سجلوا عندكم

بيروت المُركّبة من تحوّلاتها الفنيّة مدينة عالَميّة

Views: 501

 فاروق يوسف

 أفكّر الآن في أمين الباشا. أتذكّر كرّاسته التي كان يحملها معه أينما مضى. هناك تقع يوميّاته المُصوَّرة. أخذني ذات مرّة ليرسم مشهداً كنتُ قد رأيته مرسوماً في واحدة من تلك الكرّاسات. سألته مازحاً “ألَم ترسمه من قبل؟”.. “بلى رسمتُه عشرات المرّات، غير أنّني لم أرسمه كما هو اليوم”. صَمَتَ متأمّلاً ثمّ أضاف “لا أدري مَن الذي يتغيّر. بيروت أم أنا؟”. قلتُ له بطريقة غير جادّة “ربّما المزاج”؛ وأنا لا أقصد شيئاً بعَينه. قفزَ في مكانه. كانت عيناه تلمعان كأنّه اكتشف شيئاً جديداً “بيروت مدينة مزاجيّة ولقد ورثت منها ذلك الطبع العنيد. أنا وهي مزاجيّان. لستُ انطباعيّاً، ولكن مزاجها المتغيّر يجعلني أبدو كذلك”.

كرّاسات أمين الباشا تؤرِّخ للمزاج البيروتيّ العاصف كما هو قدر بيروت.

حظيَت بيروت بمَن يفكّر فيها رَسْماً؛ ألأنّها مدينة جميلة؟ ليس ذلك هو السبب بالتحديد. جمالُ مدينةٍ ما يُمكن أن تخترعه عَين الرسّام استناداً إلى ذكرى شخصيّة، سيكون من اليسير إخفاؤها أو التلاعُب بها. يُمكنني أن أصف جمال بيروت بالجمال المتشنّج. ذلك الجمال الذي يُنذر بغيابه في أيّة لحظة. تلك بيروت الصغيرة التي عرفتها وعرفتُ رسّاميها وشعراءها. كان في إمكانها أن تكون دائماً مدينة أخرى، حتّى لو بقي المرء في مكانه من غير أن يتحرّك. هناك شيء من العدم يمتزج ببنيانها الهشّ.

ستكون إيتيل عدنان قريبة دائماً من تلك الفكرة. الشعر هو السبب بالتأكيد.

ما رَسَمَته إيتيل، يبدو كما لو أنّه لم يُرسم من قبل، وأيضاً لن يكون مقدّراً له أن يُرسم في ما بعد، حتّى لو قرَّرت الرسّامة نفسها إعادة رسْم المشهد الذي سبق لها وأن رسمته. شيء ما يتعلّق بغموض لحظة العشق التي لا تتكرّر. غالباً ما يفكِّر الرسّامون وهُم يواجهون ذلك الانخطاف في الموت. حين رسمت إيتيل عدنان المدينة، مدّت يدها إلى جوهرها التجريدي، على الرّغم من أنّها أغلقت عينيها على مَشهدها المعماري. فالمدينة الحيّة ليست صورتها، بل نبضها، وهو ما يُمكن تشبيهه باختزال القطّة في موائها. كلّ الرسّامين التجريديّين يفعلون ذلك في لحظة الإلهام.

بيروت رُسِمت بطُرق وأساليب وتقنيّات مُختلفة. مثل كلّ المُدن البحريّة تسبقها غوايتها البصريّة التي هي سبب كلّ الفوضى التي يقع فيها الرسّام حين لا يهتدي إليها على الرّغم من أنّه حاولَ أن يحصرها في مَشهد يُمكن للآخرين أن يتعرّفوا عليه، لأنّهم مرّوا به أو عاشوا قريباً منه.

“هذه ليست بيروت”.

جملة يُصدم بها مَن يرسمها للذكرى كمَن يستعين بها في الرجوع إلى ماضيه السياحي. فبيروت العابثة والمجنونة تنفي ذاتها بذاتها، ولا تقف طويلاً عند الحدّ الفاصل بين زمانَيها. عليكَ إذاً حين ترسمها أن تتخيّل صورتها في اللّحظة اللّاحقة، وبهذا تتعادل قوّة المدينة مع قوّة الرسم.

ممرّ إلى العالَميّة

المدينة التي تغتني بصورتها حين تُرسم كانت أكثر المُدن العربيّة هياماً بفتنة الفنّ وحيَله وسحره وأوهامه ونبله وقلقه وتشرّده وغنى مواده الفقيرة. كانت بيروت بالنسبة إلى الفنّانين العرب، عبر أكثر من ستّة عقود، المدينة التي لو عَرَضَ الرسّام فيها لانفتحت أمامه أبواب العالَم. ربّما في ذلك الشعور شيء من المُبالَغة، غير أنّه ينطوي على قدر من الثقة ما من مدينة قادرة على خلقها سوى بيروت.

سيُقال إنّ تلك الثقة اهتزّت في أثناء الحرب الاهليّة (1975 ــ 1990). قول يتعلّق بالتقنيّة وليس بالشعور. فلأنّ بيروت تفكّر بطريقة مُختلفة، فإنّ المُرتبطين بإلهامها كانوا أيضاً ينتظرون بطُرق مُختلفة. لم يكُن يومها نزيه خاطر، وهو ناقد فنّي منصف، قد أعلن عن اعتزاله. يتذكّر الكثيرون أنّ غاليري “وان” الذي أقامه رائد الحداثة الشعريّة يوسف الخال قد أغلق أبوابه بعدما أَطلق عدداً من الأسماء الذين سيتوزّعون في العواصم العربيّة. لم تسمح بيروت أن يُقال “كانت هناك بيروت”. في أسوأ أيّامها كانت حاضرة بأناقة وأريحيّة وبذخ. كانت بيروت أكبر من حَربِها. يُخيّل إليّ أنّ هناك مَن استفاد من الحرب حين رسمها مُدّعياً أنّه تأثَّر بها. كانت الحرب الأهليّة حماقة تبرَّأت منها بيروت.

اللّعب مع الموت

خرجت بيروت من الحرب الأهليّة مباشرة إلى العالَم المُعاصِر من غير أيّ إبطاء. ذلك ما يؤكّد أنّها مدينة استثنائيّة. ستُرسم مهدّمة. ذلك ما فعله أيمن بعلبكي متأثّراً بالألماني أنسليم كيفر. بيروت ليست كذلك. أهي مزحة أم تمويه؟ لا تحتاج بيروت إلى مَن يرسمها بعد الانفجار العظيم الذي ضرب ميناءها في آب (أغسطس) من العام 2020. سيكون ذلك نَوعاً من الرثاء. ولأنّ بيروت باعتبارها مدينة تتجدّد، لا تصلح للرثاء، فقد كان عليها أن تكون مستعدّة بعد كلّ حرب لكي تكون مدينة أخرى.

في تسعينيّات القرن الماضي، كانت آثار الحرب الأهليّة لا تزال شاخصة، غير أنّ شيئاً ما كان يحدث في الأزقّة الخلفيّة يوحي بالاستعداد للبدء مرّة أخرى، لكنْ بطريقة أخرى تنطوي على ردّ فعل، لكنّ ردّ الفعل لم يكُن كلّ شيء.

لقد استهوى اللّعب مع الموت بيروت، فصارت تميل إلى ما هو عابر وزائل ويوميّ في وصْف مَوقفها من الجمال. كان ذلك هو ما صنع آليّة عمل جديدة في الترويج للفنّ لا تذكِّر بطريقة التفكير النقدي التي احتضنتها بيروت في ستينيّات القرن الماضي، يوم كانت هناك مرجعيّات من خلالها يتمّ ضبط الإيقاع بين ما هو مُتمرِّد وما هو مُشتبِك بقواعده الثقافيّة المكرَّسة.

بيروت ما بعد الحداثة

لقد اتّسعت بيروت لعشرات القاعات الفنيّة التي أعطت ظهرها لما كان يُسمّى بالزمن الجميل أو السعيد. ولم يكُن ذلك التحوّل تعبيراً عن أيّ نوع من النكران. كان كلّ شيء قد جرى من أجل أن يكون الانفصال تامّاً. لقد انفصلت بيروت عن بيروت. وكان ذلك سَبباً في نشوء مَوجة فنيّة جديدة لا شأن لها بالتاريخ الفنّي، ولكنّها تضع بيروت على لائحة المُدن الأكثر انتماءً لعصر ما بعد الحداثة. لقد تجوّل بي صالح بركات، صاحب “قاعة أجيال” ذات مرّة بين عشرات القاعات. كلّها كانت مُخصَّصة لعروضٍ فنيّة لا علاقة لها بما كان سائداً قبل الحرب الأهليّة وأثناءها.

كانت بيروت قد استأنفت وعيها لذاتها من لحظة تكوُّن قطيعة مع تاريخها الفنّي. ولكنّها قطيعة تحمل الطبع البيروتي نفسه. إنّ المدينة مركزٌ للشرق الأوسط من غير استقواء سياسي أو غواية اقتصاديّة. ما فعلته بيروت على مستوى التماهي مع الفنون المُعاصِرة، وفكر ما بعد الحداثة، لم تفعله أيّ مدينة عربيّة أخرى.

ولكنْ هل كان قدراً مُنصفاً أن تُصاب بيروت التشكيليّة التي قابلت الهدْم بالهدْم كلّها مرّة واحدة وفي اللّحظة نفسها ليكون كلّ شيء عبارة عن عمل شديد القسوة لا يُمكن استيعابه بصريّاً؟

لم تكُن المُعادَلة تقوم على نظريّة “كلّ شيء أو لا شيء”، ولكنّ ما جرى بعد العمل الإجرامي كان قد أدّى إلى ذلك الفراغ الكَوني. بقَدَرٍ من العته السافر تمّت تصفية مدينة الفنون. الجزء الذي يفكّر بطريقة ما بعد حداثويّة من بيروت. لقد دمّر العصف قاعات العرض الفنّي التي سيكون ترميمها صعباً وسط مَشهد خراب هائل. وهو مَشهد يُراد منه أن يؤسِّس لبيروت “الأخرى”. المدينة العمياء التي ستُرتِّب أحوالها وسط عتمة يتمنّى البعض لو كانت ليلاً أبديّاً.

لقد أتى الانفجار العظيم على الجزء الحيّ من بيروت. هل علينا أن نصدّق أنّ إزالة مبنى يُمكن أن يَجتثّ فكرة؟ كان الجمال واحداً من أعظم حرّاس المدينة التي لجأ إليها الهاربون بحثاً عن الحريّة. ربّما لأنّني أثق باللّبنانيّين باعتبارهم دُعاة جمال، فإنّ ذلك الخراب الذي آلمني لن يقضي على إيمانهم بقدرتهم على الخلق، وهو ما يفسّر وجود مدينة مثل بيروت.

ربّما سيكون الخراب مناسبة لإعادة النّظر في فهْم العلاقة بين الوجود والعدم. فبعدما نشأت أجيال لبنانيّة على أساس الهدْم، لم يعُد صعباً استيعاب معنى الخراب، ذلك الخراب الذي يمتدّ من العقيدة إلى المكان. أكنّا في حاجة إلى خرائط جديدة لكي نكتشف بيروت؟

الفكرة التي تظلّ قائمة

بعد الذي جرى في ميناء بيروت، لن يكون مسموحاً لأحد أن يقع في التباس القصد. كان الهدف أن تختفي آخر مُدن الثقافة الحيّة في الشرق العربي. فبيروت الواقعة بين فكَّي الفساد الاقتصادي والسياسي، كانت تُقاوم اندثارها عن طريق الثقافة. لا يزال هناك مَن يفكّر بها، باعتبارها مدينة عالَميّة، فيمدّ خيوطاً إلى التظاهرات الفنيّة العالَميّة من أجل أن يرى الفنّان اللّبناني والعربي صورة نتاجه في مرآتها.

في المقابل، فإنّ كلّ القاعات التي في بيروت في السنوات الأخيرة كانت عبارة عن ممثليّات للفنّ العالَمي التي انتشرت تحوّلاته. لذلك فإنّ القصد كان واضحاً؛ أن تنقطع بيروت عن العالَم، وتكفّ عن القيام بدَور الحاضنة التي تتلاقح فيها التجارب الفنيّة المحليّة العربيّة والعالَميّة.

كانت هجمة ظلاميّة مدروسة ومُتقنة من جهة توجّهها إلى أهدافٍ سيُشكّل محوها ضربة غير مسبوقة لعقل وقلب المدينة مُجتمعَين. الفكر والعاطفة وقد كانا قد نجيا من الوقوع في فخّ المُزايدات المُضلِّلة. كانت الحقيقة هناك، فقرَّر أعداؤها نسْفها بأسلوبٍ فضائحي لا يتستّر على الجهة التي خطَّطت ونفَّذت. حرب على الحقيقة تنطوي في جزء منها على كراهيّة للمُعاصَرة وللأُفق المفتوح على العالَم الذي كانت بيروت بشارته.

بكلّ هذه المعاني المروّعة والكارثيّة تكون الرسالة قد وصلت. ولكنّي أشكّ بأنّها ستؤدّي غرضها السلبي. ما جرى كان متوقَّعاً. كلّ الإحداثيّات كانت تشير إليه. القسوة مُبالَغ فيها، ولكنْ متى كان للقسوة مقياس يُعتدّ به؟

يُمكن الحديث هنا عن الطاقة الكامنة، وليس عن ردّ الفعل.

التحوّلات الفنيّة التي عاشتها بيروت عبر العقود الماضية، صنعت ما يشبه ركاماً من الطبقات التي يشفّ بعضها عن البعض الآخر، على الرّغم من أنّ القطيعة كانت في بعض الأحيان عنواناً للتحوّل.

ما كان يَجمع بين كلّ تلك التحوّلات، أنّها لم تكُن مُغلَقة على ذاتها، بل كانت مُنفتِحة على خارجٍ، سيكون دائماً مرجعيّة مُرافِقة يتأمَّل من خلالها الفنّان اللّبناني والعربي في بيروت أحواله وهي تنعكس في مرآة عالَميّة.

على هذا المستوى كانت بيروت دائماً مدينة عالَميّة.

وإذا ما كان التفجير الكارثي قد أَلحق ضَرراً كبيراً في مبانٍ فنيّة في مار مخايل والجمّيزة وسواهما من المناطق القريبة منهما، فإنّ الفكرة أقوى من أن تُنسف بسبب تجذّرها في الروح الباحثة بقلق عن الحقيقة. حقيقة الإنسان وحقيقة الفنّ.

 ***

(*)  كاتب وشاعر عراقي

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *