أسعى إلى الـ”هنا” والآن   

Views: 432

د. غادة السمروط

 

          تنطفئُ الشّمسُ مساءً وترحل. وأُطرِقُ أنا مفكّرةً :  كيف لي أن أكونَ في ال”هُنا” وفي الآن؟

         أُطلّ من نافذتي على الليل، صفحةٌ سوداءُ تطفو على كلِّ شيْ. سكونٌ يتحرّكُ فيه الأملُ، ودموعٌ تجري من عيونِ العتمة، تسقي أشجارًا تنتظرُ غيمةً كي تنام. وفي أعلى الفضاء، نجومٌ تسهر في تلألؤ، بعيدةً عن شاطئِ الحياة، وعن ظلمةٍ تهنأ بالآن وبالمكان!

       أخرجُ منّي مظلمةَ الوجه، وفي القلبِ جرحٌ يمتدّ من ال”هناك” إلى ال”هنا”، ومن الآن الّذي صار ماضيًا إلى الآن هذا. ماذا يُجدي أن أتبعَ مسارَ ذلك ال”هناك” وذلك الآن، وأحصيَ عمرَهما؟ لماذا لا أنساهما وأعيشُ الآن في هذا السّكون يحضُنُ الأرضَ ويحضُنُني؟ لماذا لا أذهب إلى تلك الأشجارِ الهانئةِ على ضفافِ ساقيةٍ سعيدةٍ في آنِها وفي هُناها؟ لماذا أتبعُ طريقًا مضَتْ في المكانِ وغابَتْ في الزّمان، أو ربّما ستأتي، لكنّني لا أعرف متى وأين، أُلَملِمُ فيها ذاتي الّتي لم تعد ذاتي، أكْنسُ بأهدابي ما سقط منّي عليها، وأنسى الآن وال”هنا”، وأنساني؟

      وأعود إليَّ، حين أدخلُ في آنٍ كان مستقبلًا، وفي هنا أخرى كنتُ أراها هناك. أجهدُ في جلبِ ذاتي إليهما، وأتبعُني فيهما. فأجدُني أنام فيَّ، كما نارٌ في حطب.

      لا شيءَ يمحو ما عشتُه، ولا هو يغادرُني. أحبّ أن أخرجَ إليّ، الآن وهنا، وأن يأتيَ الآنُ وال”هُنا” بكلّ ما يزدانانِ به، وما يحملان، وأن أرى ذاتي فيهما، وأعُبَّ من حاضري لأعرفَني. فأراني أعودُ إلى الماضي وال”هناك”، يستبدّان بي حينًا، ويسعداني أحيانّا. وأدركُ أنّهما كما البرقُ، يخطّان سطرًا في الحاضرِ ويدخلان في الماضي، فكيف لي السّعيُ إليهما؟

    ال”هنا” والآن سعادةٌ في تبدّد، وحلمٌ في تجدّد. هما على حافةِ ما قبلهما وما بعدهما، لا إقامةَ لهما. الآتي يعبرُ الحاضرَ وال”هنا”، ليدخلَ بهما ومعهما إلى الماضي. وربّما ال”هنا” أقلُّ تيهًا من الآن، ولا يعرف ترحّلًا. ونحن نجري، كما المياهُ، في تبدّلٍ وعبور. نعبرُ ال”هنا” ونحملُه، ويعبرُنا الآنُ ويحملُنا. عابرون ومعابرُ نحن، نعبر معًا إلى ماضٍ حاضرٍ أبدًا !!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *