سجلوا عندكم

الحجّ إلى مونيخ(5) عمرة في سجون ما قبل الفيريس

Views: 634

محمّد خريّف*

سجن الحداثة وما بعدها **

سجن الحداثة ومابعدها لا باب له ولا سياج في مملكة الإنسان ولا إنسان يملك إنسانا، ولا سجن يحرم إنسانا من حرّيته ولا حرّيّة لإنسان يعتدي على حريّة إنسان هكذا كنت أردّد في خاطري وأنا في مدينة مونيخ مدينة الاختلاف للايتلاف و المباني لا تغطّي الأشجار ولا تتعالى عليها لتنطح السّحاب، ولا جديد يسطو على قديم ولا فديم يطمس أو يرفض جديدا.

هي المدينة هدّمت أثناء الحرب العالميّة الثّانية، والعهدة على من أخبر، متجدّدة على الدّوام ولا دوام لحال دون حال في مدينة مصنوعة صانعة قدرها والمصانعفيها لم يأت عليها قصف ولم تدمّرها طائرات الحلفاء كما يقول رفيقي التونسي في رحلتيي وهو من الجيل الثاني يقيم في مونيخ منذ سنين حيثيعمل إطارا مهما في شركة لصنع السيارات، وهو يسأل مثلي ولعله يعرف سرّ استثناء المصانع والمعامل من دمار الحروب على العموم وفي مونيخ على وجه الخصوص؟

هنا الآن في مونيخ من حق الإنسان والطير والزهر فالحشرات وسائر الكائنات البرمائيّة وحتى الجماد أن يعيش في اطمئنان وسلام وحرية، ولا سجن غير سجن القانون المدنيّ يصير طبعا من طباع الإنسان فيؤنسن الطبيعة يجعل منها جنانا مختونة خاتنة وهضابا ثاقفة مثقوفة ولا تجري من تحتها الأنهار بتدبير ربّانيّ بل بتفكير إنسانيّ يفعل في الأرض لا السّماء.

مرتعه الخيال الرّومنطيقيّ الجامح تروّضه فلسفة الحكماء قديما وحديثا وتليّنه ريشة الفنّان اللاّمح ينحت التماثيل ويعنون مسالك الحدائقبعناوين أيقونات الفنّ والخير والسلام أمثال ابراهام لنكولن وزيقي زُمّر الرّوائي الصّحفيّ يستقبلك تمثاله في مدخل الساحة الكبرى ساحة مارينالاتز وكأنك تعثر بالصّدفة على صديق مفقود قريب منك يؤنسك ولا تعرفه من قبل فتمتزج عندك مشاعر الظفر بمن يشاركك في بليّة الطيش الصحفي حيث يلتقي العالميّ بالمحلّي والحداثة بما بعدها، فيحتمي التائه برسم المهابة والشموخ الرّوحي يغمر الزمان والمكان في رحاب العبادة في مارينابلاتز حيت تنحت صور وأشكال من الفنّ القديم على جدران الكنيسةالكبرىوما جاورها من كنائس صغرى و معاهد عبادة تجاور فيها المسيحيّة اليهوديّة.

تمثال زيقي زمّر

 

*

وساحة مارينا بلاتز طريفة طرافة جدّة القدم مبان تحافظ على طابعها المعماري التقليديّ ينفتح فيها المتلد على الطّريف، وتلك لازمة من لوازم المعمار الفني الحداثيّ وما بعده في مدينة الأنفاق والمحطّات والحدائق ولا تسجن الحداثة ومابعدها في سجن أوحد على شاكلة “سجن بوفردة عندنا” فلا سقوف تحدّ من نموها وتطوّرها على شاكلة سقوف قباب لانوافذ لها عندنا وفي ذلك متعة فارقة بجدّة القدم نقرأ عنها في الكتب ولا نعيشها وقد لا يدركها ذوق زائريها من كل الفئات والأجناس وعموم الناس.

وتنفتح الممرّات بين الكنائس والمغازات على ساحة التاريخ في مونيخا فيُحفظ منها بما يشرّف ألمانيا ويسمو بمعاني الخير الإنساني فيها دون أن تمّحي من الساحة الكبرى منصّة من حجر يعلو واجهتها تمثالان لأسدين لعلهما يلمّحان إلى شجاعة الألمان وتلك صفة يعشقها العرب، والمنصة كالساحة يقال إنها تشهد لهتلر -ولم يتردّد على مسمعي اسمه أو لقبه أثناء آداء عمرة ما قبل الفيريس في مونيخ ، وهي تشهد ولا تتكلّم بل تذكّر دون تصريح بإلقاء الفهرير خطابه الشهير وسط جماهيره وأنصاره وهو في طريقه إلى الصّعود إلى سدنة الحكم في مابين الحربين.

وعلى كل فالمسافة بين النقش على الحجر والنقر على الشاشات الأليكترونيّة لا تقدّر بالأميال بل بفاصلة بين ما كنّا ونكون ؟

( يتبع)

***

* كاتب من تونس مونيخ- مارس/ أفريل 2020

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *