد (12 سنة)، ملكة الهبش (9 سنوات)، محمد كالو (13 سنة)، نعمة أبو نصّار (14 سنة)، حسن مكّاوي (11 سنة)، وأبو علي حنقير (28 سنة). بالإضافة إلى أكثر من خمسة عشر متظاهراً أصيبوا بجروح طفيفة. وكما هو ظاهر للعيان فإنّ أغلب الضحايا من الفئات العمريّة الصغيرة، ما يدلّ على وحشيّة لا مثيل لها في التعامل مع التظاهرات السلميّة. ويُضاف إلى هؤلاء الضحايا شهيدان آخران سقطا في مظاهرة سابقة ضّد الانتداب الفرنسيّ عام 1936، هما محمّد مرعي النعماني وعبد الحليم الحلاّق. ويُذكر أنّ الزعيم اللبنانيّ معروف سعد أصيب بطلق ناريّ في يده خلال تلك التظاهرة، وعندما انتفضت صيدا مرّة أخرى في عام 1943، كان معروف سعد معتقلاً مع بعض رفاقه في سجن الميّة وميّه.

ولم يكتفِ الصداويّون بهذه الملحمة البطوليّة الرائعة، بل إنّهم بعد أن شيّعوا قتلاهم بالزغاريد ونثر الورود، أعلنوا أنّ صيدا والجنوب قد استقلاّ تماماً عن السلطة الفرنسيّة، وشكّلوا لجنة وطنيّة تتلقّى تعليماتها مباشرة من القائد الاستقلاليّ حبيب أبي شهلا. ورفض محافظ الجنوب أديب النحّاس تلقّي التعليمات من القيادة الفرنسيّة أو من الرئيس المعيَّن إميل إدّه، فتمّ عزل النحّاس وتعيين بديل له، لكنّ الصيداويّين أقفلوا الطريق عند جسر الأوّلي، ومنعوا صنيعة الفرنسيين من الوصول إلى السراي.

ويبدو للمتابع لأخبار التظاهرات التي عمّت بيروت وطرابلس وصيدا أنّ الحركة الاستقلاليّة لم تكن منظّمة تنظيماً واضحاً، وذلك بسبب غياب القادة الاستقلاليّين، وإبعادهم عن قاعدة الجماهير، وبالتالي فقد كان هناك تباعد زمنيّ بين الحركات الجماهيريّة في المدن الثلاث، فطرابلس خرجت بغضب في الثالث عشر من تشرين الثاني، وصيدا خرجت في الخامس عشر منه. كما يبدو أنّ طرابلس تظاهرت احتجاجاً على اعتقال عبد الحميد كرامي بينما احتجّت صيدا على اعتقال عادل عسيران، في حين بقيت مناطق أخرى هادئة نسبيّاً، كمنطقة جبيل وكسروان التي كانت تخضع لنفوذ الرئيس إميل إدّه.

وأمام الضغط الشعبيّ العارم، وصل إلى بيروت على جناح السرعة الجنرال كاترو، فأرسل موفداً هو سليمان نوفل إلى قلعة راشيّا لكي يطلب لقاء الرئيس بشارة الخوري. وقد عبّر كاترو عن غضبه من تصرّف المندوب الفرنسيّ هللو، وقام بعزله على الفور، ونقله إلى الجزائر. وفي الثامن عشر من تشرين الثاني تمّ اللقاء بين الشيخبشارة الخوري والجنرال كاترو في “بيت آل الدنا” في بيروت.

وبعد أن أخبر الرئيس اللبنانيّ ضيفه بما جرى بالتفصيل، أفهمه بأنّ الشعب اللبنانيّ يطمح إلى الاستقلال، كما نصّت عليه اتفاقيّة الانتداب. وقد أبدى كاترو استعداده لإعادة الرئيس إلى سدّة الحكم بشرط إقالة رياض الصلح من رئاسة الوزراء وحلّ المجلس النيابي، من أجل حفظ ماء الوجه، وتفادياً لإظهار أنّ فرنسا رضخت لجميع المطالب اللبنانيّة، فرفض الرئيس هذين الطلبين بشكل قاطع، بصفته رئيس البلاد، وهو الذي يقرّر ما يجب فعله. وطالب الرئيس اللبنانيّ أيضاً بإطلاق المعتقلين الستّة من قلعة راشيّا فوراً. وعندما أبلغ الرئيس اللبنانيّ الجنرال كاترو بأنّ المعتقلين الستّة ممنوعون من الاختلاط، غضِب كاترو واستنكر هذا الإجراء الاعتباطيّ، ووعد بالإفراج عن المعتقلين يوم الأحد في الحادي والعشرين من تشرين الثاني.

وفي منتصف الليل، أذاع راديو الجزائر أنّ لجنة التحرير الفرنسيّة قررت إطلاق رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة وإعادته الى منصبه وإخلاء سبيل المعتقلين الآخرين.

ولكنّ الرئيس اللبنانيّ يُخبر في مذكّراتهأنّ أتباع هللو كانوا يخطّطون لقتل الزعماء اللبنانيّين داخل القلعة قبل أن يتمّ الإفراج عنهم، كما خطّطوا لاختطاف الجنرال كاترو من بيته في الحيّ الشرقي من بيروت والفتك به لئلاّ يفرج عن المعتقلين. ولكنّ أوامر صارمة وردت من مكتب الرئيس شارل ديغول في باريس بوجوب إطلاق سراح المعتقلين فوراً، ففشلت المؤامرة قبل أن ترى النور.

ويخبر الرئيس الخوري في مذكّراته أنّ المعتقلين في قلعة راشيّا من المواطنين العاديّين احتفلوا بهذا الحدث الجلل على طريقتهم الخاصّة، فراحوا ينشدون الأغاني الوطنيّة، ويضربون بقبضاتهم على حديد النوافذ، فكادت أساسات القلعة ترتجّ… “وما إن أطلـّت سياراتنا على ساحة راشيّا حتى قرعت الأجراس وعلا الهتاف ولعلع صوت “المعدّل” في الجو، وهجم الأهالي دروزاً ومسيحيّين بكوفيّاتهم البِيض يسدّون علينا الطريق للتحيّة… وفي الطريق أخذت السيارات الذاهبة نحو دمشق تقف عند مرور الموكب وركّابها يصفّقون تصفيقاً حماسيّاً وهتافاتهم تخرج من أعماق الفؤاد… استوقفـَنا جمهور كبير في شتورا مُطلقاً العيارات الناريّة، وقطعنا المريجات ومخفر ضهر البيدر… فما مررنا ببلدة إلا ولقينا أبناءها حشداً متماسكاً على طرقاتها يتزاحمون لتحيّة الموكب، وكنا نلتقي بسيّارات المستقبلين صاعدة لملاقاتنا فيحيّينا ركّابها وينضمُّون إلينا. ووصلنا إلى بيروت ومعنا رتل كبير من المرافقين، فمررنا بساحة الشهداء من أمام السرايا، واتجهنا نحو البيت، وهناك استقبلنا هتاف الجماهير وتصفيقهم وحِداؤهم، ولم نتمكّن من صعود السلـّم والدخول إلاّ بشقّ النفس. فقد تلاصقت المناكب كالبناء المرصوص، ووقف بعضهم على الكراسي والمقاعد، وعلى البيانو أيضاً، وكانت زوجتي وأولادي وإخوتي، في مقدّمتهم فؤاد، ينتظروننا في غرفتنا محاطين بأصدقاء كثيرين، فتعانقنا واحداً واحداً والدموع تنهمر من أعين الجميع، وبلغ التأثـُّر بزوجتي أن كادت يُغمى عليها فخفّ الأصدقاء الى إسعافها بالمنعشات. وكنت أنا أملك نفسي من تلك الانفعالات الشديدة لأتمكّن من مجابهة الأحداث، فالعمل لمَّا ينتهِ.أوصلني رياض الصلح إلى البيت وألقى التحية على الجميع ومضى إلى داره ليلتقي عائلته.”

وقد حاولت سلطات الانتداب خداع اللبنانيّين، فأرسلت إلى حكومة بشامون (حبيب أبو شهلا، المير مجيدإرسلان، صبري حماده) رسالة مفادها أنّ الرئيس اللبنانيّ قبِل بالعودة إلى الحكم من دون رياض الصلح. ولكنّ هذه المناورة لم تنطلِ على الزعماء اللبنانيّين. وفي اليوم نفسه، هاجمت القوّات الفرنسيّة بشامون، وانتقلت الحكومة من هناك إلى سرحمول. وتدخّل الجيش الإنكليزي فأنذر الفرنسيّين بوجوب وقف القصف على بشامون، وإلاّ فإنّه سيكون في حالة حرب معهم، فأوقف الجيش الفرنسيّ أعماله العسكريّة. وفي الانذار البريطانيّ دلالة واضحة على أنّ لندن لم تكن راضية عن ممارسات الفرنسيّين في لبنان، بل كانت قيادة الجيش البريطانيّ تدعم سرّاً وعلانيّة أحياناً الانتفاضة اللبنانيّة من أجل الاستقلال.

ويروي بعض المعمّرين تفاصيل عن معركة بشامون، فيقولون: إنّ المدافعين عن حكومتهم الحرّة، تحصّنوا في منزل يملكه آل الحلبي، فقُتل صاحب المنزل، كما قـُتل سعيد فخر الدين من الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، وقد قام فخر الدين بقذف قنبلة يدويّة على مصفّحة فرنسيّة، فأصيب بطلقات في ظهره أردته قتيلاً. وبعدانسحاب المصفّحات الفرنسيّة، هرع رفاق سعيد فخر الدين ولفّوه بلحاف، ثم حملوه على باب خشبيّ عتيق واتجهوا به نزولاً، عسى أن يصلوا به إلى الشويفات، لكنّه كان قد لفظ أنفاسه وهو في الطريق إليها، فعادوا به ودفنوه في مأتم متواضع جداً.

وأصدر وزير الدفاع الوطنيّ اللبنانيّ آنذاك الأمير مجيد أرسلان البلاغ رقم واحد، وجاء فيه: “هاجمت قوّات إفرنسيّة مسلّحة مركز الحكومة الشرعيّة في بشامون مساء الاثنين في 15 تشرين الثاني 1943، فردّتها وحدات الحرس الوطنيّ دون خسائر في النفوس. وفي صباح اليوم الثاني شنّت القوّات الفرنسيّة هجوماً عنيفاً على المركز المذكور، فرُدّت على أعقابها أربع مرّات متوالية حتى الساعة الثالثة بعد الظهر. وسقط بعض القتلى والجرحى من الجنود السنغاليّين، وفقدنا شهيداً واحداً يُدعى سعيد فخر الدين من عين عنوب”.

وهكذا في 22 تشرين الثاني أفرج عن الزعماء المعتقلين الستّة من سجن راشيّا، وكان ذلك اليوم عيداً وطنيّاً شارك فيه اللبنانيّون في جميع المناطق، وكانت الحناجر تصيح: “بدنا بشارة بدنا رياض، بدنا الوحدة الوطنيّة”، و “جينا وجينا وجينا جبنا الاستقلال وجينا.” وكانت لفرنسا كلمة في المناسبة، ألقاها الجنرال سبيرز وقال فيها: “إنّ الاستقلال لا يُقاس بمساحة الوطن ولا بعدد السكّان، إنّما يقاس بالإيمان الذي يغمر قلوب المواطنين، وقد أثبت اللبنانيّون أنّهم أهل لهذا الاستقلال. ولذا فإن لبنان يُعتبر وطناً كبيراً وجديراً بالاستقلال التامّ الناجز”.

إنَّها كلمة المنهزم الذي لا يملك أن يقول شيئاً من عنده بعد انتصار الوطنيِّين عليه.

_____

(*) مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” -سيدني

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *