لم تعُد أميركا تستثير الحُلم..

Views: 9

د. رفيف رضا صيداوي

في عددها رقم 1564 لـ 22 – 28 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2020، خصَّصت دوريّة “كورييه أنترناسيونال” الفرنسيّة ملفّاً خاصّاً بعنوان: لم تعُد أميركا تستثير الحُلم L’Amérique ne fait plus rêver، على اعتبار أنّ صورة الولايات المتّحدة، نقلاً عن مجلّة “ذا أتلانتيك The Atlantic” الأميركيّة، وبحسب الكاتِب البريطانيّ توم ماك تاغ Tom McTague، تراجعت خلال السنوات الأربع من ولاية دونالد ترامب، حتّى أنّها باتت تُثير في الخارج شعوراً بالشفقة. وقد اختارت نشرة “أفق” نقل وجهة النّظر هذه بتصرّف انطلاقاً من مقالة توم ماك تاغ المنشورة في “ذا أتلانتيك” في 27 تمّوز (يوليو) الفائت.

يبدأ توم ماك تاغ مقالته هذه باستشهادٍ من رواية “سمكري خيّاط جندي جاسوس” (Tinker Tailor Soldier Spy) [تُرجمت الرواية إلى الفرنسيّة بعنوان: La Taupe] للروائي البريطاني جون لو كارّيه John Le Carré، والتي تناول فيها مؤلِّفها شخصيّة “بيل هايدن Bill Haydon” العميل المُزدوِج في خدمة السوفييت، والذي تمّ إدخاله إلى قلب المُخابرات البريطانيّة. حيث يَرِد في رواية لو كارّيه أنّ العميل عند انكشاف أمره: “كان يضمر كرهاً عميقاً لأميركا”، وأنّ خيانته لم تكُن بسبب العداء لإنكلترا بقدر ما كانت بسبب كراهيّته أميركا.

استعاد توم ماك تاغ هذا المقطع من الرواية عند رؤيته المُظاهرات ومَشاهد العنف التي انتشرت في الولايات المتّحدة ثمّ في أوروبا ومناطق أخرى في العالَم على أثر مقتل جورج فلويد، حيث الكثير من الكراهيّة والعنف والوحشيّة والتحيُّز ضدّ المُتظاهرين، ليُعلِّق قائلاً إنّ جمال أميركا بدا وكأنّه اختفى واختفى معه تفاؤل هذا البلد وسحره وعفويّته كصفاتٍ تغوي الكثير من الناس في الخارج.

وفي رأي كاتِب المقالة، فإنّ تحليل لو كارّيه لأصول العداء للأميركيّة – المُعبِّر عن نفورٍ عميق أكثر من تعبيره عن نقد سياسي للولايات المتّحدة – لا يزال صالحاً اليوم كصلاحيّته في العام 1974 عند صدور روايته؛ إذ إنّه لَمِن الصعب تجاهُل أنّ المرحلة الحاليّة هي مرحلة مُهينة للولايات المتّحدة: “فنحن معتادون على سماع أناس يكنّون البغض للأميركيّين، أو أناس يبدون إعجابهم بهم، أو أناس يخافون منهم (وأحياناً تجتمع هذه الأمور كلّها في آن)، لكنْ أن يشعر أناسٌ بأنّهم يشفقون على الأميركيّين؟ فهذا لعمري شعورٌ جديد…”.

حتّى في فترات ضعفها السابقة، استمرّت واشنطن في السيادة بوصفها سيّدة. أيّاً كانت طبيعة التحدّي، أكان معنويّاً أم استراتيجيّاً، فلطالما ساد شعورٌ حيال هذا البلد بأنّ حيويّته السياسيّة تُعادِل أو تُساوي قوّته الاقتصاديّة والعسكريّة، وبأنّ نظامه وثقافته الديمقراطيَّين قويَّان للغاية، بحيث يجدان دوماً الطاقة لكي يتجدّدا.

لكنّ شيئاً ما تغيَّر اليوم. تبدو أميركا في حالة غرق تامّ، فيما الشكّ قائم بقدرتها على الارتداد عن حالتها هذه. ثمّة قوّة جديدة، هي الصين، قد ظهرت على الساحة العالَميّة لتجعل من سيطرة الولايات المتّحدة بسلاحٍ لم تمتلكه روسيا يوماً مَوضع تساؤل وتشكيك. والمقصود بذلك التدمير الاقتصادي المُتبادَل. وبعكس روسيا، يُمكن للصين أن تُظهر مستوى مُحدّداً من الازدهار والحيويّة والتقدُّم التكنولوجي، وإنْ لم يكُن بمستوى الولايات المتّحدة، فيما هي مَحميَّة بورقة الحرير التي تُشكّلها الحواجز اللّغويّة والثقافيّة. فالولايات المتّحدة هي الأمّة الوحيدة التي ينبغي عليها تجاوُز الآلام الوجوديّة تحت أنظار الأُمم الأخرى. “المآسي الأميركيّة تغدو بسرعة مآسينا نحن”.

سيطرةٌ ذات حدَّيْن

منذ بداية التعبئة التي تسبَّب بها مَقتل جورج فلويد، انتقلت الشرارة من الولايات المتّحدة ضدّ المَظالم الوطنيّة لتُطاول العالَم بأسره. وتنطوي السيطرة الثقافيّة للولايات المتّحدة على قوّة كبيرة، وعلى شيء من الضعف في آن. إذ إنّ هذه البلاد تجذب المَواهب من العالَم فيقصدها الموهوبون للدراسة، ولتأسيس الشركات والازدهار. لكن على الرّغم من ذلك، فإنّ لهذه الهَيمنة تكلفة: “العالَم قادر على النَّظر إلى أميركا لكنّ العكس غير صحيح”. في حين أنّ الأعمال الشائنة التي تكشف عنها أميركا اليوم تُفاقِمها مواقف الرئيس ترامب.

ولفهْم كيف ينظر العالَم إلى هذه اللّحظة التاريخيّة الرّاهنة من تاريخ الولايات المتّحدة الأميركيّة، أشار توم ماك تاغ، إلى مُقابلات أجراها مع عشرات الشخصيّات الدبلوماسيّة والسياسيّة (من بينها رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير)، فضلاً عن باحثين من خمسة بلدان أوروبيّة كبرى، لاستطلاع آرائهم حول الموضوع، ليَخرج بصورةٍ ما عن عالَم اليوم. فبدا له من خلال الصورة التي كوَّنها أنّ الحلفاء المقرّبين جدّاً من الولايات المتّحدة مذهولون ولا يدرون ماذا سيجري، يجمعهم شعور بالقلق وبأنّ الولايات المتّحدة والقوى الغربيّة تتّجه نحو نهاية عصرها. فالاضطّرابات وأعمال الشغب الحاليّة ليست بجديدة، لكنّ الوضع الحالي بشكلٍ خاصّ هو في غاية الخطورة. فقد عمّت المُظاهراتُ، وكذلك العنف والعنصريّة الشوارعَ في الوقت الذي كشف فيه وباء كوفيد-19 بوضوح النواقصَ المؤسّساتيّة للبلاد. ولم يكُن ذلك كلّه أو هذه الميول كلّها – بحسب مُحاوري توم ماك تاغ – خطأً تسبّب به ترامب بطبيعة الحال، وقد أشار بعضهم إلى فترة حُكم أوباما والتعدّيات والإساءات التي اقتُرفت خلال حرب العراق بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر. فيما شدَّد توني بلير وغيره من الشخصيّات على القوّة الأميركيّة وقدرتها غير العاديّة على التحمُّل – أيّاً كان المُقيم في البيت الأبيض-، ناهيك بالمشكلات البنيويّة للصين ولأوروبا وغيرهما من المُنافسين الجيوسياسيّين. وقد توافق غالبيّة المُحاوَرين على أنّ دونالد ترامب سرَّع حركة المساوئ الملحوظة ليس إلّا.

ويعلّق توم ماك تاغ أنّه “بعد نحو سنوات أربع من رئاسة ترامب، عبَّر الجميع، من دبلوماسيّين وممثّلين رسميّين ومسؤولين سياسيّين أوروبيّين، عن درجات مُتفاوِتة من الحيرة والسخط والقلق، وبدوا عاجزين عن الخروج – بحسب ما وصف أحدهم الوضع – من الغيبوبة التي أحدثتها الصدمة الترامبيّة”، وبدوا غير قادرين على اقتراح بديلٍ عن السيطرة الأميركيّة.

أمّا وأنّ أنظار العالَم موجَّهة صوب الولايات المتّحدة، فهل إنّ شكل خطاب ترامب أو مدى عمقه يا ترى هو الذي يُسبِّب ردود الفعل غير المُبرَّرة هذه؟ ولماذا لم نَشهد إذن مُظاهرات في أوروبا ضدّ السجن الجماعي للأيغور في الصين، أو ضدّ إنكار المُمارسات الديمقراطيّة في هونغ كونغ، أو ضدّ ضمّ روسيا لشبه جزيرة القُرم، أو ضدّ الأنظمة المُستبدّة في الشرق الأوسط؟

وبحسب ما أكّد وتساءل عددٌ من المُحاوَرين، ألَم يغدوَ مَقتل جورج فلويد ومُعالجة الأمر من قِبَلِ ترامب نوعاً من التراكُمات لكلّ ما لا يسير على ما يرام في العالَم؟ فإذا كان الأمر كذلك، ألا تغدو حركة الإدانة هذه للولايات المتّحدة فعلَ تحدٍّ رمزيّ بحت؟

الفاصل التاريخيّ

ليست المرّة الأولى التي يعلن فيها باقي العالَم عدم توافقه مع واشنطن. وقد شاهدنا ذلك مع حروب فييتنام والعراق، والعَولمة، والاحتباس الحراري. وحدث أن أدّت سياسة الولايات المتّحدة إلى نفور أكثر الحلفاء المقرّبين منها، مثلما جرى في أثناء رئاسة جورج دبليو بوش، والذي كان شخصيّة معرَّضة بشدّة للسخريّة والكره والرفض في العالَم أجمع. لكنّ مُعارَضة أميركا لم تبلغ من قبل هذا المستوى الذي بلغته اليوم. (Valium) لقد شكّل ترامب حالة فريدة. لم يتراجع جورج دبليو بوش أبداً عن فكرة أنّ القوى الغربيّة يجب أن تلعب معاً، وأنّ توزيع الأدوار يقع على واشنطن، غير أنّ ترامب لا يتصرّف إلّا بحسب مصالحه الخاصّة. وبحسب مُستشارٍ مقرَّبٍ لزعيمٍ أوروبي رفضَ الكشف عن اسمه، فإنّ تعاطُف الأوروبيّين مع الكليشيهات الساذجة – “الحلم الأميركي” أو فكرة أنّ الولايات المتّحدة ستكون “زعيمة العالَم الحرّ” – سرعان ما تمّ التخلّي عنها بسبب وقاحة ترامب وعدم لياقته وسوء تصرّفه.

انقشاع الوهْم بحسب هذا المصدر المذكور بدأ مع أوباما وتشكيكه المُعلن بمفهوم الغرب نفسه، حيث بلغ هذا الأمر ذروته مع دونالد ترامب الذي سجَّل تخلّيه عن المثل الأعلى الأميركي علاماتِ انقطاعٍ في التاريخ العالَمي. هذا الترامب الذي سبق أن صرّح في إحدى مُقابلاته على الملأ – ردّاً على قول مُحاوِره “إنّ الرئيس الروسي بوتين قاتل” – أنّ “هناك الكثير من القتلة” ومُضيفاً: “هل تعتقدون أنّ بلدنا هو على قدر كبير من البراءة؟”. وبالنسبة إلى أميركا اليوم، فإنّ العلاقات الدوليّة لم تعُد أكثر من حركة تبادُلات. لكنْ يبقى، وفي ما يخصّ أوروبا، أنّ الحفاظ على الهَيمنة الأميركيّة، على الصعد الثقافيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، لا يزال واقعاً فعليّاً.

مؤسّسات ضعيفة

يورِد توم ماك تاغ قَولَ غالبيّة مُحاوريه إنّهم قلقون بشكل أساسي من تقلُّص القدرات الأميركيّة: الخدمات الصحيّة بالكاد تقوم بدَورها، صناديق البلديّات فارغة، قوّة الدولة تميل إلى أن تنحصر بالشرطة والقوّات العسكريّة…، ناهيك ببلوغ الانقسامات الداخليّة مستوىً دَفَعَ معه العديد من المُراقبين الأجانب إلى التساؤل عن قدرة واشنطن على حماية مَصالِحها خارج حدودها. حتّى أنّ دونالد ترامب نفسه بات تجسيداً لهذا التراجُع الأميركي بحسب سفيرٍ أوروبي سابق. لكنّ آخرين، ومن بينهم توني بلير، لا يؤيّد هذا الرأي ويقول: “في العلاقات الدوليّة، يجب التمييز دائماً بين نظرة الناس إلى الأسلوب الشخصي للرئيس ترامب وبين رأيهم بالسياسة التي يقودها”.

العالَم أميركيّ بامتياز

يخلص توم ماك تاغ إلى أنّنا نعيش في عالَمٍ أميركيّ، وإلى أنّ الأمر سيستمرّ على حاله حتّى لو فقدت الولايات المتّحدة من قوّتها شيئاً فشيئاً. والأوروبيّون يشكّلون مجموعة عالَميّة مهووسة بالولايات المتّحدة ومُسيطَر عليهم منها. إنّهم مجموعة رجال ونساء يشعرون أنّ ما يجري في هذا البلد يخصّهم، حتّى ولو لم يكونوا مُواطنين أميركيّين. فمُشكلة أميركا هي أنّ العالَم بأسره قادر على ملاحظة إخفاقاتها. وفي بعض الفترات كتلك التي نعيشها حاليّاً، يصعب تكذيب الانتقادات التي يُوجِّهها إليها بعض الأشدّ انتقاداً لها: الولايات المتّحدة هي أمّة عنصريّة بعُمق، وغير مُبالية بالفقر والعنف سواء أكان مصدره الشرطة أم انتشار الأسلحة الناريّة، وذلك إلى أكثر حدود اللّامبالاة.

لكنْ إذا كانت العنصريّة أمراً واضحاً في الولايات المتّحدة، فإنّه لا ينبغي مع ذلك نسيان أنّها موجودة دوماً وبأشكالٍ ضمنيّة وأكثر دقّة في أوروبا. بين أوروبا والولايات المتّحدة، أين تكون فُرص نجاح السود والأقليّات الإتنيّة أكبر؟ يكفي النظر بتركيبة البرلمان الأوروبي – أو بأيّ وسيلة إعلاميّة، أو مَكتب مُحاماة أو مجلس إدارة أوروبي – للعثور على الجواب الذي لن يكون طبعاً لمَصلحة أوروبا.

ويُنهي توم ماك تاغ مقالته بما قاله له صديقٌ يعيش في الولايات المتّحدة الأميركيّة في أنّ الأميركيّين، مع ترامب أو من دونه، سيبقون مُتّحدين بعُمق.

***

 (*) مؤسّسة الفكر العربي

(*) نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *