اللّغة العربيّة بين مالطا وكوريا الجنوبيّة

Views: 98

د. ناديا لانزون*

لشدّ ما أثار اهتمامي قرارُ البرلمان الكوريّ الجنوبيّ منذ أكثر من سنتَيْن عندما صوَّتَ بالإجماع على اعتبار اللّغة العربيّة لغةً ثانية في البلاد بعد اللّغة الوطنيّة. وحول الأمر ذاته عادت وأكّدت اللّجنة النيابيّة الكوريّة الجنوبيّة المولَجة مُتابَعة الموضوع، ورصْد تطوّرات تنفيذه على أرض الواقع، وذلك خلال الشهور الثلاثة الأخيرة من العام المنصرم 2022.

وعلى السويّة نفسها لَفَتَني مؤخَّراً خبر تبنّي جهةٍ ثقافيّة كوريّة جنوبيّة، على صلةٍ ما بالدولة، مشروعَ ترجمةِ القرآن الكريم إلى اللّغة الكوريّة. والترجمة، بحسب معلوماتي، أُنجزت تماماً، ودخلتْ مرحلة الطباعة، وعلى ما يبدو فإنّ النِّسخ المطبوعة من القرآن الكريم ستظهر، حتّى قبل نشر سطور مقالتنا هذه، وسيكون بمكنة مَن يرغب من الكوريّين قراءة آيات الذكر الحكيم بلغته الأمّ التي تُسمّى: “الهانغول”، وذلك في خطوةٍ سيو/ ثقافيّة، هي الأولى من نَوعها في تاريخ كوريا الجنوبيّة، البلد الصناعي المتطوّر، الذي يقع في النصف الشرقي من قارّة آسيا، وتحديداً في الجهة الجنوبيّة من شبه الجزيرة الكوريّة.

كما أنّ العملَ جارٍ في العاصمة الكوريّة “سيول” على ترجمة الحديث النبوي الشريف، باعتباره المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، والذي يُبيِّن قواعد الشريعة ونُظُمَها وأحكامَها وما يتّصل بها من تفاسير دينيّة مرجعها المصحف الشريف.

من جانبٍ آخر، وبما أنّ لغة القرآن الكريم تنطوي على بلاغةٍ قاطعة ومُحكمة، كان من شأنها أن دَفعت بالعربيّة إلى مستوياتٍ عليا ما كان لها أن تطالها من دونها، فإنّ معرفة لغة الضادّ جوهريّاً – بناء على ذلك – لا تستقيم، إلّا بمعرفة لغة القرآن فائقة البلاغة هذه. وقد أكَّد على ذلك المُستعرِب الفرنسي القدير “أندريه دوريه” عندما قال “مَن يتعلّم العربيّة، عليه أن يُكمِّل تعليمه بمعرفة لغة القرآن وإعجازها”.. وأَردف من موقع أنّه أوّل فرنسي ينقل القرآن إلى الفرنسيّة عن العربيّة مباشرةً في العام 1647: “القرآن هو عنوان العربيّة وقلبها وقلعتها وحاميها من كلّ أنواع الهجمات عليها للنيل من مكانتها وثرائها، والعربيّة، لعمري، هي اللّغة الأكثر ثراءً من بين لغات الأرض قاطبة”.

وهكذا نفهم في العمق خطوة أولي أمر اللّغة العربيّة في كوريا الجنوبيّة ممَّن شجّعوا على ترجمة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف إلى لغتهم، فهُم إنّما يريدون ذلك لإتمام تضلُّعهم من اللّغة العربيّة وآدابها بمعرفة لغة القرآن بطريقة مزدوجة عربيّة/ كوريّة.. وبالعكس، كرمى تجذير استيعابهم للعربيّة، واستطراداً توظيف أبعاد ذلك الاستيعاب في طُرق تدريس لغة الضادّ لطلبتهم في المدارس والجامعات الوطنيّة الكوريّة.

وهنا يجب أن نعرف أنّ اهتمام كوريا الجنوبيّة بتعليم اللّغة العربيّة يعود إلى العام 1965، حيث أَنشأت جامعة هانكوك للدراسات الأجنبيّة قسماً للغةِ الضادّ فيها، بحسب البروفسور “أو ميونغ كون”، عميد كليّة اللّغات والثقافات الآسيويّة في الجامعة المذكورة.

واستطرَدَ البروفسور “كون” يقول إنّه “تماشياً مع زيادة حَجْم التبادُل الاقتصادي والثقافي بين كوريا والعالَم العربي، ازداد اهتمام الكوريّين بثقافة العالَم العربي وحضارته، ما دَفَعَ وزارة التربية والتعليم الكوريّة لاختيار العربيّة لتكون في عداد اللّغات الأجنبيّة من ضمن مناهج التعليم في البلاد. ووافقت الحكومة الكوريّة في ما بعد على اختيار العربيّة مادّةً رسميّةً في امتحان القبول في الجامعات، ما أهَّلها لتصبح آليّاً لغةً أجنبيّةً ثانية في كوريا”.

ومن المهمّ الذي أشار إليه البروفسور “كون”، هو أنّ تعليم اللّغة العربيّة في كوريا، بات لا يقتصر على المرحلة الثانويّة والمرحلة الجامعيّة فقط، بل شمل معه المدارس الإعداديّة والابتدائيّة أيضاً، ودائماً بقرارٍ حكومي رسمي.

من جهة أخرى، نوَّهَ البروفسور “كون” بالجهود الحثيثة التي تبذلها الملحقيّة الثقافيّة السعوديّة لدعم اللّغة العربيّة في كوريا، ومنها، مثلاً، تنظيم مسابقة سنويّة في الإنشاء والإلقاء باللّغة العربيّة للطلّاب الكوريّين، وتخصيص مهرجانٍ سنويّ للاحتفاء باليوم العالَميّ للّغة العربيّة. كما جرى التنسيق مع أقسام اللّغة العربيّة في الجامعات الكوريّة لعقْدِ دوراتٍ مختصّة في تعليم الترجمة من الكوريّة إلى العربيّة.. وبالعكس، ليس في المجالات الأدبيّة والثقافيّة فقط، وإنّما في الحقول القانونيّة والطبيّة والعلميّة أيضاً.

وأوضح البروفسور “كون” أنّه بادرَ شخصيّاً مع أساتذة كوريّين وعرب لجعلِ اللّغة العربيّة مادّةً رسميّة تعترف بها وزارة التربية والتعليم منذ العام 1995، وقد تمَّت الموافقة على هذا الأمر منذ ذلك التاريخ… وأضاف: “وما زلتُ أتعاون معهم باستمرار في تأليف الكُتب المدرسيّة للمراحل الإعداديّة والثانويّة والجامعيّة، بدعمٍ من الحكومة الكوريّة”.

جديرٌ بالذكر أنّ هذه المعلومات، وغيرها، استقيتها بتصرّف من كِتاب: “اللّغة العربيّة في كوريا“، الذي وضعه، بالإضافة إلى البروفسور”أو ميونغ كون”، البروفسورة “يون أون كيونغ”، رئيسة قسم اللّغة العربيّة في جامعة هانكوك للدراسات الأجنبيّة، والبروفسور “كيم دونغ هوان” أستاذ مساعد في قسم اللّغة العربيّة في الجامعة المذكورة. والكتاب صادر عن “مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدوليّ لخدمة اللّغة العربيّة”.

الشركات العملاقة واللّغة

الآن، ومع تجدُّد أزمة النفط والغاز عالَميّاً، والمرشَّحة لمزيدٍ من التفاقُم والتدهور من جهة.. وزيادة حجم التبادُل التجاري والاقتصادي الكوري الجنوبي مع العالَم العربي من جهةٍ ثانية، تأتي وقائع “ثورة” هذا الاهتمام المُستأنَف باللّغة العربيّة من الجانب الرسمي الكوري، ومعه كارتيلات القطاع الخاصّ، ممثَّلةً بالشركات الكوريّة العملاقة: “سامسونغ”، “كيّا”، “أل. جي”، “هايونداي”، “س. ك. هاينكس”، “نافر”.. وغيرها، والتي بدأت تدعم، وعلى نفقتها الخاصّة، أفواجَ الشباب الكوري ليتعلّم لغة الضادّ ويتمكّن منها، تمهيداً لإرساله على الفور إلى العالَم العربي، إمّا للعمل الديبلوماسي في السفارات والقنصليّات أو لدى فروع الشركات الكوريّة العملاقة التي ذكرناها، وبرواتب عالية ومُجزية بالتأكيد. ولوحِظ في السنتَيْن الأخيرتَيْن إقبالٌ كثيف جدّاً من الشباب الكوري على تعلُّم لغة العرب، وعدد المُقبلين مرشّح للتصاعد أكثر وأكثر للأسباب التي أَتينا على ذِكرها. (https://flossdental.com/)

شحوب العربيّة وتآكلها في مالطا

وإذا كانت اللّغة العربيّة تشهد انتعاشاً تداوُليّاً ساطعاً في كثيرٍ من بلدان العالَم اليوم: شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، إلّا أنّها في مالطا، مع الأسف الشديد، تشهد تراجعاً مُخيفاً وإهمالاً لا سابق له. وبدل أن تكون مالطا سبّاقة على غيرها من دول العالَم قاطبة بالاهتمام بلغة الضادّ: تعلّماً وتعليماً، تعزيزاً وتطويراً، انطلاقاً من أنّ العربيّة هي لغتها الأمّ، واقعاً وتاريخاً، فإنّنا نشهد العكس تماماً، بل أفدح من هذا العكس، نجد تجاهُلاً مقصوداً لها من أصحاب القرار في البلاد، ودفْعاً مُمنهجاً وصامتاً للمالطيّين كي ينسوا ما تمثّله لهم لغة الضادّ من انتماءٍ حضاري يعود إلى أجدادهم العرب الذين حَكموا الأرخبيل المالطي ما بين عامَي 827 – 1090 م، فأضحت معهم مالطة عربيّة الوجه والقلب واللّسان، وأنّ البديل اللّغوي جاهز هنا، فبالإضافة إلى الإنكليزيّة التي تُعتبر لغةً رسميّة بالتوازي مع اللّغة الوطنيّة في البلاد، هناك اللّغات الأوروبيّة الأخرى التي يُقبِل عليها المالطيّون بكثرة، ولاسيّما الإسبانيّة منها والإيطاليّة وبنسبة أقلّ الألمانيّة والفرنسيّة.. و”إنّنا جزء لا يتجزّأ من الاتّحاد الأوروبي والثقافة الأوروبيّة السائدة، ومصالحنا مع هذا الاتّحاد، وليس مع أيّ تجمُّعٍ سياسي وثقافي آخر غيره، مهما كان قريباً منّا، أو جاراً لنا” على حدّ قول أدريان بو حجر، وهو مثقّف مالطي يعيش في روما. بينما يردّ على هذا المنطق مثقّفٌ مالطيٌّ آخر يعيش في ميلانو، واسمه جان كسّار بالقول: “الانتماء إلى الاتّحاد الأوروبي كتجمّعٍ سياسي وأمني، لا يعني إلغاء الهويّة والتاريخ واللّغة والثقافة المركَّبة للمالطيّين، والعربيّة جزء لا يتجزّأ من هذه الهويّة المركَّبة، بل هو الجزء الذي له الأولويّة والأرجحيّة على ما عداه في مشهدها العامّ، وبالتالي لا يستطيع أحد شطبه، مهما ادّعى ذلك أو طمح إليه”.

على أنّ هذا السجال هنا لا يُقدِّم ولا يؤخِّر في مجرى تدهور أحوال اللّغة العربيّة في مالطا، على الرّغم من وجود أقسام في مؤسّساتٍ أكاديميّة جامعيّة وأخرى ثانويّة ما زالت تُدرِّسها. لكنّ الإقبال عليها يتناقص يوماً بعد يوم. وتقول بعض الإحصاءات التربويّة إنّ عدد الطلّاب الذين اختاروا العربيّة للدراسة في المرحلة المتوسّطة، بلغ حوالي المائة طالب في الموسم الدراسي 2021، ومعظمهم من أصولٍ عربيّة وإسلاميّة.

حاصل القول، ليس في الداخل المالطي الرسمي والأهلي المدني اليوم مَن يأخذ على عاتقه الدعوة إلى إحياء اللّغة العربيّة والاهتمام بها، حتّى من البوّابة الاقتصاديّة لسوقٍ عربيّة جارة تضمّ أكثر من 490 مليون مواطنٍ عربيّ.

لكأنّ ما يجري في مالطا اليوم، هو انتقام من عهد رئيس الوزراء المالطي الأسبق دوم منتوف (1916 – 2012) الذي حكم البلاد من العام 1971 إلى العام 1984، ولم يكُن في عهده يكتفي بتعزيز تعليم اللّغة العربيّة وفرْضها كمقرَّر إجباري على سائر المدارس والجامعات المالطيّة فقطـ، بل ذهب أكثر من ذلك، معتبراً أنّ مالطا نفسها كدولة، هي من عائلة الدول العربيّة الرسميّة؛ ومن هنا جاء عرضه على الملوك والرؤساء العرب لانضمام مالطا إلى جامعة الدول العربيّة، والالتزام بكامل بنودها وقوانينها وقراراتها السياسيّة وغير السياسيّة؛ لكنّ عرضه هذا جوبه برفضٍ رسمي عربي، ولم تؤازره سوى ليبيا معمّر القذافي، الذي كان يُقدِّم مساعدات اقتصاديّة دوريّة ضخمة لدعم حُكم دوم منتوف، بخاصّة بعدما أَخذ هذا الأخير قراراتٍ جريئة تتعلّق بقطع كلّ الروابط المؤسّساتيّة مع بريطانيا التي كانت مُستعمِرة لمالطا. كما أَقدم على الانسحاب من برنامج التعاون العسكري مع حلف الناتو.. ولم يوافق على انضمام مالطا إلى الاتّحاد الأوروبي في العام 2004.

أخيراً، لا بدّ من الاعتراف بأنّ الثقافة، وعلى رأسها اللّغة، إنّما تتبع السياسة وقراراتها القويّة الحاسمة، وطالما أنّ القرارَ السياسي بدعم العربيّة غائبٌ في مالطا، فإنّ اللّغة العربيّة ستغيب أيضاً عن المشهد، ولو شيئاً فشيئاً.. بعكس القرار السياسي الذي أُخِذَ لدعْمِ لغة الضادّ في جمهوريّة كوريا الجنوبيّة، فها هي بعده، تتلألأ بحضورها الذهبي هناك، وتحتلّ الموقع الثاني بعد اللّغة الوطنيّة: الهانغول، أقلّه لجهة تعليمها وتمكينها في بلادٍ لا تمتّ إلى العروبة ولغتها وأدبها وتراثها بأيّ صلة.

لكن هذا كلّه لا يحول دون القول علميّاً، إنّ اللّغة المالطيّة السائدة في تلك الجزيرة الهادئة الساكنة، كانت وستظلّ “فرعاً من الدوحة العربيّة” على حدّ تعبير أحمد فارس الشدياق.

***

*كاتبة ومُستعرِبة من مالطا

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *