خَيبة ماركس وإنجلز بمُستقبل الرأسماليّة

Views: 800

د. كرم الحلو

“إنّ كلّ الثورات قادت إلى إحلال سيطرة طبقة محلّ سيطرة طبقة أخرى، وهذه الطبقات المُسيطِرة كلّها لم تكُن حتّى الآن سوى أقليّات صغيرة بالنسبة إلى مجموع الشعب المُسيطَر عليه – كلّ هذه الثورات كانت ثورات أقليّة – حتّى حين كانت الأكثريّة تُشارِك، فإنّها كانت تُشارِك في خدمة أقليّة. يجب أن تُشارِك الجماهيرُ نفسها في تحويلِ تنظيمِ المُجتمع تنظيماً شاملاً، وأن تكون قد أدركت بنفسها القضيّة، وفهمت من أجل ماذا تتدخّل. هذا ما علّمنا إيّاه تاريخ الخمسين سنة الأخيرة”.

بهذا الحدّ من الإحساس بالإحباط عبَّر فريدريك إنجلز قبل رحيله في العام 1895 في ما عُرف بـ “وصيّة إنجلز” عن خَيبته إزاء المآل الخائب للإيديولوجيّة الشيوعيّة التي صاغها ومُواطنه وتوأمه الإيديولوجي كارل ماركس. كان الألماني فريدريك إنجلز، الذي وُلد في “بارمن” ألمانيا في العام 1820 من أسرة رأسماليّة، قد التقى بكارل ماركس في العام 1844 في باريس وكوَّنا معاً أشهر ثنائي عرفه تاريخ الفكر. اشتركا في تأليفِ عددٍ من المؤلّفات، وصاغا معاً الفلسفة الماركسيّة والنظريّة الاشتراكيّة ونظريّة الماديّة الجدليّة والتاريخيّة، وأَنجزا في العام 1848 “البيان الشيوعي”، الكِتاب الذي أَلهم الحركات الاشتراكيّة واليساريّة في القرنَين الماضيَين، وفي ضوء أطروحاته الجدليّة سادت تصوّرات فكريّة واجتماعيّة وسياسيّة، وضعت التحوّلات التاريخيّة المُعاصرة صدقيّتها ونجاعتها على بساط البحث، ما طرحَ إعادة قراءتها من جديد والتفكير نقديّاً في الأفكار والمبادىء التي بشَّرت بها وأعلنت على أساسها بزوغ فجرٍ جديد للإنسانيّة.

بماذا سيُجيب إنجلز كلّ الذين حرّفوا نظريّته أو فسّروها خطأً، أو الذين لا يزالون يُراهنون عليها لتحرير المُجتمع الإنساني من الظلم والاستبداد، في ما لو قُدِّر له أن يرى مآل الماركسيّة في المئويّة الثانية لولادته وبعد قرنٍ وربع قرنٍ على رحيله؟ هل كان سينعي نظريّته؟ هل كان سيُعلن استحالة المُجتمع اللّاطبقي أم أنّه سيُكرِّر مقولته “مفهومنا للتاريخ هو مُرشِد للدراسة، وينبغي أن ندرس التاريخ كلّه من جديد”؟ هل سيقول إنّ ما جرى بعد رحيلنا ليس هو ما أردناه أنا وماركس؟ هل سيؤكِّد من جديد أنّ رؤيته كانت صائبة أم أنّها كانت طوباويّة ككلّ الرؤى الفلسفيّة التي ادَّعت تفسير التاريخ وزَعمت تغييره؟

لو كان لإنجلز أن يتأمّل في السنوات المئة والخمسة والعشرين بعد رحيله، لوجَد أنّ التاريخ قد خيَّب كثيراً من مقولاته، وأنّ كثيراً من توقّعاته وتنبّؤاته لم يصمد أمام متغيّرات التطوّر وتحوّلاته. لكنّه سيجد أيضاً أنّ التاريخ ذاته أَنصف كثيراً من تلك المقولات، فأثبت ما ذهب إليه وصنوه الإيديولوجي كارل ماركس من أنّ الرأسماليّة ليست هي النظام المُلائم لسعادة الإنسانيّة ورفاهها، وأنّ تقدّمها وازدهارها سيدفعان الأكثريّة الساحقة من البشر إلى هاوية البؤس والتوحُّش.

سيَجِد إنجلز وماركس أنّ الثورة البورجوازيّة، كما تصوّرا “قد سحقت بالفعل جميع العلاقات الإقطاعيّة والبطريركيّة … وتغلغلت ووطَّدت دعائمها في كلّ مكان … وجرَّت إلى تيّار المدنيّة كلّ الأُمم حتّى أشدّها همجيّة، وجمعت الملكيّة في أيدي أفراد قلائل “وباختصار” خلقت عالَماً على صورتها ومثالها”.

لقد أكَّدت سيرورة التاريخ البشري في القرنَين الماضيَين صحّة هذه التنبّؤات، فالرأسماليّة غزت بمُنتجاتها وتقنيّاتها وأنماط سلوكها وعلاقاتها وأخلاقها كلّ أنحاء العالَم وجهاته، بحيث باتت البشريّة كلّها مُرتبطة ببعضها بوسائل النقل العُملاقة وأجهزة الاتّصال العابرة للقارّات، وتمّ تمركُز رأس المال في أيدي أفراد قلائل، حيث أصبحت ثروة مئات الأثرياء تُوازي أو تفوق ثروة نصف سكّان العالَم الفقراء. سيزداد إنجلز وماركس إصراراً على ما جاء في بيانهما في العام 1848 فيما هُما يشهدان أنّ جحافل الجياع والأميّين والمُهدَّدين بحياتهم وبقائهم، ما فتئت تزداد وباتت تغطّي أكثر فأكثر جغرافيّة عالَمنا ومُجتمعاته، على الرّغم من كلّ التقدّم في وسائل الإنتاج وأدواته. لن يجدا ما يقولانه غير الذي قالاه في بيانهما : “إنّ العامل، عوضاً عن أن يرقى مع رقيّ الصناعة، لا ينفكّ يهوي في انحطاط… ويزداد الفقر بسرعة تفوق سرعة ازدياد السكّان ونموّ الثروة… لقد أصبح وجود البورجوازيّة غير مُتلائِم مع وجود المُجتمع”.

تصوّرهما لـ “الدّين” و”الوطن”

لكنّ ماركس وإنجلز سيجدان في المُقابل أنّ تصوّرهما لـ “الدّين” و”الوطن” “لم يكُن صحيحاً، وإنْ كانا في سنواتهما الأخيرة قد تنبّها إلى دَورِ هذَين العاملَين وتأثيرهما في البناء التحتي الاقتصادي الذي يبقى عندهما “وحده الحاسم في نهاية المطاف”. فقد بيَّنت سيرورة الأحداث أنّ الوطن والدّين لصيقان بكينونة الإنسان، وكانا دائماً فاعلَين أساسيَّين في التاريخ. كما أنّ ثمّة ترابُطاً وثيقاً بين الحراك الطبقي وبين الحركات الوطنيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.

سيَجد ماركس وإنجلز أنّ رهانهما على البروليتاريا ودَورها في إنهاء الصراع الطبقي وقيام المُجتمع الخالي من الطبقات، كونها وحدها المؤهَّلة لهدْم “ظروف وجود التناقض” وهدْم سيادتها هي بالذّات كطبقة قائدة ومُسيطِرة، كان حُلماً خائباً وبعيداً عن الواقع، إذ سرعان ما شاركت هذه الطبقة في غنائم البورجوازيّة وشكَّلت صمّام أمان لاستمرار التطوُّر الرأسمالي.

سيجد إنجلز وماركس أنّ النظريّة التي أراداها أن تكون فاتحة عهد جديد من الحريّة، تحوّلت عقيدة جامدة استباحت حتّى أبسط المبادىء المُعترف بها في المُجتمع البورجوازي، ألا وهي حريّة التعبير والانتقاد. وكان أن تحوّلت “دكتاتوريّة البروليتاريا” إلى دكتاتوريّة على البروليتاريا وعلى المُجتمع بأسره، تُمارِس الهَيمنة الاقتصاديّة والفكريّة والإعلاميّة.

سيجد إنجلز وماركس نفسَيهما مسؤولَين عن تضخيم “العامل الاقتصادي” وتغليبه على العوامل الأساسيّة الأخرى، الدينيّة والثقافيّة والإيديولوجيّة. في حين أنّ الأفكار والثقافات، وإن كانت على علاقة بالاقتصاد وبالطبقة السائدة، هي إرث إنساني يتجاوز الظروف والمؤثّرات التي انبعث في ظلّها، ما ينطبق على التراث الفلسفي والأدبي والفنّي منذ نشوء الحضارة الإنسانيّة إلى يَومنا هذا.

سيَجِد إنجلز وماركس نفسيهما مسؤولين عن العنف الدموي الذي ميَّز الماركسيّة من بعدهما، والذي استمدّ أُسسه من “دكتاتوريّة البروليتاريا” التي قالت بهدم علاقات الإنتاج القديمة بـ “العنف والشدّة”. فكان أن أَسقط العنف كلّ القيَم اللّيبراليّة آكلاً في طريقه حتّى أشدّ المُناضلين بأساً من أجل الديمقراطيّة والمُساواة وحقوق الإنسان.

سيَجِد إنجلز وماركس أنّ الرأسماليّة استطاعت تجاوُز أزماتها حتّى الآن، وتمكَّنت من تحقيق ثَورة في الإنتاج والإعلام وأن تُخطِّط للمستقبل، وقد وقفت وراء أكثر الإنجازات الحديثة في الفكر والعلوم والتكنولوجيا، وقدَّمت نفسها على أنّها الحاملة لمَبادىء الحريّة وحقوق الإنسان والمُدافِعة عن التقدُّم والحداثة، بينما اتّسمت الحركات البروليتاريّة في الغالب بالعنف، وانتهت إلى آفاقٍ مسدودة.

هذا لا يعني أنّه لم يعُد لدى إنجلز ما يُدافع به عن نظريّته، فإذا لم يكُن سقوط البورجوازيّة حتميّاً، كما تنبّأ وماركس، إلّا أنّها تتّجه مطلع هذا القرن نحو مأزقٍ يصعب تجاوزه، فأكثر من أيّ وقت مضى تبدو مقولته في عدم تلاؤم البورجوازيّة مع وجود المُجتمع مبرَّرة وواقعيّة. ما لا يعفي الماركسيّين من إعادة تقويم شاملة للفكر الماركسي، تطرح على بساط البحث كلّ الإشكالات البنيويّة في النظريّة الماركسيّة في العمق – صعود الرأسماليّة وتقدّمها وأزماتها، دَور البروليتاريا المُعاصرة، علاقة الماركسيّة بالعلوم والدّين والفلسفة – إلّا أنّ ذلك ليس مؤدّاه أنّه لم يعُد في فلسفة إنجلز ما نستعيده ونتأمّل في مقولاته وأطروحاته، في مئويّة ولادته الثانية وبعد قرنٍ وربع قرن على رحيله. فلو عاد إنجلز إلى هذا العالَم الذي يندفع بجنون نحو مأزقٍ اجتماعي وقيَمي شامل، نتيجة الاختلال الفظيع في توزيع الثروة العالَميّة، لكان، فيما هو يُسقط الكثير من الأوهام والتأويلات الخاطئة التي أحاطت بفلسفته، يُعيد الالتزام بأكثر أطروحاتها، على الرّغم من كلّ النقائض والنقائص.

***

(*) كاتب من لبنان

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *