فادي قباني… لا تستعجل الرحيل!!

Views: 1336

أنطوان يزبك

 

قراءة في قصيدة “شابتِ الآه…” للشاعر فادي قباني

 

“أنا أعلم أنه سيأتي يومٌ تغيب فيه الأرض عن نطري، وتنسلّ منّي الحياة دون جلبة، مسدلة آخر ستار على عيني

(طاغور)

تبدو لأول وهلة، قصيدة فادي قباني من السعة بمكان بحيث أنها تتسع لكل مشاعر أهل الأرض وما يفكّر به العقل بمعرفة وبغير معرفة، وهي تؤسس أيضًا لعمليّة بحث حثيثة عن معنى أو معانٍ جديدة متفوّقة للموت، كما تطرح ثنائية الموت والحياة، وتعيد إظهار شخصية فادي قباني الشعرية كونه “رجل أوجاع متمرّس بالألم!!”

والأهم من كل هذه الطروحات يظهر الشاعر في هذه القصيدة متمرّسًا بطريقة صياغة الكلمة والبنية الشعريّة التي تؤدي المعنى من زاوية فنيّة لطيفة، قوامها قافية واحدة تكرّرت في كل القصيدة: “صهيل، طويل، عويل، رحيل، العليل”… كانت كافية لتحديد موسيقى القصيدة وترجيع أبياتها؛ ولكن كل هذا ينكفئ أمام ما تمثله القصيدة أمام صيرورة معيّنة، خاصة أن فادي يتكئ في عملية السكب على ديناميكية متصاعدة تؤسس للحيّز الذي به يصف الموت، موته؟! أو موت أي إنسان في عملية الانتقال من هذه الحياة إلى موضع آخر لا يتكلّم عنه فادي، بل بقي سرًّا دفينًا غير معلن؛ سكتت عنه القصيدة بحدّة.

ففي حين يجد طاغور عملية الرحيل عن الحياة تشبه الهمس أو انسكاب نور النهار على الكائنات: “تنسلّ مني الحياة دون جلبة”؛ يرى فادي عكس ذلك تمامًا، يرى الموت مهرجانًا، حفلة صاخبة، أصواتًا تزعق مع قرقعة وتكسّر:

“الصفارات في عويل

تموء صارخةً…”

ومع كل هذا التوليف، يبقى سؤال لا ينفكّ يطرح نفسه مرارًا وتكرارًا: ما هو الموت، وهل هو حلّ لمعضلة شائكة؟ لمَ التعجّل في رسم لوحة الرحيل على شكل قطار أو انتحار تحت عجلات قطار ماحقة للوجود والحياة؟! كلنا نتساءل عن طريقة الخروج من الحياة ولكن أن نطرق هذه المسألة شعرًا فهذا من عادة الرواقيين أو كبار العشاق الذين ينظمون شعرًا وهم ينظرون إلى حتوفهم بعين رائقة ونزهات مرحة!!..

إن من يدخل في روع الشاعر يجد أن فادي وفي لحظة استباقية للحظة الشعرية، وضع اللوم على عالم خاطئ، عالم موازٍ للمادة شكّل في لحظة غادرة غلطة أطاحت بكل المنجزات الروحية، وبنت دربًا من العوسج والأشواك ليقهر كل الانجازات التي ترنو إليها الروح في رحلة الارتقاء الشعري من عالم المادة إلى عالم الروح..

عالم غير متفهم، قتل البراءة الأولى ودفن الأحلام والطموحات المتنوعة، السامية، الأصيلة، السادرة في زمن معلوم عاش في كنف مجتمع لا يحتمل نوتات موسيقى البراءة بل سعى إلى تدميرها في كل فرصة وعلى مفترق كل طريقمن طرق العمر.

في قصيدة فادي تشعر أن العدالة الأساسية، مهدورة فأراد في قصيدته هذه أن يعيد إلى الخلق، صفته الأولى الأساسية السامية النبيلة، وذلك من خلال لحظة الموت، التي يبجلها المحارب الياباني استشهادًا من أجل عزّة الأمة والإمبراطور.

وفي صدر فادي تسكن هذه المشاعر، صدره يحمل الأنفاس التي تعشق الشهادة، انفاس طبيعية تبحث عن فضاءات جديدة قوامها الحق والخير والجمال.

ولكن حين يقول الشاعر:

والقطار..

في مخاض

يستعجلني الرحيل..

بلا تأشيرة..

بلا استئذان..

نشعر أن فادي قباني يتعامل مع تناقضات الحياة من خلال حلّ وحيد؛ يكمن في تصوير الصدفة على أنها سبب الألم الوحيد، ورب سائلٍ هنا: هل تكون الحياة كلها لعبة قدر ولعبة صدف غاشمة؟!..

بلا تأشيرة.. بلا استئذان هل يعني ذلك أن الموت ربض على صدر الشاعر، منطلقًا من لحظة لا شعورية، لذلك ستبدو لنا هذه اللحظة واللحظة التالية الغافية في تضاعيف القصيدة، حلمًا مؤلمًا، بيد أنه جميل للغاية، حلم صوري كرواية، يمضي يتعمّق ويتغذى من تكوينه الغرائبي مشكلا نسيجه الخاص!..

لقد صوّر فادي قباني رحلة الموت كما في رواية، وتحديدًا كما في رواية ليو تولستوي “آنا كارنينا” حين تلقي آنا بجسدها الجميل على السكك الحديد ليسحقها القطار، فينسحق العمر وينسحق الشباب والفتوّة الجامحة. في هذه القصيدة أيضًا يأتي الرحيل سريعًا، عجولا، يلملم ما بقي من الجسد المتهالك:

وشفتين باسمتين

تلثم قرقعة عظم

ووجع لا يستكين

كأنها الأوتاد

المتعبة عمرًا..

تبشّرني بحتفي..

هذا المزج بين الموت والجمالية يذكرنا بلعبة الجثة الرائعة Le cadavre exquis التي اخترعها السورياليون من أمثال جاك بريفير وإيف تانغي في عشرينيات القرن العشرين.

فعلى الرغم من سوداوية المشهد تبقى في المخيلة أحلام القبل والشفاه واللثم والزغردة والعرس والمعزوفة.

إنه حشد يمتزج فيه الفرح بالحزن، الموت بالحياة، الجسد بالجثة، قرقعة العظام مع موسيقى القيامة، صحيح أن آنا كارنينا تموت في نهاية الرواية ولكن لا تزال ماثلة أمام عين اللذة، لحظات شبقية ومتع الجسد في ليالي العشق في سرير الضابط فرونسكي Vronsky، ألم تقابل آنا عشيقها لأول مرة حين كان يمتطي صهوة جواده في مرمح الخيل؟

ألم تبدأ القصيدة بالعربدة وخفقات الخيل:

والليل صهيل

يعربد فوق صهوة صدري

مزيج جميل بين الخيول التي تركض في صحراء الذات، وصفارة القطار، والسفر والحقائب، استعادة لكلّ حروب الأرض ومظالم الأرض وعشاق الأرض وكمائن ومعارك، قطار الفجر وسفر برلك، لورنس العرب ومهاجمة قطار العدو، في فجر الحجاز، حين تبدأ معركة التحرر ونهضة العرب التي طال فجرها ولم يبزغ بعد!!..

فادي قباني لا تستعجل الرحيل؛ فقلمك سيمنعك والكلمات ستمنعك، وخيوط الفجر المنسلّة بعد ليلٍ طويل ستمنعك، ورائحة المسك وزهر الليمون والقهوة الطازجة ستمنعك، ومتعة العودة في برد الطريق بعد الأمسيات ستمنعك… كل شيءفي هذه الدنيا يسير على عجل ما عدا الشعر، فهو يسير الهوينا، لأنه إكسير شاق يتقطّر نقطة إثر نقطة، ليتحوّل إلى صلاة وترياق وخمرة نديّة تنعكس عليها انوار البهجة والفرح والضحكات المتراسلة مع اللقالق والطيور المهاجرة من قارة إلى قارة..

على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة:

تردّد إبريل، رائحة الخبز

في الفجر، آراء امرأة في الرجال،

كتابات أسخيليوس… إلخ

هكذا كان يردد محمود درويش وقلبه ينبض نبضاته الأخيرة.. كان يعلم أن الياسمين لن يغادر المصاطب والشمس لن تتوقف عن الإشراق، طالما ثمة كلمة شعرية حلوة تقال. ولأننا ذكرنا آنا كارنينا نتذكر ما قاله تولستوي ذات يوم:

“الإنسان الذي يقدر على الحب؛ يقدر على كل شيء”،

والإنسان الذي يقدر على الشعر؛ يقدر على تحمّل الحياة مهما كانت صعبة!!..

23- 12- 2020

 ***

*

فادي قباني

*

شابتِ الآه

المتهالكة بلُجّة انفاسي..

ترهبنتُ الألم

والليل صهيل

يعربدُ فوق صهوة صدري ..

صيحات تناديني

والسفر طويل طويل

يجثو بأثقاله على أضلعي

الصفارات في عويل

تموء صارخة..

والقطار..

في مخاض

يستعجلني الرحيل ..

بلا تأشيرة..

بلا استئذان..

يناديني طوعاً

وتنهيدة ساعة

عقاربها تزحف الخطى

الى مصرع

لي فيه موعد أستمهله..

أجمع حقائبي وبقايا ذاكرةٍ

وحلم..

كان يراودني

عن جسدي العليل

الصهيلُ يقترب

القطار ها هنا ..

يخطو بعَجَلٍ..

على مرمى شهقتينِ وحسرة..

وشفتين باسمتين

تلثم قرقعة عظم

ووجع لا يستكين..

كأنها الأوتاد

المتعبة عمرا..

تبشرني بحتفي..

تزغرد ..

تقيم عرس صلبي..

على خشبة الخلاص

لأنهي أواخر لحظي

بمعزوفة عمر قضى

على اشلائي..

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. باقة شكر ملؤها الإمتنان والتحية للأديب الناقد الدكتور انطوان يزبك لما قدمه من محاكاة وافية وعميقة بروح الناقد المخضرم واندماج القارئ العارف بخبايا الغيب بين السطور .
    شكرا من القلب ودمتم منارة للكلمة الراقية
    والشكر موصول طبعا للسيدة الفاضلة الالصديقة الإعلامية المتمرسة استاذة كلود ابو شقرا ولموقع الف-لام الرائد.
    Claude Abou Chacra
    Antoine yazbeck