جان سالمه… رحيل “الملاك الحالم”

Views: 91

أنطوان يزبك

 

“أنا لا أموت بل أدخل الحياة”

( القديسة تريزيا الطفل يسوع)

 

إن ساعة واحدة على الرحيل إلى دنيا الحق والآخرة لا تفقدنا التفكير في هذا الملكوت الذي يمتلك بنية خفية عنا، ولو أن الموت يستطيع أن يرسم لنا حدودًا؛ لكنا في بداهتنا لا نملك القدرة على رؤيته إلا حين يدق الأبواب ويدقّها بحدّة!!

في آخر سنة 2020 رحل عنا جان سالمه، رحل الإنسان الطيّب الذي لم أشاهده في كلّ مرّة إلا والابتسامة تعلو وجهه، فأطلقت عليه لقب “الملاك الحالم”، وهو الإنسان السخي، حاتم الطائي القرن الحديث الذي قلت فيه في مقدمة كتابي عنه[1] : “وفي مزدحم شؤون الحياة ومشاغلها، وسط دوّامة متغيرات البشر والأمم الرهيبة، يتنافس الناس إلا أقلّهم لكي يحلّوا التفرّق والاختلاف محلّ الاجتماع والإلفة.

بيد أن جان سالمه ارتأى أن ينأى بنفسه عن كل ذلك، ويبدع كونًا خاصًا به، فلم تصبه لوثة التصنيف ولا داء التشكيك.

إنه قادر على التجاوز، باقٍ كما كان في سنيّ الطفولة: حالمًا، نقيًا، تقيًّا، زاهدًا، علمًا…

(…) عرفت جان سالمه في لقاء حول كتاب ومقالة وأدب ونقد؛ ولحظة رأيته، علمت فورًا ما يحرّك قلب هذا الرجل بشدّة. ففي حناياه نورٌ يتسابق والدهشة الشعريّة ونبضٌ قويّ يعمد إلى ربط السماء بالأرض وذلك من خلال قناة واحدة، قناة السلام الداخلي ولحظات الصفاء، حيث تتّسع الصداقة بكل تجلياتها فيرتبط به من يتقرّب إليه ويعرفه حق المعرفة، برباط المحبة والمودة، فيدخل حلقته الأدبيّة الراقية والأخّاذة فلا يفارقها أبدًا، بل يطيب له المكوث في “عدن” الأدب لتصبح “العروى الوثقى” حقيقة وواقعًا”.

أجل هذا هو جان سالمه رجل المودة وحُسن الأخلاق، حاضر دومًا لاستقبالك في كنف روحه المعطاء، يغدق عليك التقدمات: هدايا، كتب متنوعة من تأليفه ولكتّاب آخرين، يحدثك في كل الشؤون الثقافية والاجتماعية والإنسانية والعائلية ويتطرّق إلى كل المواضيع التي تهمّه وتهمّ الناس رابطًا أحداث الأرض بالسماء وبالعكس، حتى تشعر أنه شرع في بناء فردوس أرضي يبدأ فيه حياة التزهد والعشق الإلهي باكرًا.

أجل رحل كاتب رواية “الأنفس الكبيرة” ، وهو يبحث عن عالم جديد لرواياته، حيث تنزرع فيه شخصيات الرواية وتكوّن الواقعيّة الجديدة التي تشبه أفلام السينما، سينما هوليوود التي أحبّها جان سالمه وواظب على حضور أفلامها في شبابه، وتأثر بجمال ممثلاتها فأراد للإناث في رواياته أن يتشبهن بتلك الممثلات؛ ويمشين ويتبخترن مثلهنّ؛ في عالم غواية نظيف لا يشبه في شيء خفايا وخبايا بيروت الخمسينات والستينات التي أوت كل أنواع الرذائل والموبقات، فأحبّ جان سالمه أن يكوّن بُعدًا رديفًا في الأدب يشبه ذلك العالم المبهج في روايات “بوريس فيان” Boris Vian، ورومنسية فرسان وأميرات وملوك القصور في روايات “الكسندر دوما”، وقصص “بيار بنوا” Pierre Benoît الواقعية الصارخة، ونقده لمحمود تيمور من خلال تتبعه لدقائق كتاباته بشكل منظم، وعلمي ودقيق.

نعم هكذا كان جان سالمه سابحًا في عالم الكتب، وعالم الأحاسيس المنظورة وغير المنظورة يحاول الدخول إلى عوالم الكتّاب ويقرأ الحياة من خلال عيونهم وأذهانهم، والذي يتعمّق في قراءة جان سالمه، لا بد له وأن يلاحظ في كل تضاعيف كتاباته، شغفه القوي بالكاتب النمساوي ستيفان زفايغ Stefan Zweig، وقد أخذ عنه، حدّته وتصدّيه للمظاهر الواهية التافهة في المجتمع وعبوره من خلال الكتابة إلى مقامات فكريّة ونقديّة لا تعترف بمحرّمات وموانع؛ لا بل تتحدّى كل شيء من أجل الثورة الفكرية والرقي البشري.

لقد انطبع في ذهن جان سالمه نموذج ستيفان زفايغ الذي يدأب على نحت شخصيات تحارب الواقع المرير وهو في ذلك يستعمل ما يوصف بـ “الفن الجميل”، الفن الراقيّ، المحيي والشافي الذي ينقّي المجتمع من أدران وقذارة الموبقات التي تفتك به.

أجل مع رحيل جان سالمه انفضحت الحياة وبدت سطحية، فارغة، ذنوبها أكثر من فضائلها، لأنها لا تكافئ أحدًا لا بل تعاقب من كانوا في صفوف الأخيار، وكل موت هو مناسبة للتفكّر والتهيّب، وفي ذلك ما يقوله شوبنهاور:

“تستطيع أن تقارن الحياة بقماشة مطرّزة؛ حيث لا يقدر المرء أن يرى في الجزءالأول منها سوى الوجه الظاهر، ومن ثم في الجزء الثاني من حياته يرى باطن القماش ولو كان بشعًا؛ بيد أنه يدرك حينها أن بإمكانه أن يتعرّف على كيفية ترابط الخيطان التي شكلت النسيج”.

جان سالمه عرف في كل سنيّ حياته ما هي حقيقة النسيج؛ أدرك أن النسيج الحقيقي هو الذي بناه شيئًا فشيئًا في علاقاته مع الناس، في روابطه مع أهل الفكر والأدب والعلم والاجتماع، في الجوائز التي وزعها على وجوه وأعلام فكريّة مكرّمًا كل من استحق التكريم؛ في إطلالته الدائمة في الصفحة الثقافية في جريدة الأنوار؛ وفي كل عمل قام به في حياته؛ والآن حين خلد إلى نومته الأخيرة، عاشت معه أعماله وفضائله الكثيرة؛ وفاحت باقات العطور من أزاهيره الضاجّة بالحياة والزهو والمحبّة والصداقة والذكريات التي لا تموت!!..

“لا دار للمرء بعد الموت يسكنها،

إلا التي كان قبل الموت يبنيها!”

                  (الإمام علي)

***

[1] “جان سالمه الملاك الحالم”؛ دار الأجيال للدراسات والنشر 2015

(Diazepam)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *