قراءة في قصة “الخريف” لهدى حجاجي

Views: 638

الناقد حيدر الأديب

“ان جميع ما يفعله البشر الا علاجا لغلطة وجودهم”

عبد الله القصيمي

“لا وجود لكلمات هناك استعمالات فقط”

فتنغنشتاين

*”تتلخص قصة الخريف لـ هدى حجاجي بعودة رجل مع حفنة أموال الى وطنه ليستقر بعدها منهكا متعبا قد أكله المرض والذبول والوحشة، فهو لا احباب ولا أصحاب سوى المال الذي خذله مع المرض وانعدام الرغبة بأي شيء ويسكن معه بواب وخادم وزوجة الخادم ويتردد عليه الطبيب وممرضة وذكريات جمدت على قارعة اليأس وارملة حسناء تنزع عنه مخلفاته المكتظة برائحة البول والغائط بدافع الإنسانية، كما تصرح هي، بينما هو يقول إن كل ما حولي هو بدافع المال اللعين فثمة أقرباء حراس على الوقت ينتظرون ساعة رحيله عن هذا العام لينهشوا أمواله كما ينهش الخريف الشجرة التي تحاوره عبر نافذته الكسولة من الحياة.

يدور حوار بين خريف روحه وجسده المتلاشي وخريف الأرملة الحسناء التي تشطب على سوداويته وتطهر أفكاره، لكن قد فات الأوان على هذا، فالخريف محكم هذه المرة وكل يوم يسقط يوم عن اسمه ويصفر موعده ليعلن الباب بقفلته صمت المكان والهدوء النهائي برحيل الجسد في تابوت الخريف.

ان مدلول القصة يؤكد خريف الروح والجسد والقيم. خريف في الخارج بقرينة الشجرة وخريف في الروح والجسد والنوايا وتتناص القصة مع مأسوية “سيوران” في نقمته على الحياة، بفارق ان سيوران بدأ خريفه مبكرا ومزمنا وأخذ يهش به على معنى الحياة”.

***

تظهر الدراسة ان الخريف في هذه القصة هو احتجاج على معنى الحياة، احتجاج تم رصده عبر تقنية الوصف الذي حوّل المظاهر الى تأملات في كينونة الانسان المهدمة وعبر الرمزية التي تتشكل في ذهنية المقاصد من المقولات المزروعة في مساحة السرد

لا نتحدث هنا عن ذاكرة الكلمات التي تربى فيها الخريف، اننا نتحدث عن السياقات الممكنة فيه بوصفه استعمالا معتديا على المسافات الضابطة لأيقاع الحياة.

هدى حجاجي تدس فراشاتها النقدية في حقول الوصف كي تعري هذا الاستعمال من وجاهته أو تصادق عليه انها بالأساس تفضح “مخلفات الذات في ملفوظها”1.

ان قضايا الحجاج المطروحة هنا تمثل مزيجا من قضايا معيارية وأخرى وصفية تتبع خلفية البطل المعرفية وهي ادعاءات واصفة كما ظهر من اطلاقاته او من حواره مع الأرملة الحسناء

القضايا المعيارية كما مقولة الخير والأنسانية والقناعة لهذه الأرملة.

المتأمل في هذه القضايا يرى انها تضمنت مقدمات غير منصوصة وأخرى مفترضة وثالثة على فراغات منطقية، هذه الثلاثة كانت مزروعة بذكاء في الجملة القصصية لدى كل بطل وهذا يحتاج لدراسة مستقلة.

واحدة من مظاهر الأداء لتمثلات الخريف بوصفه بنية حجاجيةفي هذه القصة هو الوصف وقيمته، هنا تتجلى بتحويل ما هو بصري الى فعل تأمل، مما يعطي كمًا مضافا ومضاعفا، فالمشهد البصري مثلا لشجرة عارية تحتها طفل لا يتحدد بهذا المعطى الواقعي فقط، انه يخلق علاقات مضافة مصدرها ذاكرة الشيء المبصر وكذلك الوعي المتصادم بهذه الأشياء، فما بالك اذا تحول المشهد البصري الى قوة انجازية في اللغة فانها ستمد المشهد بذاكرة الكلمات الواصفة وبالسياق فتكون الوحدات البصرية والدلالية حية في وعي المتلقي لا في ذاكرة العين او الكلمة فقط وانها (الأشياء وعناصر الطبيعة) وهي تدمج في سياقات الأبداع لا تقول لنا ما تعاني أو ما تفكر لأنها لا تعاني أو تفكر غير انها تقول لنا ما نعاني ونفكر به وتساعدنا في الوقت ذاته على قول ذلك2.

يعتبر تكرار مشهد الشجرة ثلاث مرات من أروع تقنيات المؤدى الدلالي المتفرع عن ذات الجذر وفي كل تكرار حيثية مختلفة وكأنك ترى تفريق نص شعري على جسد السرد بل هو ما حدث فعلا، فهذه المشاهد الشعرية بؤر دلالية تعيد لم شمل السرد في تركيز الخريف في الشجرة وتنوع في المشهد نظرا لجهات النفس المتعددة والتالفة بغائط العدم:

“ثمة شجرة فى الخارج تحت الشمس، وغبار ينتشر من خلال النافذة/ ثمة شجرة فى الخارج تلطمها الرياح، تئن، يسمع الأوراق تتساقط فى خشوع واستسلام/ الشجرة ينهشها الخريف”.

إطار تخيلي

تحاجج قصة الخريف في إطار تخيلي تحققه نمذجة المقولات والمواقف والأسئلة وبنائية الوصف والتعليقات المودعة فيها وشكل الحجاج هنا يتمظهر اما عبر مقاصده الظاهرة أو المضمرة وتتمثل الظاهرة في استعارات تعيد بث المقصد في حكمة او موعظة او استفزاز أو تحريض بينما المضمرة تتمثل بتشكيل المشاهد الحاضنة للبؤر الدلالية المنتجة لأهداف الحجاج

ولهذا السبب “يجب ان لا نبحث عن الدلالات خارج اسوار الواقعة فما يوجد خارج الاسوار يحضر في الواقعة على شكل احالات رمزية واستعارية وايحائية تشير الى الوجود الكموني لعوالم تحتاج في تحققها الى تنشيط ذاكرة الواقعة وصنع سياقتها الممكنة التي تمثل امامنا كتجارب بالغة الغنى والتنوع”3.

فمنذ العنوان (الخريف) تضعنا القصة في معطاه الرمزي باعتباره استعارة كبرى فالخريف تشكيل تأويلي للاغتراب والحرمان والهزائم والخسائر والأسئلة المهاجرة صوب فهم أسبابها المأسوية وهيمنة الذبول. ان الخريف معجم محايث يتولد في اللامرئي والمجهول ويتمظهر في النماذج السائدة لتلاشي الهوية ولهذا فان السرد يسير هنا بوعي حثيث لأثارة هذه المشاهد عبر رمزيتهفي محاولة لأعادة فهم بنية الذات أو استعادتها أو حذف ما يمكن ان يقع ما يماثل خسارتها، بعبارة أخرى ان السرد هنا وهو يحاجج فهو يدفع باتجاه التأمل في موسوعة الخريف “لأن الزاوية الرمزية هي ما يمكننا من فهم الحياة الأجتماعية ومن ثمة إمكانية تغيير واقعها انطلاقا من عمل التأويل والرمزية وظيفية تأويلية تقوم مقام المواضيع بالنسبة لمنهج التأمل المجرد فتستحضر الأشياء التي لها أصل في المجتمع وتؤدي دورا في تشكيل حقائقه وتفعيل نشاطته”4.

تتصدر القصة بهذه اللقطة “السماء من الفضة الصافية لكن الكآبة فى نفس الرجل أشد”. ليست هذه اللقطة ساكنة كما يتراءى بل هي متحركة في أفق بصري معزز بكم دلالي “السماء من فضة صافية”، فهذا المشهد البصري يستبطن احالات تتعالق بمغزاه الصوفي والاجتماعي من دلالات التزامية من هدوء البال ورغد العيش كذلك فان اللقطة متحركة في افق نفسي صادم. ولنر المتقابلات “السماء – النفس / فضة صافية – كآبة اشد”، هذه اللقطة السريعة تتركب من سياق مضموني استعاري ومن سياق نفسي واقعي وهي لقطة ذات بنية حجاجية استخدم فيها العامل الحجاجي “لكن”، فالحجة المقدمة ان السماء بصفاء الفضة لكن سماء النفس أشد كآبة وقد قيل ان القول الأستعاري يأبىان يأتي بعده رابط من روابط التعارض الحجاجي فتكون الجملة ملحونة وأرى ان السياق محكوم للمغزى فتصح العبارة .

شعور داكن وثقيل

على اية حال يرد مشهد الكآبة كأول فعل انجازي للخريف ويهيمن شعور داكن وثقيل منذ هذه اللقطة كتهيئة لما يأتي من أحوال هذا الراحل العائد بحفنة من المال وطرح السؤال هو فترة محذوفة لكنها تخبرك انه رحل للمال وعاد به وفكرة السؤال تقنيا هو لتحجيم هذا المال في مؤداه الواقعي مهما اتسع له العمر من خزائن وملذات بمعنى ان طرح السؤال سيفتح السرد على الوصف “أم ليموت هنا كالأفيال؟ يعرف مقبرته ويستشعر النهاية بعد ما زحف الوهن وتنملت الأطراف وركدت الهمة وفقد الرغبة فى الانطلاق. العرق يطفح من مسام جلده المكرمش. ووجهه المليء بالتجاعيد كثمرة عنب عفا عليها الزمن”. والوصف هنا مبني على الترسيخ في مقدمته والتعيين في خاتمته لذكر الأفيال في مقدمته والعنب في الخاتمة وهو تعيين غير واقعي لان القصة في إطار تخيلي وهو من منتجات الذات الواصفة يترجم وجهة نظرها في مهيمنة الخريف ينحدر الخريف من سلالة الأغتراب والضياع وذبول القيم والتشوهات وهو ليس معطى مفروضا بقيم سالبة تهدد المسافات الخضراء من الكينونة الأنسانية وليس هو وصفا جاهزا تقاس عليه الانهزامات والتصدعات والخسارات والأحزان المجانية.

ليس الخريف صورا فوتوغرافية تختزن ضرورات الخراب مدفوعة العمر على ذمة الذكريات

الخريف نص وجودي خطير مودع في ذاكرة الطبيعة وفي المعجم النفسي والأجتماعي لكنه متخفي ولا يكشفه الا وعي الوقائع التي تهبه اشكال تحققه وتمنحه هويته ومغزاه في كل مرة انه الخراب المنتظم في لهجات الكينونة وسؤالها الثابت، وبهذا فان معناه “مبرمج بشكل سابق في مستويات مجردة لا ترى الامن خلال تشخيصها.

في وضع قصة الخريف، هذه الفسحة الحجاجية، نرى تمظهر الخريف في كائناتها وهو يؤدي وظيفته الخلاقة في العائد ليموت كالأفيال وفي الشجرة وفي الأرملة الحسناء وفي الذكريات ذات الأحراش وذات الجليد الذكريات المسكوبة في نون النسوة يؤدي الخريف وظيفته بتمام الحرص في نوايا الأصدقاء الغارقين في الترقب يبتغون الميراث ويعدون الأيام الصفراء ولا يقف في وجهه لا المال ولا حسن التوكل على القناعة في تقبل رائحة البول ولا التصبر على الغبار الراحل في “لا ضرورة لأي شيء / الريح تكنس كل شيء”.

موسوعة الوظائف

تتجلى علائق الخريف بكيفيات مختلفة مع “موسوعة الوظائف” الوظائف هنا هي القيم المصفرة التي تقدم القصة من خلالها وجهة النظر الحجاجية وهي “المال الملغى إزاء كثمرة عنب عفا عليها الزمن” و”الشباب الملغى إزاء الممرضة التي تتحمل رائحة البول فى الملابس، وامرأة أخرى تغسل ثيابه المليئة بالغائط” و”مغزى الإنسانية الملغى إزاء أقارب كان قد نسيهم. يشغلهم الميراث والنهب القانوني”.

ليس هناك الا قيم مصفّرة “الناس! أين هم الناس؟ البواب وزوجته والخادمة والممرضة والطبيب ليسوا ناسا. إنهم وظائف مختلفة” ليس هناك الا عد تنازلي في لا معنى الحياة “فأي معنى للحياة؟”.

إن هذه الكيفيات هي صيغ حجاجية ضد الحياة المقاسة على وحدات الخريف وهي كيفيات تستدعي ببراعة منظومة الخريف في أكثر من مشهد تناصي لفلسفة سيوران ذلك الفيلسوف الأكثر كتابة في المأساوية والذي يعتبر الواقع ما هو الا قمامة ويقول “الموت الحقيقي للإنسان هو ولادته اليست الولادة هي سقوط الروح في قبر الجسد”، ويرى مؤكدا (إذا أمكن للايمان او السياسة او الحيوانية النيل من اليأس، لا شيء ينال من الكآبة: لا يمكن أن تتوقف الا مع آخر قطرة من دمنا”5، هذه الكآبة الأشد من فضة السماء “لم يعد هناك إلا العد التنازلي. الشجرة ينهشها الخريف، والمرأة تنصرف. سمع صوت الباب الخارجي يُقفل بإحكام، ويهيل الصمت على المكان….

***

الهوامش

سيمائيات النص مراتب المعنى / سعيد بنكراد

نفس لمصدر

المعنى بين التعددية والتأويل / سعيد بنكراد

الهرمنيوطيقا والحجاج /عمارة ناصر

المعنى والغضب مدخل لفلسفة سيوران / حميد زناز

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. ان قصة الخريف للاديبة هدى حجاجى اراها كقارئ عادى من اروع قصصها جميعا بل وانى وضعتها على صفحتى الشخصية فخورا بها حيث تحكى حقبة زمنية بعينعا تهافت معظم الناس سعيا حثيثا لجمع المال من خارج بلادهم ثم مايلبثون ان بجدوا انفسهم خريفا قاسيا لايقوى على الاستمتاع بشيئ وذلك باسلوب ادبى مبهر….