حين أُضيئت أهرامُ مصر بعَلَمِ لبنان

Views: 854

إميل أمين

تبقى بيروت “ستّ الدنيا” مالِئة قلوب المصريّين وشاغِلة عقولهم؛ ولهذا كانت مَوجة التعاطُف الإنسانيّ والوجدانيّ في أرض النيل، نخبةً وجمهوراً، عاليةً وصادقةً، تجاه الانفجار/ الفاجعة الذي ضرب مرفأها وخلَّف ضحايا بشريّة وماديّة هائلة، كما كان انفجاراً غبر مسبوق في شكله ومضمونه وظاهرته العدوانيّة المُفارِقة بحدّ ذاتها.

والشاهد أنّه حين تُضاء أهرام مصر الخالدة بعَلَم لبنان الساكن القلوب، فإنّ المشهد يعبِّر عن عُمق تلك العلاقة بين مصر ولبنان، بخاصّة منذ عصر الأنوار والحداثة العربيّة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والإسهامات الكبيرة في سائر مجالات الحياة المصريّة من جانب اللّبنانيّين الذين كانت لهم بَصمَتُهم المؤثِّرة والخلّاقة في بلْوَرَة البنى الحداثيّة لمصر المحروسة وتشكيلها.

حين نقول إنّ الانفجار كان “أبوكاليبسيّ” الطّابِع، فإنّ ذلك يعني أمراً مؤكّداً، وهو “كشف الحجاب” أو “الرؤية” عمّا حصل من كارثة/ صدمة يُراد استثمارها في حرب لعبة الأُمم على أرض لبنان، وإشراك هذا البلد العصيّ على الكسر في استدراج عروض الإقليم المؤلِمة، غير أنّه في جانبه الإيجابي قد كشف عمّا كان قائماً في قلوب العرب ومَشاعرهم من محبّة عميقة للبنان واللّبنانيّين عموماً.

ما جرى من ردودِ فعلٍ مصريّة تجاه انفجار بيروت كان أمراً لافتاً ومُثيراً، وخصوصاً من جهة شباب مصر، الذين شكّلوا الفئة الأكثر تعاطُفاً وتضامُناً وحماسةً لبيروت من شيوخها، على الرّغم من أنّ هذه الأجيال المصريّة الجديدة لم تعِش سنوات الازدهار والتعاوُن الثقافي والفنّي غير المحدود بين مصر ولبنان.

كما أنّ ثقافة الأجيال الشبابيّة المصريّة واللّبنانيّة الجديدة عن تلك المرحلة الذهبيّة التي عاشها أجدادهم، لا تُشكِّل لهم بوجهٍ عامّ (من وجهة نظرهم طبعاً) مداميكَ ينطلقون منها في خياراتهم الآنيّة والمُستقبليّة، اللّهم إلّا في حدودٍ دنيا لمَن أراد منهم الأمر.

وعليه نسأل: لماذا بقي لبنان إذاً في قلوب المصريّين على هذا النحو الذي تجلّى في ردّات فعلهم الإيجابيّة الهائلة، شبّاناً وشيباً، مسيحيّين ومُسلمين، أغنياء وفقراء؟

باختصار، لأنّ لبنان كان، وعبر عقود طويلة ماضية، رمزاً للتحضّر العربي وعلامةً فارقة من علامات الحضارة العربيّة في طبعتها المنقَّحة والمُنفتحة.

كان لبنان (ونصرّ على أن يظلّ) بلد التجانُس والتناغُم والتعدّديّة الدينيّة والمذهبيّة، بلد الحريّات الديمقراطيّة والفكريّة والإعلاميّة، المُنفتِح مبكّراً على أوروبا والغرب عموماً، ثقافيّاً وسياسيّاً وفكريّاً وفلسفيّاً، هكذا من دون إحساسٍ بالدونيّة أو النقص.

صدّر لبنان للعالَم العربي فكرَ القوميّة العربيّة، بهدف استقلال العرب والخلاص من ربقة العثماني المُحتَلّ من جهة، وإنهاء أزمنة الانتداب الأوروبي من جهة ثانية. عرف العالَم كلّه لبنانَ، المُتألّم اليوم، مثالاً للحداثة والتحديث، منذ خمسينيّات وستينيّات القرن العشرين إلى سبعينيّاته، من غير أن يقتضي ذلك تخلّيه عن أصالته وتراثه العروبي، فمثَّل عن حقّ الصفة التي أُطلقت عليه: “سويسرا الشرق”. كما كان أظهر بحراك تيّاراته الأدبيّة والفنيّة، ومَسارحه وجامعاته وصُحفه ومجلّاته علامة رياديّة دالّة للعرب جميعاً، والمصريّين منهم على وجه التخصيص.

اللّبنانيّون في مصر

قصّة اللّبنانيّين في مصر هي قصّة ذات مذاق غالٍ وعال، من حيث علامات الرقيّ والتحضُّر والتطوُّر الفكري.. وكذلك من حيث التأصيل لمساقاتٍ طليعيّة على طريق تحرير الإنسان العربي ومنه المصري عبر سائر مندرجات النهضة.

يُدرك المصريّون، وبقناعة كبيرة، أنّ معظم اللّبنانيّين، إن لم يكُن كلّهم، ممّن أقاموا في مصر ردحاً، إنّما كانوا من المُتعلّمين تعليماً عالياً، ومن المُثقّفين ثقافة عضويّة متميّزة. وفي ضوء ذلك أسهمت الجاليات اللّبنانيّة، على اختلاف حقبها، في رفاه مصر الثقافي والمالي، بخاصّة خلال عهد أسرة محمّد علي باشا التي انتهت بثورة 23 تمّوز (يوليو) 1952.

عرف المصريّون، ولاسيّما أهل الثقافة والأدب منهم، بيروت من خلال كِتابات جبران خليل جبران وأشعار خليل مطران وإيليا أبي ماضي، وهاموا عشقاً بها، وكذلك في ما بعد بكلمات الرحباني مغنّاة بصوت فيروز. ووجدوا في صحافتها مجالاً رحباً للتعبير عن آرائهم، بخاصّة حين انسدّت في وجوههم مَسارات الحريّات الصحافيّة في فترات زمنيّة بعَينها، فكانت بيروت هي الملجأ والحاضنة للكثير من الأقلام المصريّة الحرّة والمعروفة.

لهذه الأسباب وغيرها، بقيت بيروت المدينة الساكنة أسوار المخيال العربي على حدّ تعبير المفكّر الرّاحل محمّد أركون، ولاسيّما أنّها لم تغب يوماً عن الذاكرة من خلال مقاهيها ومَسارحها و”ضجيجها” الحريّاتي الخصب والغني. وباختصار، كانت بيروت ولا تزال، حالة وليس مدينة، حالة من التمثُّل الجمالي والنسق الإبداعي لكلّ ما هو حديث ومُثير، شيّق وفتّان، بشراً وحَجَراً.

حين وصفَ الراحل سمير قصير بيروت بأنّها “جمهوريّة الآداب العربيّة”، فإنّه لم يكُن يغالي، ولعلّ هذا هو الإرث العظيم الذي بقي، على الرّغم من الخسائر التي أحدثها الانفجار الفجائعي، بشريّاً وماديّاً، إذ إنّ هناك ما لا يُمكن أن يُمحى من العقول والصدور؛ إنّه ذكرى عباقرة لبنان الذين حفروا أسماءهم في ذاكرة المصريّين والعرب عموماً.

أفضل تعبير يُمكن أن يُقال عن العلاقات الثقافيّة المصريّة – اللّبنانيّة، إنّها كانت ولا تزال، علاقات تنافسيّة تكامليّة صبّت في نهاية الأمر في رافد الحضارة العربيّة، وشكّلت أساس النهضة العربيّة الفنيّة والثقافيّة الحديثة.

يَذكر المصريّون بكلّ إكبارٍ وإعجاب تلك الشابّة اللّبنانيّة الصغيرة التي اضطرّتها ظروفها الاجتماعيّة والعائليّة الصعبة إلى مُغادرة لبنان إلى مصر، والتي سيقدَّر لها لاحقاً أن تصير واحدة من أبرز الوجوه المسرحيّة في مصر والعالَم العربي، وكذلك واحدة من روّاد وصنّاع الصحافة المصريّة والعربيّة: “روز اليوسف” أو فاطمة اليوسف (1809 – 1958)، والتي أصدرت صحيفتها الحاملة اسمها، فكانت نواةً للنهضة الصحافيّة السياسيّة والثقافيّة العربيّة بشكلٍ عامّ.

ولن ينسى معشر المثقّفين المصريّين كذلك، وعلى امتداد تاريخهم الحديث، رموزاً أدبيّة لبنانيّة بعَينها، بينهم الرائعة ميّ زيادة، وصالونها الأدبيّ الشهير الفاعِل والمُتفاعِل في الحياة الثقافيّة المصريّة والعربيّة، وعشْق عبّاس محمود العقّاد لها، وقصائده التي عبّر فيها عن هيامه العميق بها.

من زمن الفينيقيّين والفَراعنة

الحفْر عميقاً وفي جذور التاريخ، يكشف لنا أنّ العلاقات المصريّة – اللّبنانيّة تعود إلى آلاف السنين والحقب. وهي نموذج للتفاعُل التاريخي الإيجابي والخلّاق بين فريقَين عريقَين في تاريخ المنطقة والعالَم: الفينيقيّون والفراعنة. وهذا ما تسجّله رسائلهم المكتوبة على جدران مَعابِد تلّ العمارِنة في مُحافظة المنيا، جنوب القاهرة، وفي صعيد مصر. فقد سجِّلت أو بالأحرى حُفرت سطورٌ عن علاقة المصريّين القدامى (الفراعنة) بالفينيقيّين في لبنان وتحديداً منهم القاطنون في مدينة جبيل (بيبلوس) والعلاقات التجاريّة التي ظلّت قائمة على مدى قرون طويلة، حيث كانت مصر تحصل على خشب الأرز والصباغ الأرجواني، بينما يحصل لبنان في المُقابل على كتّان إخميم المغزول الذي لم يكُن يضاهيه نسيجٌ في العالَم.

هيام الشباب المصريّ بمُدن لبنان

كِتابات الشباب المصري على صفحات وسائل التواصُل الاجتماعي بعد الانفجار الحزين، فاجأت الجميع وأدهشت المُراقِب الذي خُيِّل له أنّ لبنان لم يعُد مقصداً سياحيّاً بمذاقٍ أدبيّ لأجيالٍ حديثة فقط، فقد حكى الكثير منهم حكايات تهيم عشقاً بمُدنٍ لبنانيّة مُختلفة، ساحلاً وجبلاً: من بنت جبيل إلى جزّين فصيدا ودير القمر وبعلبك، وصولاً إلى بيروت وجونيه فطرابلس… إلخ.

وفي الوقت عَينه وجدنا ردوداً من شبابٍ لبناني سهر اللّيالي في أحياء القاهرة العتيقة عشقاً بها وانجذاباً لعلاماتها، وتغنّى بالشعر على شواطئ الإسكندريّة، كما فعلت فيروز في “شطّ إسكندريّة”، ومنهم مَن شدّ الرحال إلى سيناء أرض الفيروز والعقيق، مُكتشفاً سحرَ البادية فيها، وكذلك فضاء الأنبياء والرُّسل وثقافة سبعة آلاف عام. حالة العشق المصري للبنان كان نَظَمَها من قبل أيضاً أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته الرائعة “يا جارة الوادي”، والتي غنّاها موسيقار الجيلَين محمّد عبد الوهّاب، ومن بعده السيّدة فيروز.

ثمّ ماذا بعد ذلك الانفجار؟

الشاهد أنّ المشهد الأليم يُمكن أن يُقرأ على أكثر من وجه، والبداية من لبنان الذي بات رهين قوى راديكاليّة لا علاقة لها، لا من حيث الشكل أو المضمون، بتكوينه اللّيبرالي الحرّ، ولا بعالَم الإبيستمولوجيا الواسع والفسيح، قوى منقطعة العلاقة بالتعدّديّة أو التنوّع الذي يزخر به لبنان من زمان طويل، حتّى بات جزءاً من تكوينه وهويّته الخصوصيّة.

من ناحية أخرى، يُمكن اعتبار الانفجار “الأبوكاليبسي” الأخير بمثابة إعلان بانتهاء أزمنة الضباب التي خيّمت على بيروت وبانقشاع السحب وظهور شمس الحريّات اللّبنانيّة من جديد.

ليس خافياً على أحد، أنّ ما قدّمته مصر للبنان خلال أزمته الأخيرة، ليس مساعدات ماديّة أو لوجستيّة، إذ قدَّمت قلوباً عاشقة ومُحبّة وأيادي مُمتدَّة بصدق للإسهام بإعادة استنهاض وطن الأرز من وهدته التي طالت، والعمل يداً بيد، مع أبناء شعبه، لإعادة زمن الأمجاد الذهبيّة على كلّ صعيد.

***

(*)  كاتب من مصر

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة افق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *