النِقل والزعرور
خليل الخوري
جيلُنا، نحن الذين عايَشنا الحرب، عندما كنا في مقتبل العمر وعزّ الشباب، نترحّم على تلك الأيام بالرغم من قساوتها. وليس مُستغرَباً أن تستمِعَ إلى الكثيرين منّا يُردّدون: «يا ما أحلى الحرب» قياساً إلى هذه الأيام المعصوبة بالحزن والأسى و»التعتير».
في الحرب كان دمارٌ لا حدود له. وفلَتانٌ لا مثيل له. وإجرامٌ جاوز كلّ مألوف. هذا صحيحٌ كلّه. ولكن كان ثمّة شيء عظيم يُدغدغ أمنياتنا إسمه الأمَل. (Diazepam) كنا نأمل في أنّ ثمّة ضوءاً في آخر النفق. كنا نُمنّن النفس بأن تلك الأحداث المُفجِعة لا بدّ أن تنتهي بولادة لبنانٍ جديد ينبثق من الملجأ ومن المتاريس ومن دم الشهداء الذي يستصرخُ عدالةً، وأنّ هذا اللبنان سينطلقُ من إيجابيّات الكثيرة للبنان الذي كان، مع إضافات مهمّة من الحداثة والتطوّر والتقدّم.
وثَبُت لنا، باليقين، أننا كنا على خطأ فادح.
عملياً وُلد لبنان الجديد، ولكنه وُلدَ مسخاً مُخيفاً. أسهم في هذه الولادة المشوّهة تسليم البلد إلى الجهات ذاتها التي ضرَبَته وأمعنت فيه دماراً وتهديماً.
لماذا؟ لأن المسخ الذي وُلد من رحم المعاناة تمّت ولادته على أيدي قابلات غير قانونيّات، دأبهنّ خرق القانون والدوس عليه، أعني الميليشيات التي، خلافاً لأي قانون أو عرف أو تقليد، أُسنِدَت إليها مقاليد الأمور برعاية الوصي السوري الذي تشرعَن وجوده في إطار ما كان يُعرَف بقوّات الردع العربية، فـ»طفَّش» قوّات سائر البلدان التي كانت مُشاركة في الدور المهم لمساندة لبنان في تخطي الحرب وتداعياتها… فلم يلبَث أن بقي السوري وحده في الساحة برعاية أميركية وموافقة وتغطية عربية شبه شامِلة. وراحت الميليشيات تجول وتصول، تحكم وتنفّذ، تصوغ القوانين وتُطبّقها وفق أمزجة قادتِها وضبّاط وقيادات قوى الوصاية، فنقلَت قانونها وهيمنتها من الشارع إلى المقارّ الرسمية، واستبدلَت اللباس الكاخي بعقدة الرقبة والبزات الأنيقة، وما كانت تفرضه بالقوة الغاشِمة باتت تُحقّقه تحت ستار الشرعية.
وتلك حقبةٌ قاسية جداً فرضت خلالها الميليشيات مشيئة السلاح والإعتداد بالقوّة وحتى بالتفسير المزاجي للقانون فصحّ القول مع بعض التحريف: «أيتها الشرعية كم من الجرائم تُرتكب باسمكِ؟». وكان أن فرَّخَت طبقة الموالين للخارج، والمؤتمِرين بأوامره حتى الخنوع والإذلال. وبدأ تقاسم المال الحرام مع قادة وضباط الوصاية وأيضاً إمتداداتهم خارج الحدود.
إنّ ما بعد الحرب كان أقسى من أيامها رغم فواجعها وكوارثها… خصوصاً مع طبقة الأثرياء الجدد Nouveaux Riches الذين توسّلوا السلطة والنفوذ لإستباحة كلّ شيء، حتى المحرّمات!
… ولم يكن ينقصنا سوى فيروس كورونا ليكتمل نِقلُهم بالزعرور.