سوط الأحزان

Views: 937

د. جوزاف ياغي الجميل

 

حزن

ضِحكي

ما بيهجّي بقا الألوان

أصلا أنا

مرّة خسرت إنسان

في قسم منّي ضلّ بالتابوت

وهلّق أنا

من بلاد عم بتموت

تَبْغا

بكي وفقر وشقا وأحزان

والجوّ مدمن صار عالدخّان

وعالأرض

جثمان السما مزتوت

من غربتو، صاير إبن لبنان

كلما اشتاق يروح

عا بيروت

يشقّ الركام

وعا وجعها يفوت …

              الشاعر طوني شلهوب

 

***

حزن… عنوان قصيدة للشاعر طوني شلهوب. وحزن شلهوب خريفي بامتياز. فما أسباب هذا الحزن؟ وكيف اختصر الشاعر جرح الشعر والغياب؟

نبدأ بالعنوان: نكرة مفردة تشبه الشاعر، في غربته، بين برج الأحلام، وأقلام الضباب.

كيف يمطر الحزن في عينين بلون الغرق، والهباب؟

كيف ينتحر الوجد في قنديل أنغام المدى المذعور؟

كيف يحترق الندى في تضاريس الشعور؟

وليلكة الموج ثملى بالفتات.

حزن حتى الموت. والموت عاشق غير هياب اللفتات.

حزن، موت، تابوت، جثمان، وجع.. وتطول اللائحة. هذا قاموس الشاعر شلهوب، في “بلاد عم تموت”. والبلاد لم تعد وطنا عاديا. إنها الأم، بل الذات، بل السماء التي فقدت رمزيتها الإيمانية، واكتست لباس الإهمال. وكأننا بالشاعر يصرخ على صليب جلجلته: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟

يفتتح الشاعر قصيدته بضحكة. ولكنها ضحكة فقدت بريقها والألوان. أصبحت بلا حياة. فقدت صوتها، لغتها. أصبحت لغة خرساء، صامتة كأهل الكهف.

يحزن الشاعر لأن وطنه أصبح وطن الموت. لا فينيق فيه، ولا رجاء.

ويسأل القارئ: من يكون ذلك الإنسان الذي بموته دفن جزءا من ذات الشاعر؟

أظنها الأم؛ وهل أغلى على الإنسان من أمه؟

أمس أصيب الشاعر بيتم، حين فقد منبع الحنان. فمات بعضه وبقي البعض الآخر مثخنا بالدموع.

واليوم، ماتت الأم الثانية، بيروت. وبموت بيروت، القلب النابض، مات الوطن.

صدقت، أيها الشاعر المنفي، خلف بحار غربتين: غربة المكان وغربة الذات اليتيمة في حرمانها المتجدد.

لبنان قطعة السماء على الأرض لم يعد لبنان. إنه الجنة السليب، فردوس مفقود، أرض موت وركام وشقاء.

ويتسع الجرح اتساع غربة الشاعر.

بموت بيروت ماتت الأرض والسماء، يقول الشاعر الشلهوبي. تجددت اللعنة الأولى، وكأن الشاعر يستعيد اليأس الجبراني حين قال، إثر وفاة شقيقته: “مات الله إذ ماتت سلطانة…فكيف أحيا بعد اليوم بغير رب؟”

ابن لبنان غريب، في هذا العالم. وغربته شبيهة بغربة ابن الإنسان. وحين يشتاق إلى أمه الثانية، بيروت، فهو لن يجدها إلا في حطام القلب، وركام الأحزان، والوجع البروميثيوسي المزمن.

صديقي الشاعر طوني شلهوب، عميقة محبتك عمق جذور الوطنية التي تجري في عروقك مع الدماء. أليم جرحك وقاتل لأن المأساة أكبر من أن يحتملها قلب شاعر ماتت أمه مرتين. وبموتها  أدمنت الأرض شقاءها، أصبحت لفافة تبغ، في يد مدمن،  ونزفت كرامتٓها السماء.

كيف يدخل الطفل وجع أمه؟

متى يبكي الرجال؟

وكيف يتحول الحب، في القلب، إلى جرح، ونعش، وارتعاشة ضمير يأبى أن يموت؟

صديقي الشاعر، صدق جبران حين قال: المحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق. ولكننا، أبناء لبنان وبيروت، نؤمن بالقيامة، وأن عهد المعجزات لم ينته، وسنبقى نردد، أمام بيروت، جرحنا النازف، قصيدة الشاعر النزاري:

بيروت…

قومي من تحت الردم

كزهرة لوز في نيسان

وللشاعر الشلهوبي نقول:

حزنك ليس حزنا عبثيا. إنه حزن المحبة والوفاء. حزن مفرد بصيغة الجمع، قادر أن يتولد  أحزانا تخرج من رحمها ثورة تطيح بالمجرمين الفاسدين العابثين، لصوص هيكل الوطن.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *