مائةُ مُفكِّرٍ يُخاطبون العرب بفكرٍ فرنسيّ والفرنسيّين بفكرٍ عربيّ

Views: 9

حسين جواد قبيسي

خطوةٌ عملاقةٌ في مجال الحوار الفكريّ والتبادُل الثقافيّ بين العرب والغرب خطاها كرسيّ معهد العالَم العربيّ في باريس، برئاسة مدير المعهد معجِب الزهراني وبإدارة الطيّب العروسي، في إطار مشروعٍ هو الأوّل في بابه، أُطلِق عليه مشروع “مائة كِتاب وكِتاب”، ويهدف إلى تعريف قرّاء العربيّة على مفكّرين فرنسيّين غير معروفين لدى متوسّطي الثقافة العرب، وإلى تعريف قرّاء الفرنسيّة على مفكّرين عرب غير معروفين لدى الجمهور الواسع من المثقّفين الفرنسيّين. إلّا أنّ عدد المفكّرين العرب كانت له الأرجحيّة على عدد المفكّرين الفرنسيّين، فقد أَطلَق المشروع، في فضاء الثقافة الفرنسيّة، ستّين مفكّراً عربيّاً في ستّين كِتاباً باللّغة الفرنسيّة، ووضَع في متناول القرّاء العرب أربعين مفكّراً فرنسيّاً في أربعين كِتاباً باللّغة العربيّة.

مشروع “مائة كِتاب وكِتاب” فكرة رائدة ابتكرها مدير معهد العالَم العربي في باريس، معجب الزهراني، الأكاديمي والناقد والروائي السعودي والمُثقف الفرنكفوني الحاصل من جامعة السوربون في باريس على شهادة الدرجة العليا في اللّغة الفرنسيّة، ودبلوم الدراسات المُعمّقة في الأدب العربي الحديث، وشهادة الدكتوراه في الأدب العامّ والمقارَن عن أطروحة بعنوان “صورة الغرب في الرواية العربيّة الحديثة”؛ فعندما تولّى معجِب الزهراني إدارة المعهد في العام 2015، أعاد العمل بكرسي المعهد المتوقِّف عن العمل منذ سنة 1994 وأحيا أنشطته وأضاف إليها أنشطة أخرى نفحها بروحيّة جديدة، فعلاوةً على فكرة “مائة كِتاب وكِتاب”، استحدث الزهراني جائزة كرسي معهد العالَم العربي التي تُمنح كلّ شهرَين، تكريماً لمفكّر أغنى الثقافة العربيّة. فقد كرَّم الكرسي مفكّرين خدموا الثقافة العربيّة سواء أكانوا عرباً أم فرنسيّين، فكرّم إدغار موران وأندريه ميكيل الذي ترجم إلى الفرنسيّة كِتاب “ألف ليلة وليلة” بالتعاون مع الراحل جمال الدّين بن شيخ، وأغنى بدراساته الرصينة وكِتاباته الأصيلة الثقافة العربيّة. كما كرَّم مفكّرين عرباً لم يلقوا ما تستحقّه جهودهم ونتاجهم الفكري في بلدانهم: رشدي راشد في القاهرة، وعبد الله العروي في المغرب، وناصيف نصّار في بيروت، وفهمي جدعان في عمّان. واحتفى بمئويّة هدى شعراوي التي أسَّست أوّل جمعيّة للدفاع عن المرأة في الوطن العربي، سعياً من الكرسي إلى إبراز صوت المرأة في الشرق والغرب. كما ينظّم الكرسي حلقات دراسيّة يُشارِك فيها نخبة من الباحثين والأكاديميّين، ويُصار في ما بعد إلى جمْع وقائع ومناقشات هذه الحلقات الدراسيّة في كُتبٍ عدّة يتمّ نشرها لاحقاً، كموضوعة: “تجديد الفكر الإسلامي” من خلال تفكيك مقولاته الكبرى، ومن أجل فهمها على نحو صحيح، كما في نتاج المفكّر الراحل محمّد شحرور. ويرحِّب المعهد بأيّة مُبادرة تأتي من دولة خليجيّة وعربيّة لعقْد اتّفاقيّات تعاوُن وشراكة مع مؤسّساتها الثقافيّة المهمّة.

دخلت فكرة “مائة كِتاب وكِتاب” المبتكَرة حيّزَ التنفيذ العملي بفضل العَون والدّعم الذي قدّمته مؤسّسة “جائزة الملك فيصل”، فكان نجاح ذلك المشروع ثمرة تعاون بين المؤسّسة و”معهد العالَم العربي”، ممثّلاً بـ “كرسي المعهد”. بدأ تنفيذ المشروع بخطوة عمليّة عبر تشكيل لجنة تنظيميّة عمادها جاك لانغ (الرئيس الشرفي لمعهد العالَم العربي في باريس) ومعجب الزهراني (المدير العامّ لمعهد العالَم العربي) والطيّب ولد العروسي (مدير كرسي معهد العالَم العربي)، وفاتن مراد (المنسّقة الثقافيّة والإعلاميّة). تلتها الخطوة العملاقة التي بدأ بها التنفيذ الفعلي للمشروع، مع تكوين “اللّجنة العِلميّة المُشترَكة” التي تألَّفت من عبد العزيز السبيّل، رئيس اللّجنة وأمين عامّ جائزة الملك فيصل، معجب الزهراني، بطرس حلّاق، رشدي راشد، حسين الواد، وفيليب بتريا؛ وتولّى أعمال التنسيق أميرة المنيعير والطيّب ولد العروسي.

قدَّم السبيّل والزهراني لهذه السلسلة بـ “عَتَبَة” تصدّرت جميع كُتب السلسلة التي صدر أوّلها بداية العام الماضي، ويصدر آخرها قبل نهاية العام الحالي. وجاء في عتَبَة السلسلة: “يهدف هذا المشروع إلى التعريف بمائة عالِم وباحث من المفكّرين العرب والفرنسيّين الذين كرّسوا جهودهم لتعزيز الحوار الجادّ والتفاعُل الخلّاق بين ضفّتَي المتوسّط خلال القرنَين الماضيَين (…) وجاء اختيار ستّين شخصيّة عربيّة وأربعين شخصيّة فرنسيّة نتيجة عملٍ مهني مُتواصِل بذلته لجنة عِلميّة مُشترَكة على مدى أشهر. وقد حرصت اللّجنة العلميّة المُشترَكة على أن تكون الأسماء المُختارة مُراعِية، قدر المُمكن، مختلف الفترات التاريخيّة، والتخصّصات المعرفيّة، والتوجّهات الفكريّة والإبداعيّة. إنّنا ندرك تماماً أنّنا لو كتبنا عن ألف شخصيّة وأكثر، فسيظلّ هناك أعلامٌ يستحقّون الحضور ضمن هذه السلسلة”.

اعتمدَ كرسي معهد العالَم العربي نهجاً أصيلاً في وضْع هذه الكتب: فقد عَهَدَ في تأليف كُتب باللّغة الفرنسيّة تتناول المفكّرين العرب الستّين إلى مُختصّين بفكر هؤلاء المفكّرين، وممّن لهم معرفة عميقة باللّغة الفرنسيّة التي يجب أن يوضَعَ بها الكِتاب. لذا كان بين هؤلاء المُختصّين (الذين عُهِد إليهم تأليف الكُتب التي عرَّفت بمفكّرين عرب) فرنسيّون مختصّون بفكر المفكّر العربي الذي يكتبون عنه، مثل العالِمة النفسانيّة الفرنسيّة ماريان برودي بودان (Mariane Brody-Baudin) التي وضعت كِتاباً في فكر المُحلِّل النفساني المصري الشهير مصطفى صفوان. على أنّ معظم الكُتب التي وُضِعَت بالفرنسيّة وتعرِّف القرّاء الفرنسيّين بمفكّرين عرب هُم من الباحثين العرب المُختصّين بفكر هؤلاء المفكّرين؛ فقد وضعَ مدير معهد البحوث الابستيمولوجيّة (بروكسل) بدّي ابنو المُرابطي كتابَين الأوّل في فكر علي عبد الرّازق، والثاني تضمَّن تعريفاً بأعمال المفكّر والمُترجِم الكبير جورج طرابيشي. أمّا أستاذ الأدب في جامعة السوربون كاظم جهاد، فقد وضع كِتاباً بأهمّ أعمال الشاعر الفلسطيني محمود درويش وترجَم إلى الفرنسيّة نماذج من شعره. كذلك وضع حسين جواد قبيسي كتابَين بالفرنسيّة، الأوّل عرّف فيه بالمفكِّر والأديب الكبير سهيل إدريس، والثاني جمعَ فيه سيرة حياة الشاعرة الفرنكوفونيّة أندريه شديد ذات الأصل اللّبناني/ المصري، ومُقتطفات من أعمالها الشعريّة والروائيّة. ووضع حسن المصدق المختصّ بفكر محمّد أركون كتاباً تناول سيرته وجملة أعماله؛ والناقد الأدبي أحمد دلّابانتي وضعَ كتاباً عن الشاعر أدونيس، ومحمّد شوقي الزّين أستاذ الفلسفلة في جامعة تلمسان وضع كتاباً عن الفيلسوف عبد الرّحمن بدوي، كما وضع الفيلسوف عبد السلام بن عبد العالي كتاباً عن المفكّر الكبير عبد الكبير الخطيبي، وفرنسوا زبّال الذي كان يرأس تحرير مجلّة “قنطرة” باللّغتَين العربيّة والفرنسيّة طوال عشرين عاماً، وضعَ كتاباً عن المعلّم بطرس البستاني؛ وعرضت جيهان عمرو أستاذة اللّغة العربيّة في جامعة تونس FLAHM سيرة حياة المفكّر فهمي جدعان ونتاجه الفكري، وغرام زهور الأكاديميّة المختصّة بفكر المهدي المنجرة وضعت كتاباً عرضت فيه أهمّ أعماله، كما وضعت حياة أمّامو المختصّة بتاريخ الإسلام كتاباً عن المفكّر والمؤرِّخ هشام جعيّط؛ وتولّى الطيّب العروسي تأليف كتابَين عن العالِمتَين المغربيّتَين حوريّة سيناصر وأمينة إبراهيم رشيد.

ومن المفكّرين العرب الذين جرى تقديمهم إلى قرّاء الفرنسيّة بكُتب تناولت سيرتهم وأهمّ نتاجهم الفكري: عبد الله الغذّامى (تأليف: معجب الزهراني)، أحمد فارس الشدياق (تأليف: دبيش أنس)، الحبيب بورقيبة (تأليف: العربي حوّاط)، علي محمّد زايد (تأليف: جسّاس الأغبري)، علال الفاسي (تأليف: سعيد بنسعيد)، إلياس صنبر (تأليف: حسّان يحيى)، محمود المسعدي (تأليف: شكري ميموني)، عبد الوهّاب المؤدّب (تأليف: المعطي قبال)، صلاح ستيتيّة، الأمير عبد القادر الجزائري، طه حسين (تأليف: الهوّاري غزالي)، سعد الله ونوس، جورج قرم (تأليف: عبد الستّار الجامعي)، عبد اللّطيف اللّعبي، أمين معلوف (تأليف: صديق قبال)، برهان غليون (تأليف: سميرة صايم)، إبراهيم الكوني (تأليف: محمّد اليماني)، فاطمة المرنيسي، رفاعة الطهطاوي، شاكر حسن آل سعيد، عبد الرّحمن الكواكبي، مالك بن نبي، محمّد ديب، نضال الأشقر، فريد بلكاهيّة، يوسف شاهين، ميّ زيادة، واسيني الأعرج، كاتب ياسين، والعالِم العلّامة رشدي راشد… وهذه الكُتب جميعاً باللّغة الفرنسيّة.

في الوقت نفسه ثمّة مفكّرون فرنسيّون غير معروفين لقرّاء العربيّة عمل معهد العالَم العربي على إطلاقهم في فضاء الثقافة العربيّة باللّغة العربيّة ليُصبح فكرهم في متناول القارئ العادي وعلى نِطاق واسع. والكُتب التي وُضِعت باللّغة العربيّة وعرَّفت القرّاء العرب بمفكّرين فرنسيّين، عُهِدَ بتأليفها إلى باحثين عرب مختصّين بفكر هؤلاء المفكّرين؛ فقد تولّى محمّد الجويلي مدير قسم الدراسات الأنتروبولوجيّة في جامعة منّوبة، تأليف كِتاب عن المُستشرق الفرنسي شارل بيلا (Charles Pellat) الذي كان قد درس عليه وحاز منه على دبلوم دكتوراه في جامعة السوربون. كذلك وضعَ الباحث والناقد والمحقِّق الهوّاري الغزالي كتاباً في المُستشرِقة الفرنسيّة دونيز ماسّون (Denise Masson)، ووضع عبد الستّار الحلوجي أستاذ التاريخ في جامعة القاهرة كِتاباً عن المؤرّخ الفرنسي كلود كاهن (Claude Cahen) صاحب الكِتاب المرجعي “الإسلام منذ نشوئه حتّى ظهور السلطنة العثمانيّة” الذي كان قد نقله إلى العربيّة حسين جواد قبيسي.

تتّصف سلسلة الكُتب التي أصدرها معهد العالَم العربي بصفاتٍ مميّزة أهمّها اللّغة المبسّطة والإيجاز، تجعل القارئ يستسيغ القراءة والاستيعاب. هذه الصفات جعلت سلسلة “مائة كِتاب وكِتاب” محطّ أنظار جهات دوليّة استحسنت هذه الفكرة المبتكَرَة في تنشيط التبادُل الثقافي، فتولّدت لديها الرغبة في اعتماد هذا النهج في التبادُل الثقافي. كما جعلت تلك الصفات سلسلة “مائة كِتاب وكِتاب” موضع اهتمام دُور نشر ومراكز ثقافيّة أخرى في دول أوروبيّة أخرى تهتمّ بتعريف المثقّفين من مواطنيها بالمفكّرين العرب، وتعريف العرب بمفكّريها غير المعروفين باللّغة العربيّة. فعلى الرّغم من أنّ سلسلة الكتب هذه هي عبارة عن كتيّبات يتراوح حجم الكتيّب بين حدّ أدنى من 120 صفحة وحدّ أقصى من 160 صفحة، فإنّها جمعت في هذا القدر القليل من الصفحات كلّ ما يودّ القارئ معرفته عن نِتاج المفكّر موضوع الكِتاب: مؤلّفاته، سيرة حياته، الموضوعات التي كَتَبَ فيها، مُقتطفات من الأفكار التي قدّمها وشكّلت سيرته المعرفيّة، كيف تلقّاها المفكّرون الآخرون وماذا كتبوا فيها، كيف تناوله النقّاد والمتأثّرون بفكره، بحيث يتكوّن لدى القارئ معرفة جامعة بالمفكِّر الذي يقرأه وموجزة في آنٍ معاً.

هذه المُبادرة الرائدة في مجال الحوارات الفكريّة بين مختلف ثقافات العالَم، ألهَمَت مُهتمّين كُثُراً بقضايا الحوار بين الحضارات، ودفعتهم إلى تبنّي هذا الأسلوب في تبادُل التعريف بالمفكّرين بين البلدان المُختلفة، على أن يتمّ تنظيم هذا التبادُل على يد مؤسّسات ومراكز ثقافيّة في هذه البلدان. ولا بدّ أخيراً من الإشارة إلى أنّ مجموعة “مائة كِتاب وكِتاب”، هي كنزٌ معرفي يستحقّه كلّ قارئ عربي، ويجدر بالمؤسّسات الثقافيّة والتعليميّة والتربويّة في عموم البلدان العربيّة أن تقتنيها، لا لفائدتها الموسوعيّة فحسب، بل لشَكلِ كِتابها الأنيق الذي حرصَ مدير “المركز الثقافي للكِتاب” الناشر بسّام الكردي، على أن يأتي قطعة فنيّة خالِصة.

***

(*) كاتب لبناني مُقيم في فرنسا

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

(Phentermine)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *