دبس العنب، رحلة العنقود إلى الحلاوة
يوسف طراد
تقطن الشمس صيفًا في (كروم العتاق، الشمشوم، مطر، عين أبو فيصل والعفص)، فيلفح سحرها العناقيد، ويفكّك سر أشعتها الرصد عن حبوب مشتهاة، كشفاه عاشق يتمتم لفكّ طلامس حبٍّ لا ينتهي.
تجتمع الهمم في شهر أيلول بعد حفلة المجون بين الشمس والعنب، فتمتلئ السلال والصناديق (الخشّابية) بعناقيد ذهبية اللون، راحلة بطاعة إلى معصرةٍ محفورة بالصخر، تنتظر عند أسفل ساقيتها الصغيرة (خلقينة) أي حَلّة من نحاس مبيّض، متلهفة لتحتضن عصيرًا يفوح من عناقيد، تدوسها أقدام حافية لصبايا مغناج، تتلوى خصورهنّ على وقع موسيقى صامتة تدخل شغف الشباب قبل آذانهم.
ينصبُّ عصير العنب مستعجلًا في (خلقينة) متلهفة لاستقباله، جاهلًا ما ينتظره، فيَلْتقي مع كمية من (الحوّارة) وهي نوع من تراب شديد البياض في حوار طرشان وحراك عنيف. تضرم النار تحت الحَلّة لتزيد صراع الخليط صخبًا كأنك ترى “الواقعة الحمراء”.
بعد إخماد النار، تُغطّى الحَلّة بحِلّة ليوم كامل، فيتصافى العصير مع (الحوّارة) عاقدًا صلحًا مؤقتًا، يأخذ كلٌّ مكانه حسب ثقله النوعي، يطفو العصير على وجه الحَلَّة عاكسًا النور عند كشف الغطاء، منتظرًا النار.
بعد إنتهاء معاهدة الصلح بين العصير و(الحوّارة)، تذهب (الجمذيمة) أي عماشيل العنب إلى سجنٍ في كيسٍ من الخيش، يعلوه حجر كبير، تهمة (الجمذيمة) بقاء نتف من عصيرٍ في عروقها، وتبقى في سجنها الانفرادي، إلى حين رحيل عصيرها عنها وصدور مذكّرة إخلاء سبيل لترمى حرّة من دون قيود في التراب.
رغم الكونفدرالية المثالية بين (الحوّارة) والعصير، تأتي المؤامرة لفصلهما، تُهَجَّر الحوارة الى أرضٍ بعيدة، ويعود العصير إلى المرْجل بعد تصفيته من التراب، ليتلقّى نارًا لا تطفأ، ويصبح إسمه (شليغينة).
فعل حرارة المرٍجل المرتفعة يجعل (الشليغينة) تهمُ بالهروب من جهنمه. فكلّما حاولت الخروج، تلقّت الصفع من غصن وزّال، أو غصن (عراطة) أي سنديان يابس خالٍ من الأوراق، لتهمد وتعود إلى النار التي هي أرحم من الصفع وهكذا دواليك، هذا العذاب المضني جعلها تفقد بخارًا ناشرًا في الأجواء رائحة أسطورية، ويفقد العصير المصفّى ماء وجهه، وينحل جسمه كأنه خارج من جلسة (ٍسونا)، فيصبح لزجًا طيب المذاق.
دبس العنب! هل سنشتري طعمك الرائع من زمن مفقود، أم ما زلت في تراب مجبول بعرق جبين وخير فائض رحل ويا ليته يعود.
