سجلوا عندكم

أيها العقل مرتع القدرات اللامتناهية!!

Views: 849

أنطوان يزبك

يقول إيمانويل كانط:

“عقولنا لا تأخذ القوانين من الطبيعة ولكنها تفرضها على الطبيعة”.

منذ بداية عقد الثمانينات في القرن الماضي، أخذت دراسات علم النفس وعلم الأعصاب منحًى جديدًا، هدفه تحديد الوظائف الحيوية والعملية في الدماغ البشري وذلك على نطاق واسع: يشمل الأعراض النفسية والجسدية على حدّ سواء، ومع اتباع التقنيات التحليلية، أخذ يبرز في هذا المجال إطار جديد لدراسة المشاكل والأمراض والعقد النفسية من أجل تحديد العلاقات مثلا بين العصاب كمرض نفسي والاستلاب من جهة وعلاقة كل ذلك بالعقل وتكوينه وكيفية عمل الخلايا الدقيقة “العصبونات” les neurones، وما يطلق عليه في عموميات الكلام الشعبي “كهرباء الرأس”.

كل هذه الدراسات إن أفضت إلى شيء، فهي تلقي الضوء على العقل الإنساني، أكان يعمل بقدراته الميكانيكية، العضوية، اللحم والدم والأعصاب والمادة الرمادية، أم أنه يسير بقدرة الروح التي تحرك كل هذه المواد المركبة بقدرة قادر ودقة لامتناهية!!

إيمانويل كانط

 

وبالعودة إلى ما قاله إيمانويل كانط؛ نستعيد جدلية قائمة منذ الأبد حول الفرضية قبل النظرية أم العكس، أم أن هكذا جدليات لم تعد صالحة في العصر العلمي البحت، عصر التواصل والموجات “السيبرناتيك” حيث تتواجد كل العناصر المادية الخاصة التي تتهيأ لتحلّ محل كلّ خيال وكلّ حلم، وذلك تمهيدًا لفصل الإبداع الإنساني عن الإنسان وتحويله إلى “روابط” مسيّرة لا روح فيها ولا إبداع ولا عبقرية وتاليًا؛ استحالة الخلق وإنتاج المعرفة في صلب معاني الإنسانيّة… فهل المعرفة وإنتاجها حكرٌ على طاقة معيّنة مجهولة من العلم حتى الآن؟!

إن إشكالية المادة والروح وتفاعلهما؛ هي إشكالية تفسح في المجال أمام ما يرينا الجسد من أسقام وعلل؛ هي في أساس المرض النفسي الذي يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى مرض جسدي، وحيث تكون المشاكل النفسية والأمراض المستعصية كالشيزوفرينيا والتي لا تلبث وأن تتحوّل إلى مرض قاتل؛ يقضي على المريض عينه  بالانتحار وعلى أفراد المجتمع بالقتل، حين يتحوّل المريض المنفصم إلى قاتل يهدّد الناس من حوله، حينها تنتفي منطقيّة العمل العقلي، وينفرط عقد المعرفة وتتهاوى الإنسانية ويصبح الإنسان أقرب إل العدم، حيث لا يصحّ حتى أن يقارن بالحيوانات، بحيث أن الضياغم والأسود لا تقترف ما يقترفه الإنسان الفاقد لعقله وتاليًا لأهليته الإنسانية.

أجل ثمة تقاطع بين العقل والمادة، الروح والجسد، الطاقة الحيوية والطاقة الماديّة، ومنهم من يتحدث عن سيّالات كونيّة تحرّك هذا الكون الشاسع كما تحرّك البشر والكائنات وصولا إلى أصغر عشبة نابتة في الأديم.

كارل ياسبرس

 

في الطب النفسي لدينا براهين قاطعة حول هذا التمازج بين الروح والجسد نذكر منها بعض الأمثلة نقلها الأطباء المعالجون في أماكن عدة من العالم:

-أرسل ذات مرة جرّاح مرموق في ميدان الطبّ والعمليات الجراحية؛ فتاة مصابة بعلّة في الغدّة الدرقية، سببت لها تضخمًا كبيرًا، إلى طبيب نفساني بغية التخفيف عنها وإراحتها من مخاوفها لكي يتمكّن من إجراء عملية جراحية لها وهي في وضع مقبول ومتّزن، إذ كان نبضها سريعًا ومضطربًا ممّا لا يسمح لها بإجراء العملية وهي في هذا الوضع العصبي الدقيق.

أخذ الطبيب النفسي يعالج المريضة بحسب ما يقتضيه الطب النفسي، وذلك من خلال قيام الطبيب بعملية تحليل نفسية للمريضة، لمدّة ثلاثة أشهر، وبعد أن هدأت الفتاة واستكانت وانتظمت نبضاتها جرّاء تبدّد مخاوفها، عادت إلى الطبيب الجراح ليكتشف أنها قد شفيت إذ اختفت عوارض تضخم الغدة الدرقية ولم تعد بحاجة إلى إجراء العملية!!..

يطالعنا الطب الحديث، النفسي والكلاسيكي بعشرات الأمثلة، حول عمليات الشفاء من خلال تأثير النفس (أو العقل ضمنًا) على الجسد، تمهيدًا للشفاء التام، بينما يصرّ البعض على أن هذه الشفاءات ليست سوى “هراء فلسفي” علمًا أن العوارض لم تكن موجودة في الأصل بل هي تأتي نتيجة أمراض غير ظاهرة ولا عوارض لها بالمعنى الطبي الحقيقي والمادي، بحيث تتفاوت العوارض عند الناس كما يحصل مثلا مع نسبيّة الشعور بالألم.

لذلك لا بد لنا من التساؤل إلى أي مدى يستطيع الوهم أن يؤثر على العقل، وكيف يحوّله إلى العوبته؟

إن من يعقد الآمال على العقل لمواجهة الأوهام والخيال الجامح المضلل، يجد نفسه حيث تنسحب كل الاحتمالات في حالة ضعف ووهن فكري إزاء ما يمكن أن يفعله العقل في حال جنح نحو فضاء من الضياع ونحو مغالطات الفكر والخيال والأوهام عندها تصبح كل الفرص ضائعة؛ إذ لا شيء بقادر على محاربة العته وفقدان أعمال الحواس الطبيعية؛ ولا شيء مهما بلغ أعلى درجة من التطوّر بإمكانه أن يحلّ محلّ العقل.

 

لقد كان العقل في البداية المحفّز لانطلاق الفكر، ذلك أن الفلسفة كانت هي أمّ العلوم والجامعة لكل الأفكار التي سعى الإنسان للوصول إليها بهدف المعرفة. يقول  كارل ياسبرس في كتابه “عظمة الفلسفة” في الصفحة 62:

“لقد انبثقت الفلسفة بدءًا من الفاعلية الروحية ككل أصيل، إذ كان الفكر والشعر يتّحدان بالدين والأسطورة، اتحادهما بالحياة والعمل.

وهذه الدوافع كلها لم تكن تؤلف في الأصل إلا وحدة ظلت، بعد الانفصال، بمثابة فكرة و مثل أعلى.

فالفيلسوف يستمرّ في أولئك الذين انفصلوا عنه وهو لا يزال حيًا في ذواتهم.

إن أكثر من فيلسوف يتمسّك بمظاهر التنبؤ، بحرمات الجهر بالرسالة، بلهجة الإنسان الملهم من الله (امبدوقل)، وأكثر من فيلسوف يحتفظ بالشكل الشعري (بارمنيد).

وأكثر من فيلسوف يستند إلى الأساطير وهو يكافح الفكر الأسطوري. إنهم بأنفسهم ضروب من الأساطير (أفلاطون)”…

هذا الإنسان الذي بإمكانه التوصل إلى توليفة من العقل والشعور هو إنسان راقٍ ومتفوّق، لا من حيث الصيرورة فحسب بل من حيث إدراكه لذاته الواعية في كلّ حين وكلّ آن، لا يستطيع أن يتنكّر للطاقات الموجودة فيه، وهو أمام تحديات كبرى، منها اكتشافات جديدة، حول خلاياه العصيّة على الفهم في عملها وتركيبها؛ ومن كانط إلى ياسبرس، تستمرّ المحاولة الحثيثة في فهم هذا الإنسان، الذي يبدو قويًا في لحظة ما ثم ينال منه الوهن في لحظة أخرى ويصبح مثل صحراء لا تستهوي أحدًا.

أنطون تشيخوف

 

يصف أنطون تشيخوف الإنسان الذي طوى لأيام بعد عمر مديد قائلا:

“أرى في أولى علامات الشيخوخة، أن تتحوّل من إنسان يحلم؛ إلى إنسان يتذكّر”.

هل نحن فعلا في مسافة بين الحلم والذكرى؟ أم أننا مجرّد كائنات تعيش في فضاء من ذكريات كانت لكائنات غيرنا ومن ثم ورثناها بعد مشاق خوض الحياة على كثرة التناقضات التي فينا والتي تفرزها الحياة بعلمنا أم من دون علمنا؟!!..

لقد نما الفكر وأزال كل المعوقات التي تقف حجر عثرة في سبيل تطوّره، العقل هو مصدر الشرع الأول، ولا حقيقة سوى من خلال أحكامه لكن تبقى مسألة مهمّة علينا أن نأخذها بعين الجد وهي اتجاه البوصلة التي تتحكّم برحلتنا؛ سبق للفيلسوف سينيكا أن أشار إليها عندما قال:

“لا يوجد رياح مؤاتية للذي لا يعرف إلى أي ميناء عليه أن يتجه”.

وعليه لتكن وجهتنا العقل دائمًا!!..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *